424

واُخرى يُفترض الجهل به، فإن كان معلوماً فيقال بالتفصيل بين ما إذا كان عباديّاً فيبطل؛ لاستحالة التقرّب به. وأمّا إذا كان توصّليّاً فيصحّ لو اُحرز الملاك وإلاّ لم يصحّ؛ لعدم العلم باستيفاء الملاك به. وأمّا مع الجهل فقد يقال بأنّ المجمع يكون صحيحاً ولو كان عباديّاً، وسيتّضح الحال في ذلك.

 

الصلاة في المكان المغصوب مع الجهل:

ثُمّ إنّ المشهور قد أفتوا بصحّة الصلاة في المكان المغصوب مع الجهل به بينما أفتوا بالبطلان في صورة العلم، وهذه الفتوى هي التي أثارت الإشكال المعروف والذي أجاب عليه في الكفاية بعدّة أجوبة(1)، وهذا الإشكال هو: أنّه لو قلنا بجواز الاجتماع فلتصحّ الصلاة مطلقاً، وكذا لو قلنا بالامتناع مع تقديم الأمر، أمّا مع تقديم النهي فتتقيّد الصلاة بالمكان غير المغصوب، فتبطل في المكان المغصوب مطلقاً، فما معنى التفصيل؟!

وما قيل أو يمكن أن يقال في مقام تخريج هذه الفتوى عدّة وجوه:

الوجه الأوّل: ما اُشير إليه في الكفاية(2)، وحاصله مركّب من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الأحكام إنّما تكون متضادّة ومتنافية بمرحلة فعليّتها لا بمرحلة وجودها الإنشائيّ.

الثانية: أنّ الحكم ما لم يصل لا يصبح فعليّاً.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 246 ـ 248 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(2) أشار إليه في الكفاية بقوله في ص 248 بحسب الطبعة الماضية: وأمّا لو قيل بعدم التزاحم إلاّ في مقام فعليّة الأحكام لكان ممّا يسعه وامتثالا لأمرها بلا كلام.

425

وهذا ينتج أنّه بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي إنّما يكون الامتناع والتقديم فيما إذا كان الأمر والنهي فعليّين، وذلك بالوصول وإلاّ لما كان بينهما تضادّ، إذن فلا مانع عن التمسّك بإطلاق الوجوب بلحاظ حال الجهل بالحرمة.

ويرد عليه:

أوّلا: النقض بأنّه لو تمّ هذا للزم جريانه في سائر موارد التعارض، فلو ورد (أكرم كلّ هاشميّ) وورد (لا تكرم أيّ فاسق) وقدّم الدليل الثاني على الأوّل لمرجّح مّا فلا إشكال في سقوط الوجوب عن إكرام الهاشميّ الفاسق وإن لم يُعلم بفسقه، مع أنّ نفس البيان يأتي هنا.

بل لو تمّ هذا الكلام للزم إسراؤه إلى مثل موارد التخصيص أيضاً، فلو قال في الدليل الثاني: (لا تكرم الهاشميّ الفاسق) فهنا أيضاً يمكن أن يقال: إنّ الخاصّ إنّما يقيّد العامّ بالمقدار الذي يكون مضادّاً له، والتضادّ إنّما يكون بلحاظ الفعليّة التي هي عند الوصول، ومع عدم العلم بالفسق لم يتمّ الوصول.

وثانياً: الحلّ بأنّه لو اُريد بالفعليّة التنجّز بحكم العقل وترتّب العقاب على الترك منعنا المقدّمة الاُولى؛ إذ يكفي في التعارض أن يكون على طبق الحكم الحبّ والبغض، فيتمانعان وإن لم يصل إلى مرحلة التنجّز. ولو اُريد بالفعليّة الإرادة والحبّ الفعليّ في مقابل مجرّد إنشاء المعنى باللفظ منعنا المقدّمة الثانية؛ فإنّ كلّ دليل ظاهر في أنّ المولى في مقام التحريك فعلا، فيكشف عن فعليّة الحكم وإن لم يصل الدليل(1).


(1) ولو اُريد بالفعليّة كون المولى في مقام التحريك فعلا بالنحو الذي لا يعقل اجتماعه مع البراءة الشرعيّة منعنا المقدّمة الاُولى؛ فإنّ التعارض والتمانع يحصل بما هو أقلّ من ذلك، أي: بمجرّد الحبّ والبغض بالنحو الذي يجتمع مع البراءة الشرعيّة.

426

الوجه الثاني: أيضاً مستفاد من كلمات المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1)، لكن لا بنحو التبنّي بل بنحو الإشارة، وحاصله: أنّ الأحكام الشرعيّة لا إشكال في أنّها تتبع المصالح والمفاسد. وفي هذا الوجه يُدّعى أنّها تتبع المصالح والمفاسد لا بما هي هي بل بما هي موجبة للحسن والقبح، والمصلحة والمفسدة ما لم تصلا لا توجبان الحسن والقبح.

وهذا الوجه أيضاً غير صحيح ويرد عليه:

أوّلا: النقض السابق.

وثانياً: أنّ هذا البيان لو تمّ لاختصّ بالجهل بالموضوع دون الجهل بالحكم؛ لأنّ العلم بالمفسدة كاف في تأثيرها في القبح، مع أنّ الذين أفتوا بصحّة الصلاة مع الجهل لم يفرّقوا بين الجهل بنحو الشبهة المصداقيّة والجهل بنحو الشبهة الحكميّة.

وثالثاً: أنّ ما قام عليه الدليل باعتبار حكمة المشرّع إنّما هو تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد لا لهما عند تأثيرهما في الحسن والقبح، ومن الواضح أنّه ليست كلّ مصلحة مستتبعة للحسن، ولا كلّ مفسدة مستتبعة للقبح، فما هي النتيجة المقصودة من القول بتبعيّة الأحكام للمصلحة والمفسدة بما هي مؤثّرة للحسن والقبح؟ إن كان المقصود تخصيص الحكم بفرض وصول العنوان الذي فيه مصلحة


(1) مستفاد من قوله ـ في الكفاية، ج 1 ص 247 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ ـ: «بناءً على تبعيّة الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً، لا لما هو المؤثّر منها فعلا للحسن أو القبح؛ لكونهما تابعين لما عُلم منهما كما حقّق في محلّه»، فإنّ هذا الكلام ـ كماترى ـ يشير إلى إمكانيّة البناء على خلاف هذه التبعيّة، أي: البناء على تبعيّة الأحكام لما هو المؤثّر فعلا للحسن والقبح لا الأقوى منهما ولو غير المؤثّر في الحسن والقبح، والتأثير في الحسن والقبح تابع للوصول.

427

أو مفسدة فهذا لا يكفي في ترتّب الحسن والقبح، وإن كان المقصود تخصيص الحكم بفرض العلم بنفس المصلحة والمفسدة فهذا واضح البطلان، فإنّ العلم بالمصلحة والمفسدة إنّما يأتي غالباً من قِبَل نفس دليل الوجوب والحرمة.

الوجه الثالث: أيضاً لصاحب الكفاية، وهو مبنيّ على أصل موضوعيّ فرغ منه فيما تقدّم، وهو ثبوت كلا الملاكين في المجمع، فيقال: إنّه مع العلم بالحرمة تبطل الصلاة وإن كان الملاك ثابتاً؛ وذلك لأنّ الحرمة أصبحت منجّزة فيقبح العمل، ولا يمكن التقرّب بالقبيح. وأمّا في فرض عدم تنجّز الحرمة فتصحّ العبادة؛ لأنّ صحّة العبادة تتوقّف على أمرين: أحدهما كون الفعل واجداً للملاك وهو ثابت، والثاني أن يأتي به بداع قربيّ وهذا ممكن في المقام، بأن يأتي بداعي الملاك ـ بل وحتّى بداعي الأمر، فإنّه يتخيّل أنّه مأمور به(1) ـ ولا قبح يمنع عن التقرّب؛ لأنّ القبح من شؤون تنجّز الحرمة لا واقع الحرمة.

وقد اعترض السيّد الاُستاذ(2) على ذلك بما يرجع حاصله إلى أنّ صحّة العبادة والتقرّب بلحاظ الملاك إنّما يكون فيما إذا لم يكن الملاك مغلوباً ومندكّاً كما هو المفروض في المقام؛ إذ المفروض هو الامتناع وتقديم جانب النهي، وهذا يعني أنّ المصلحة مندكّة والمحبوبيّة مضمحلّة، فلا يمكن التقرّب بهذا الفعل إلى المولى.

وكأنّه ـ دامت بركاته ـ يفترض ثلاثة شروط في صحّة العبادة: الملاك،


(1) علّل في الكفاية إمكانيّة حصول قصد الأمر بأنّ المجمع واجدٌ لنفس الغرض الذي وجب لأجله العمل في غير المجمع، وعدم شمول الإطلاق لهذا الفرد إنّما هو لأجل المانع لا لعدم المقتضي، فنفس الأمر بالطبيعيّ في غير مورد المجمع كاف في الدفع نحو الإتيان بالمجمع؛ لأنّنا نعلم أنّ المجمع يحصّل غرض المأمور به.

(2) راجع المحاضرات، ج 4، ص 236 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.

428

وصلاحيّة التقرّب، وقصد التقرّب، ويقول: إنّ الشرط الثاني غير موجود.

وهذا الاعتراض لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ صلاحيّة الفعل لأن يتقرّب به مربوطة بمقدار إحراز المكلّف للجهات لا بالجهات الواقعيّة، ولهذا قد يكون الشيء مبغوضاً محضاً في الواقع ولكن في وجهة نظر العبد يكون مقرّباً فيصحّ التقرّب به، مثل إكرام عدوّ المولى بتخيّل أنّه ابنه، فكلام صاحب الكفاية صحيح إلاّ في أصله الموضوعيّ وهو افتراض ثبوت الملاكين في المجمع.

وهذه الوجوه الثلاثة كلّها مبنيّة على القول بالامتناع، وأمّا على الجواز فكأنّه لم يستشكل صاحب الكفاية في الصحّة حتّى على فرض العلم بالحرمة.

الوجه الرابع: ما عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وهو مبنيّ على جواز الاجتماع، وكأنّه يرى أنّه على الامتناع لابدّ من الالتزام بالفساد مطلقاً، فإنّه مع الامتناع يقيّد الأمر بغير المجمع. وحاصل هذا الوجه: أنّه مع العلم بالحرمة لا يصحّ العمل لا بالأمر العرضيّ ولا بالأمر الطوليّ الترتّبيّ ولا بالملاك:

أمّا الأمر العرضيّ، أي: في عرض النهي عن الغصب، فلا وجود له أصلا، وذلك بناءً على مبناه من أنّ الوجوب المتعلّق بالطبيعيّ لا يُعقل شموله للفرد غير المقدور، سواءً كان غير مقدور عقلا أو غير مقدور شرعاً، بل يختصّ بخصوص الحصّة المقدورة فيقول: إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي فهذا معناه أنّ اجتماع الوجوب والحرمة لا يلزم منه اجتماع الضدّين، لكن يلزم ثبوت التزاحم بين حرمة الغصب وإطلاق دليل الواجب، والقول بجواز الاجتماع وإن كان يعني أنّ التركيب انضماميّ، فهنا وجودان: أحدهما واجب والآخر حرام، إلاّ أنّه حيث إنّ أحدهما ملازم للآخر فيكون غير مقدور، وحينئذ إذا علم بالحرمة ثبت التزاحم، وإذا قُدّمت الحرمة على الوجوب بالأقوائيّة استحال بقاء إطلاق الواجب لهذا الفرد على حاله.

429

وأمّا الأمر الترتّبيّ فأيضاً لا يوجد في المقام بأن يثبت الإطلاق في طول الغصب؛ وذلك لما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الترتّب في موارد اجتماع الأمر والنهي غير معقول وإنّما يعقل في ضدّين وجوديّين، إذن فلا أمر بالنسبة إلى هذا الفرد لا الأمر الأوّليّ ولا الأمر الترتّبيّ.

فلم يبق إلاّ الملاك، وهو يقول: إنّ الملاك أيضاً لا يمكن التقرّب به؛ فإنّ الملاك مزاحم بقبح فاعليّ(1)، فإنّنا وإن قلنا بجواز الاجتماع وهذا يعني أنّ التركيب انضماميّ ولكن هذان الموجودان وُجدا بإيجاد وبحركة واحدة، وحيث إنّ أحدهما معصية وإيجاد القبيح قبيح، إذن فهذا الإيجاد الموحّد لهما يصبح قبيحاً. وهذا ما نسمّيه بالقبح الفاعليّ، يعني: أنّ الإيجاد قبيح في قبال القبح الفعليّ الذي يعني: أنّ الوجود قبيح، وحينئذ لا يمكن التقرّب بهذا الإيجاد.

وأمّا إذا لم تكن الحرمة منجّزة فلا تزاحم(2) أصلا، فإنّ التزاحم بين الخطابين فرع وصولهما، وبرهان هذا تقدّم في بحث التزاحم، وإذا لم يقع تزاحم بقي إطلاق الوجوب على حاله ويكون مقرّباً بلا قبح فعليّ وبلا قبح فاعليّ(3).


(1) لا يخفى أنّ هذا البيان لإبطال الصلاة بقصد الملاك لو تمّ ثبت أيضاً عدم صحّة الصلاة بالأمر العرضيّ أو الترتّبيّ حتّى لو لم نقل باستحالة الأمر العرضيّ أو الترتّبيّ في حدّ ذاتهما.

(2) بل حتّى لو قيل بالتزاحم وتقديم النهي صحّ العمل بالملاك على مبنيي المحقّق النائينيّ(رحمه الله)؛ لأنّ القدرة غير دخيلة في الملاك، فالملاك موجود في حال التزاحم، والقبح الفاعليّ غير موجود؛ لعدم تنجّز الحرمة.

(3) راجع فوائد الاُصول، ج 1 و 2، ص 442 ـ 443 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وأجود التقريرات، ج 1، ص 369 ـ 370 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

430

ولنا حول هذا الكلام ثلاث ملاحظات:

الملاحظة الاُولى: المنع عن وقوع التزاحم في مثل المقام؛ لمعقوليّة تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور عندنا.

الملاحظة الثانية: أنّه لو سُلّم التزاحم أو افترضنا عدم المندوحة بحيث ثبت التزاحم فالترتّب معقول على ما حقّقناه في أبحاثنا الماضية.

الملاحظة الثالثة: في مناقشة ما ذكره من القبح الفاعليّ، فنقول: إنّ الإيجاد والوجود إن بنينا على أنّهما متّحدان حقيقة ومختلفان اعتباراً كما هو الصحيح، إذن فبناءً على الجواز وكون التركيب انضماميّاً يكون الإيجاد متعدّداً، فإنّه عين الوجود، فلا قبح فاعليّ في الصلاة.

وإن بنينا على أنّ الإيجاد مغاير للوجود فإمّا أن نلتزم بأنّ كلّ وجود له إيجاد يخصّه، أو نتعقّل أن يكون لوجودين إيجاد واحد: فعلى الأوّل أيضاً لا يثبت القبح الفاعليّ، وعلى الثاني فغايته أنّ الإيجاد يكون مقدّمة للحرام وهو الوجود كما أنّه مقدّمة للواجب، وحينئذ لا نسلّم بوجود قبح فاعليّ فيه، فإنّ الإيجاد ليس هو المحرّم وإنّما هو مقدّمة للحرام، ولا نسلّم بأنّ مقدّمة الحرام تكون مبعّدة؛ لما تقدّم في محلّه من أنّ استحقاق الثواب والعقاب إنّما يترتّب على ذي المقدّمة دون المقدّمة(1). ثُمّ لو سلّمنا أنّ المقدّمة أصبحت قبيحة فلماذا لا يمكن التقرّب بذي المقدّمة؟!

الوجه الخامس: ما نأخذه روحاً من المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ولكن نغيّر جزءاً من


(1) لا يخفى أنّ علّة الحرام تكون مبعّدة ولو بسبب مساوقتها لنفس الحرام، بأن يكون العقاب عقاباً على الحرام لا على علّته. وإن شئت فقل: إنّ علّة الحرام مبغوضة بالأخرة ولو غيريّاً، ولا يمكن التقرّب بالمبغوض.

431

كلامه، وذلك بأن نقول: إنّه بناءً على الجواز يثبت التزاحم بين الحرمة وإطلاق الوجوب، ونقول أيضاً بعدم إمكان الأمر الترتّبيّ في المقام، ولكن لا نقول بعدم تصحيح العمل بلحاظ القبح الفاعليّ، بل نقول: إنّه لا كاشف عن الملاك؛ لأنّ الكاشف هو الأمر وهو غير موجود.

وبهذا التغيير يندفع الإشكال الثالث ممّا أوردناه على المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ولكن يبقى الأوّل والثاني.

الوجه السادس: أنّنا إذا بنينا على جواز الاجتماع بملاك أنّ الأمر متعلّق بالجامع والنهي متعلّق بالحصّة ولا يسري أحدهما إلى متعلّق الآخر، فتصحّ الصلاة عند الجهل بالحرمة؛ لإمكان التقرّب مادامت الحرمة غير منجّزة، وتبطل عند العلم بها؛ لأنّ الحرمة منجّزة فيصبح العمل مبعّداً عن المولى. وهذا خير تخريج يمكن أن يوجّه به هذا التفصيل.

الوجه السابع: أن يبنى على جواز الاجتماع بملاك تعدّد العنوان دون المعنون، فأيضاً يقال بأنّه مع الجهل تصحّ الصلاة؛ لإمكانيّة التقرّب مادام النهي غير منجّز، ومع العلم تبطل؛ لما يأتي من أنّ التقرّب من شؤون الوجود الخارجيّ لا من شؤون العنوان، فتعدّد العنوان لا يكفي في إمكان التقرّب بهذا الوجود وإنّما يفيد تعدّد العنوان بلحاظ عالم الأمر والنهي دون عالم المقرّبيّة والمبعّديّة.

وأمّا الملاك الثالث للجواز ـ أعني: إنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ـ فلا يمكن على أساسه تخريج صحيح لبطلان العبادة في فرض العلم بل لابدّ من الحكم بصحّة العبادة مطلقاً.

الوجه الثامن: أن يبنى على القول بالامتناع بنكتة استبطان الأمر بالجامع للترخيص في الحصّة، فيقال: إنّه مع العلم بالحرمة تبطل الصلاة؛ لانسحاب الأمر عن الجامع كي لا يلزم الترخيص في الحرام. أمّا مع الجهل بالحرمة فتصحّ الصلاة؛

432

لأنّه لا موجب لانسحاب الأمر عن الجامع كي لا يلزم الترخيص في الحرام؛ فإنّ الترخيص في الحرام المجهول لا بأس به بل هو ثابت ولو بالبراءة الشرعيّة.

وتحقيق الحال في ذلك: أنّه إن كان المقصود من استبطان الأمر بالجامع للترخيص في التطبيق كون إطلاق الواجب بعينه عبارة عن الترخيصات في التطبيق فهذا الترخيص ترخيص واقعيّ، ولا يمكن الترخيص الواقعيّ في الحرام، وأمّا الترخيص الثابت بالبراءة الشرعيّة فهو ترخيص ظاهريّ.

وإن كان القائل باستبطان الأمر بالجامع للترخيص ملتفتاً إلى أنّ الإطلاق ليس عدا رفض القيود، غاية الأمر أنّه يدّعي استلزام الأمر بالجامع للترخيص في التطبيق، فحينئذ لو كان يقول بأنّ الأمر بالجامع يستلزم الترخيص العمليّ بحيث لو أقدم على الفعل لا يكون عليه عتاب، فمثل هذا الترخيص موجود في المقام ولا بأس بفرض إطلاق الأمر.

ولو كان المقصود أنّ الإطلاق الواقعيّ يستلزم الترخيص الواقعيّ فأيضاً لا يتمّ هذا الوجه.

الوجه التاسع: أن يبنى على الامتناع لا بنكتة استبطان الأمر بالجامع للترخيص في التطبيق، بل بدعوى التنافي بين نفس وجوب صِرف الوجود وحرمة الحصّة ويقال: إنّه لا ينحصر رفع المنافاة بتقييد الأمر بالصلاة بعدم النهي مطلقاً، بل يكفي في رفعها تقييد الأمر بعدم النهي المعلوم، فيصبح الأمر مترتّباً على عدم وصول النهي، فيكون الأمر في طول النهي، فيكون الأمر والنهي في رتبتين لا في رتبة واحدة، فيرتفع التضادّ.

وأوضح ما يمكن أن يشكل به على هذا ما قلناه في بحث الترتّب: من أنّ تعدّد الرتبة لا يرفع محذور التضادّ؛ فإنّ الميزان في التضادّ هو وحدة الزمان لا وحدة الرتبة، فمثلا السواد والبياض يستحيل اجتماعهما في لحظة واحدة ولو في رتبتين

433

كَأن يكون أحدهما علّة للآخر(1).

الوجه العاشر: أنّه بناءً على الامتناع وإن لم يكن الملاك في المجمع محرزاً بإطلاق المادّة أو بالدلالة الالتزاميّة، كي يتأتّى ما مضى من الوجه الثالث من أنّه تصحّ الصلاة الواجدة للملاك لو تمشّت القربة، والقربة تتمشّى مع الجهل بالحرمة، ولكن عدم الملاك أيضاً غير محرز؛ فإنّ ما يمكن أن يُحرز به عدم الملاك هو افتراض أنّ مادّة الصلاة في (صلّ) مقيّدة بغير الصلاة في المجمع، وأنّ هيئة (صلّ) مطلقة تشمل حتّى فرض الإتيان بالصلاة في المجمع، فيصبح هذا دليل على أنّ الأمر بالصلاة في غير المجمع يشمل حتّى من صلّى في المجمع.

ولكن لا دليل على صحّة هذا الافتراض، فإنّ (لا تغصب) وإن دلّ على لزوم إدخال قيد في (صلّ) كي لا يلزم اجتماع الأمر والنهي، ولكن كون هذا القيد راجعاً إلى المادّة لا الهيئة غير معلوم، ومعه لا نجزم بعدم الملاك في المجمع.

وحينئذ نقول: إنّه مع العلم بالحرمة لا إشكال في بطلان الصلاة بعد فرض تقديم الحرمة؛ لعدم تمشّي القربة. أمّا مع الجهل بالحرمة وتمشّي القربة فبالإمكان الحكم بتصحيح الصلاة وذلك بالتمسّك بالبراءة، فإنّنا إن تكلّمنا بلحاظ عالم الملاك أمكن أن يقال: إنّنا شككنا أنّ خصوصيّة إباحة المكان ـ مثلا ـ هل هي دخيلة في الملاك


(1) ويمكن أن يشكل أيضاً على هذا الوجه بمنع كون ما في طول أحد النقيضين في طول النقيض الآخر، فلنفرض أنّ الأمر في طول عدم وصول النهي ولكن هذا لا يعني أنّه في طول وصول النهي الذي هو في طول النهي.

على أنّه لو كان تعدّد الرتبة رافعاً للتضادّ فليقيّد الأمر بفرض العلم بالنهي، فما الذي يرجّح تقييده بفرض الجهل بالنهي على تقييده بفرض العلم به؟! ومقصودي من تقييد الأمر بفرض العلم بالنهي هو تقييده بالجامع بين أن لا يكون نهي وأن يكون عالماً بالنهي، فلا يقال: إنّ الأمر يصبح لغواً؛ إذ مع العلم بالنهي لا يمكن التقرّب.

434

أو لا، فنجري البراءة عن دخلها في الملاك. وإن تكلّمنا بلحاظ عالم الخطاب والجعل قلنا: إنّ فرض عدم دخل تلك الخصوصيّة في الملاك يعني أنّ الأمر يسقط بالإتيان بالصلاة في المجمع، رغم أنّ الصلاة في المجمع ليست داخلة تحت الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر بالصلاة مشروط بعدم الإتيان بالفرد الذي أصبح مجمعاً، وفرض دخلها في الملاك يعني عدم سقوط الأمر بالإتيان بالمجمع، وهذا يعني إطلاق الأمر، إذن فالشكّ في دخلها في الملاك وعدمه يرجع إلى الشكّ في كون الوجوب مشروطاً أو مطلقاً، فنجري البراءة عن إطلاق الوجوب.

وهذا الوجه أيضاً غير صحيح؛ لما حقّقنا في محلّه من أنّه عند دوران الأمر بين تقييد المادّة وتقييد الهيئة يتقدّم تقييد المادّة؛ لأنّها تقييد على كلّ حال فيدفع احتمال تقييد الهيئة بالإطلاق، فيثبت أنّ المادّة مقيّدة والهيئة مطلقة، فما مضى من عبارة «لا دليل على صحّة هذا الافتراض» غير صحيح(1).

 


(1) ولا يخفى أنّ هذا الوجه لو كان تامّاً أمكن تصحيح الصلاة به حتّى في الجهل التقصيريّ.

وهناك وجهٌ آخر للتصحيح عند الجهل والنسيان في خصوص الصلاة، وهو التمسّك بقاعدة (لاتعاد)، ولو صحّ ذلك صحّ حتّى في الجهل عن تقصير بناءً على ما هو التحقيق من شمول قاعدة (لا تعاد) للجاهل المقصّر.

ويمكن المناقشة في هذا الوجه بأن يقال: إنّ (لا تعاد) إنّما تنظر إلى نفي الإعادة من ناحية غير الاُمور الخمسة من الأجزاء والشرائط ممّا ليس دخيلا في صحّة أحد الاُمور الخمسة بالذات، وإنّما يكون دخله فيها من باب الدخل في المجموع المركّب المسمّى بالصلاة، فمثلا لو نسي التشهّد فليس دخل التشهّد في الركوع أو السجود اللذين هما من الاُمور الخمسة إلاّ من باب دخله في أصل الصلاة.

435


أمّا لو نسي وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه فسجد على ما لا يصحّ السجود عليه، فهذا في الحقيقة داخل في المستثنى لا في المستثنى منه، أي: أنّ صلاته بطلت؛ لأنّ سجوده بطل وهو من الاُمور الخمسة، فلا يقال بصحّة صلاته من باب احتفاظه بأصل السجود وبباقي الاُمور الخمسة، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ السجود أيضاً أصبح غصباً أو الركوع أصبح غصباً فبطل، فكأنّه لم يسجد أو لم يركع، فبطلت صلاته ببطلان بعض الاُمور الخمسة.

ويمكن أيضاً المناقشة في هذا الوجه بمناقشتين اُخريتين ولكنّهما جميعاً قابلتان للنظر:

الاُولى: أنّ (لا تعاد) تنظر إلى الشرائط الأوّليّة التي اُخذت في الصلاة مباشرة، لا إلى شرط اتّخذ في طول مصادمة دليل (صلّ) لدليل حكم آخر لا علاقة له مباشرة بعنوان الصلاة كـ (لا تغصب).

وفيه: أنّ هذا التصادم لم يفترض إلاّ كاشفاً عن شرط من شروط الصلاة وهو إباحة المكان، وبعد هذا الكشف ليس حال هذا الشرط إلاّ حال باقي الشروط المشمولة لحديث (لا تعاد).

والثانية: أنّ المتبادر إلى الذهن من (لا تعاد) هو أنّ المتبقّى من أجزاء الصلاة وشرائطها بعد ما ترك بالنسيان أو الجهل مشتمل على شيء من المحبوبيّة في حال النسيان أو الجهل، ولا يشمل شرطاً فُهم من النهي فقدان المحبوبيّة عن باقي الأجزاء والشرائط بعد فقده؛ لأنّ النهي دلّ على البغض. وإن شئت فاجعل هذا تطويراً للمناقشة السابقة.

إلاّ أنّ هذا التبادر أو الانصراف دعوى لا شاهد لها، فلعلّ المقصود بصحّة الباقي بعد فقدان شرط مّا بالجهل أو النسيان: صحّته بلحاظ اشتماله على مقدار من الملاك، أو بلحاظ منعه عن إمكانيّة التدارك، أو بلحاظ التسهيل، أو نحو ذلك.

436

 

تقديم دليل النهي على الأمر وعدمه في العامّين من وجه بناءً على الامتناع:

التنبيه السابع: بناءً على القول بالامتناع ووقوع التعارض بين دليلي (صلّ) و(لا تغصب) بالعموم من وجه هل يقدّم دليل الحرمة على دليل الوجوب أو أنّهما إطلاقان متكافئان فيتساقطان؟

قد يقال بتقديم دليل الحرمة على الواجب بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: هو البناء على كبرى آمن بها المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ونسبت إلى تقريرات الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) من أنّه متى ما وقع التعارض بين الإطلاق البدليّ والإطلاق الشموليّ كان الثاني مقدّماً على الأوّل.

وخالف في ذلك المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ، وسنبحث ذلك إن شاء الله في بحث التعادل والتراجيح، وسنبني على أنّه لا وجه فنّيّ لتقديم الإطلاق الشموليّ بما هو شموليّ على الإطلاق البدليّ بما هو بدليّ، وهنا لا نريد الدخول في البحث عن هذه الكبرى وإنّما نريد أن نبيّن أمرين:

الأمر الأوّل: أنّه قد يناقش في انطباق هذه الكبرى ـ لو تمّت ـ على المقام في فرض عدم المندوحة حيث يقال: إنّ الطرف المعارض للإطلاق الشموليّ لـ (لاتغصب) وإن كان هو الإطلاق البدليّ في المادّة لـ (صلّ) عند وجود المندوحة، ولكن عند عدمها ليس (لا تغصب) معارضاً لإطلاق المادّة فقط بل يقتضي نفي الوجوب رأساً؛ لأنّ المفروض أنّ الصلاة في غير المغصوب غير ممكنة والصلاة في المغصوب حرام، ومن الواضح أنّ نفي الوجوب رأساً يرجع إلى تضييق في الهيئة، وهيئة الأمر مفادها الوجوب المطلق بنحو شموليّ.

إلاّ أنّ هذا الاعتراض غير وارد؛ لأنّ نفي أصل الوجوب عند عدم المندوحة

437

ليس بطروّ تقييد زائد على الهيئة، فدليل (لا تغصب) إنّما أثبت ـ بعد فرض تقدّم النهي على الإطلاق البدليّ للمادّة ـ أنّ المادّة مقيّدة بإباحة المكان، وحينئذ يقال: إنّ هذا الواجب المقيّد بإباحة المكان أصبح عند عدم المندوحة غير مقدور، فسقط الوجوب بعدم القدرة، ومن الواضح أنّ دليل الوجوب مقيّد من أوّل الأمر بالقدرة، فليس (لا تغصب) هو الذي أضاف قيداً إلى الهيئة(1). إذن فطرف المعارضه لـ (لا تغصب) مطلقاً هو الإطلاق البدليّ لمادّة (صلّ).

الأمر الثاني: أنّنا وإن قلنا بأ نّا سوف لا نقبل كبرى تقدّم الإطلاق الشموليّ على البدليّ بما هما كذلك بشكل عامّ، ولكن قد يدّعى هذا التقديم في خصوص المقام ببيان لا يسري إلى بقيّة الموارد، وذلك بالبناء على مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الأمر يختصّ دائماً بحسب طبعه بخصوص الحصّة المقدورة، فالمقدوريّة قيد محصّص للمادّة في باب الأوامر بقرينة متّصلة وهي كون الأمر بداعي المحرّكيّة، وغير المقدور شرعاً كغير المقدور عقلا، فمادّة الأمر هي مقيّدة من أوّل الأمر بالقدرة العقليّة والشرعيّة.


(1) لا يخفى أنّ المقصود ليس هو تقديم (لا تغصب) على (صلّ) بمجرّد حجّة أنّ الأمر مشروط بالقدرة على الفعل، فالنهي يرفع موضوعه بسلب القدرة على الفعل، حتّى يقال: لِمَ لا نعكس ونقول: إنّ النهي مشروط بالقدرة على الترك؟ فالأمر يرفع موضوعه بسلب القدرة على الترك. بل المقصود تقديم (لا تغصب) على (صلّ) بحجّة شموليّة إطلاق (لا تغصب) وبدليّة إطلاق (صلّ).

فإن قيل: إنّ (لا تغصب) لو قدّم على (صلّ) لقيّد إطلاق الهيئة في (صلّ) أيضاً الذي هو أيضاً شموليّ، كان الجواب: أنّ تقديم (لا تغصب) لم يضف قيداً على هيئة (صلّ)؛ لأنّها من أوّل الأمر مقيّدة بالقدرة و(لاتغصب) سلب القدرة بتقدّمه على مادّة (صلّ) باعتبار تقدّم الشموليّ على البدليّ.

438

فلو سلّمنا هذا من المحقّق النائينيّ(رحمه الله) كان الإطلاق الشموليّ في دليل (لا تغصب) مقدّماً على الإطلاق البدليّ في (صلّ) لا من باب تقديم أقوى الدليلين على الآخر بل بالورود، من باب أنّ الإطلاق الشموليّ رفع موضوع الإطلاق البدليّ الذي هو القدرة، فإنّ دليل (لا تغصب) يقول: إنّ هذه الحصّة غير مقدورة، فلا يشملها دليل (صلّ). نعم، لو بدّل النهي التحريميّ بالنهي الكراهتيّ فنكتة التقدّم لا تأتي، فإنّ دليل (صلّ) موضوعه المقدور عقلا وشرعاً، والمكروه مقدور عقلا وشرعاً.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّه كلّما وقع التعارض بالعموم من وجه بين دليل إلزاميّ ودليل ترخيصيّ ُقدّم الأوّل على الثاني، فمثلا لو ورد الدليل على جواز شرب الحليب، ودليلٌ آخر على حرمة الغصب، فلا إشكال في أنّه يحرم شرب الحليب المغصوب، فنطّبق هذه الكبرى على المقام بأن يقال: إنّ النهي عن الغصب حكم إلزاميّ، والأمر بالصلاة أوجب الترخيص في التطبيق على كلّ الحصص، وهذا الترخيص هو الذي أوجب التعارض، وهو حكم ترخيصيّ، فيقدّم (لا تغصب) عليه، وذلك بناءً على مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الامتناع حينما يكون فهو بملاك اقتضاء الأمر للترخيص في التطبيق، لا بناءً على أنّ نفس الأمر بالجامع والنهي عن الحصّة متضادّان بغضّ النظر عن مسألة اقتضاء الأمر للترخيص في التطبيق.

ولكنّ الصحيح أنّ كبرى تقديم الدليل الإلزاميّ على الترخيصيّ لاتنطبق على المقام حتّى بناءً على كون نكتة التعارض هي اقتضاء الأمر للترخيص في التطبيق لا التضادّ بين نفس الأمر والنهي. ويتّضح ذلك بالالتفات إلى نكتة هذه الكبرى، وبيان ذلك: أنّه حينما يوجد الترخيص على عنوان والإلزام بلحاظ عنوان آخر وبينهما عموم من وجه ففي الحقيقة لا يوجد تعارض بينهما، لا أنّهما تعارضا وقدّمنا الدليل الإلزاميّ؛ وذلك لأنّ دليل الترخيص إنّما دلّ على الترخيص في

439

عنوانه، وهذا لا ينافي انطباق عنوان آخر محرّم على نفس مصداق ذاك العنوان فيحرم بالعنوان الآخر.

وإن شئت فقل: إنّ دليل الترخيص إنّما دلّ على أنّه لم يجعل التحريم على هذه الحصّة بواسطة انطباق العنوان الفلانيّ عليه وهذا لا ينافي تحريمها بعنوان آخر.

وبكلمة اُخرى: إنّ المفهوم من دليل الترخيص ليس إلاّ الحكم الحيثيّ، أي: إنّ شرب الحليب ـ مثلا ـ من حيث أنّه شرب الحليب لم يجعل عليه الحرمة، وقد يكون حكمه الفعليّ الحرمة بعنوان الغصب مثلا.

وعندئذ نأتي إلى المقام ونقول: هل المفروض أنّ الأمر بالجامع يقتضي الترخيص في الحصّة بمعنى الترخيص الحيثيّ، أو يقتضي الترخيص الفعليّ فيها؟ فإن فُرض الثاني وقع التعارض بينه وبين النهي عن الغصب، فلم تنطبق عليه نكتة كبرى الأخذ بالدليل الإلزاميّ، وهي عدم التعارض رأساً بالبيان الذي عرفت. وإن فُرض الأوّل إذن لا يمتنع اجتماع الأمر والنهي؛ لأنّ الترخيص الحيثيّ لا يولّد التعارض بينهما، وهذا خلف الفرض فإنّنا نتكلّم مبنيّاً على الامتناع.

إذن، فاتّضح أنّه لا نكتة فنّيّة لتقديم النهي على الأمر. وأمّا بقيّة الكلمات من قبيل: أنّ النهي مقدّم بالاستقراء أو باعتبار أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المفسدة، فلا تستحقّ التعرّض.

 

تحقيق حال العبادات المكروهة:

التنبيه الثامن: في تحقيق حال العبادات المكروهة.

وقد جعلت العبادات المكروهة دليلا إنّيّاً على جواز اجتماع الأمر والنهي حيث يقال: إنّ التضادّ لا يختصّ بالوجوب والحرمة، فكلّ الأحكام الخمسة متضادّة فيما بينها، والعبادات المكروهة قد ثبتت فقهيّاً صحّتها، وهذا يعني أنّها

440

مصداق للمأمور به وفي نفس الوقت ثبتت كراهتها، وهذا يعني اجتماع الأمر والنهي.

وذكر صاحب الكفاية(رحمه الله): أنّ هذه المشكلة يواجهها القائلون بالجواز أيضاً، فإنّ القائل بالجواز الذي يرى أنّ تعدّد العنوان يوجب الجواز(1) لابدّ له أيضاً من حلّ المشكل في الموارد التي ليس هناك عنوانان، بل تعلّق الأمر بالمطلق والنهي الكراهتيّ بالمقيّد من قبيل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام).

بل من يرى جواز الاجتماع بملاك أنّ الأمر متعلّق بصِرف الوجود والنهي متعلّق بالحصّة أيضاً يواجه المشكل في المقام، باعتبار أنّه في بعض موارد كراهة العبادة يكون متعلّق الأمر ومتعلّق النهي حصّة واحدة، من قبيل الصوم في يوم عاشوراء.

وقد قسّم البحث في الكفاية إلى قسمين:

القسم الأوّل: العبادات المكروهة التي تعلّق الأمر فيها بالجامع، فلها بدل كالصلاة.

والقسم الثاني: العبادات المكروهة التي ليس لها بدل، كصوم يوم عاشوراء(2).

 


(1) سواءً كان لنفسه أو لكشفه عن تعدّد المعنون.

(2) فإنّ صاحب الكفاية وإن قسّم في كتابه البحث إلى ثلاثة أقسام ثالثها: ما إذا تعدّد العنوان، لكنّه أرجع الثالث بناءً على الامتناع إلى الأوّل، أعني: الأمر بالجامع مع النهي عن الحصّة، فانقسم البحث في الحقيقة إلى قسمين. راجع الكفاية، ج 1، ص 253 ـ 260 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق المشكينيّ في حواشيها.

وعلى أيّ حال فالصحيح في فرض تعدّد العنوان أنّه لو قلنا في فرض النواهي التحريميّة بكفاية تعدّد العنوان في جواز الاجتماع، أو كشفه عن تعدّد المعنون الموجب

441

ويقع الكلام أوّلا: في القسم الأوّل، وفي هذا القسم من يقول بجواز اجتماع الأمر والنهي بملاك أنّ الأمر متعلّق بالجامع والنهي متعلّق بالحصّة فهنا في فسحة من الإشكال. كما أنّ القائل بالامتناع بالملاك الميرزائيّ ـ أعني: بملاك أنّ الأمر بالجامع يقتضي الترخيص في التطبيق، والترخيص في التطبيق لا يجتمع مع النهي ـ أيضاً في فسحة هنا من الإشكال؛ فإنّ النهي الكراهتيّ لا يضادّ الترخيص في التطبيق.

وإنّما يواجه هذه المشكلة من يقول بالامتناع بملاك التضادّ بين نفس الأمر بالجامع والنهي عن الحصّة، ومن يقول بجواز الاجتماع بملاك تعدّد العنوان أو بملاك أنّ تعدّد العنوان يكشف عن تعدّد المعنون.

 


لجواز الاجتماع، فلا حاجة إلى مزيد بحث في المقام. أمّا لو قلنا في فرض النهي التحريميّ بامتناع الاجتماع رغم تعدّد العنوان وذلك بدعوى وحدة المعنون، فإن كان السبب في ذلك دعوى أنّه مع وحدة المعنون يكون الأمر بالعنوان الواجب مستلزماً للترخيص في التطبيق على ما اتّحد في وجوده مع العنوان الآخر وهو ينافي التحريم، فمن الواضح أنّ هذه النكتة لا تأتي في النهي التنزيهيّ؛ لعدم منافاة الترخيص له.

وإن كان السبب في ذلك دعوى التضادّ المباشر ـ دون وساطة لزوم الترخيص في التطبيق ـ بين الأمر والنهي، فبما أنّ المفروض فيما نحن فيه مسلّميّة صحّة العبادة فقهيّاً تأتي في المقام كلّ النكات التي ستذكر في القسم الأوّل، وهو فرض النهي التنزيهيّ عن الحصّة، زائداً أنّ نكتة صرف النهي عن الحصّة إلى القيد والتحصّص هنا أوضح منه في القسم الأوّل؛ إذ قد يقال: إنّ صرف النهي عن الحصّة إلى التحصّص والقيد خلاف ظاهر دليل النهي الذي ذكرت فيه الحصّة، في حين أنّ النهي في هذا القسم لم يتعلّق في ظاهر العبارة بالحصّة بل تعلّق بعنوان آخر.

442

والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أجاب على هذا الإشكال بتأويل الكراهة(1) وحملها على أنّها ليست كراهة مولويّة بل نهي إرشاديّ، إرشادٌ إلى نقص هذا القسم في مصالحها عن المقدار الثابت طبيعيّاً لهذه العبادة من دون افتراض أيّ حزازة في هذه الحصّة، فمثلا الصلاة إذا لوحظت بطبيعتها بما هي هي يكون لها رجحان بمقدار خمس مراتب، وإذا وقعت في المسجد فهذه مزيّة تصعّد درجة الرجحان إلى ستّ مراتب، وإذا وقعت في الحمّام نقصت درجة المزيّة ووصلت إلى أربع مراتب، وأقلّ ما يكتفي به الشارع هو أربع مراتب، ولكن حرص المولى على إرشاد العبد إلى تحصيل المراتب الأكبر فأمر استحبابيّاً بالصلاة في المسجد، ونهى كراهتيّاً عن الصلاة في الحمّام، فهذه الأوامر الاستحبابيّة والنواهي الإرشاديّة ترشد إلى وجود مصلحة زائدة أو إلى فوات بعض المصلحة.

إلاّ أنّ حمل النهي على مجرّد الإرشاد بمعنى تجريده عن أيّ دلالة على الحزازة والمبغوضيّة المولويّة لا يصحّ على مبنى صاحب الكفاية من أنّ الواجب النفسيّ ملاكه ومحبوبيّته ذاتيّان، أي: ليست محبوبيّته لملاك يترتّب عليه، بل هو بنفسه عبارة عن الملاك المحبوب على أساس تعنونه بعنوان حسن(2)، فإنّنا نقول على هذا المبنى: إنّ تأثير خصوصيّة الإيقاع في الحمّام في نقص الدرجات لو كان بمعنى أنّ عدم هذه الخصوصيّة كان مؤثّراً في الدرجة الخامسة من المحبوبيّة ـ مثلا ـ فزالت الدرجة الخامسة بانتقاض هذا العدم، فهذا مستحيل؛ لأنّ العدم بما


(1) هذا هو الجواب الذي خصّ صاحب الكفاية به هذا القسم بعد افتراضه أنّ هذا القسم بإمكانه أن يشترك مع القسم الثاني في الجواب.

(2) راجع الكفاية، ج 1، ص 172 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

443

هو عدم لا يكون مؤثّراً في إيجاد شيء أصلا. ومتى ما كان عدم شيء دخيلا في صدور المقتضى من المقتضي فهو من باب أنّ نقيض العدم يكون مانعاً عن تأثير المقتضي في مقتضاه باعتباره مقتضياً لضدّ ما يقتضيه ذلك المقتضي.

ولو كان بمعنى أنّ خصوصيّة الإيقاع في الحمّام تقتضي ما يكون ضدّاً للدرجة الخامسة فهذا يعني أنّها تقتضي الحزازة والمنقصة حتّى تكون مضادّة للدرجة الخامسة، إذن فدخل في الحساب عنصر المبغوضيّة والمنقصة، فلابدّ أن يبحث عن أنّها كيف اجتمعت مع الأمر.

نعم، لو افترضنا أنّ الواجب النفسيّ قد تكون محبوبيّته على أساس أنّ ملاك غير ذاك الواجب يترتّب على ذاك الواجب ارتفع هذا الإشكال؛ فإنّ غاية ما يلزم هي أنّ الصلاة تحدث آثاراً خمسة وأنّ خصوصيّة الحمّاميّة تقتضي ضدّ الأثر الخامس، وهذا الضدّ لا يلزم أن يكون مفسدة وحزازة، فإنّ ضدّ المحبوب لا يلزم أن يكون مبغوضاً، فقد يكون أمران كلاهما في نفسه محبوب؛ لما تترتّب عليه من مصلحة لكنّهما ضدّان، فالأكل ضدّ للصلاة وقد يكونان محبوبين، والتوجّه إلى الله محبوب وهو أحياناً ضدّ للتوجّه إلى الأهل والعيال، وهذا لا يعني كون التوجّه إلى الأهل والعيال غير محبوب(1).

 


(1) لا يخفى أنّ صاحب الكفاية قد ذكر في بحث الواجب النفسيّ والغيريّ: أنّ أكثر الواجبات من العبادات والتوصّليّات يترتّب عليها فوائد ومصالح ولكن صارت واجباً نفسيّاً لكونها معنونة بعنوان حسن يستقلّ العقل بمدح فاعله بل وذمّ تاركه، ولا ينافيه كونه في نفس الوقت مقدّمة لأمر مطلوب واقعاً، وهذا بخلاف الواجب الغيريّ لتمحّض وجوبه في أنّه لكونه مقدّمة لواجب نفسيّ، وهذا أيضاً لا ينافي أن يكون معنوناً بعنوان حسن في نفسه إلاّ أنّه لا دخل له في إيجابه الغيريّ، راجع الكفاية، ج 1، ص 172

444

ثمّ لو قطعنا النظر عن هذا الإشكال وافترضنا أنّ المانعيّة كانت بالنحو المعقول وأنّ الصلاة كانت محبوبة غيريّة فعندئذ نقول: إنّ المرتبة الخامسة من المصلحة محبوبة بحسب الفرض، وقد افترضنا في بحث الضّد أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، أي: إنّ حبّ الشيء يقتضي بغض الضدّ العامّ، إذن فعدم هذه المرتبة الخامسة يكون مبغوضاً، وقد قرأنا أيضاً أنّ علّة المبغوض مبغوضة، وعلّة هذا المبغوض هي خصوصيّة الكون في الحمّام، إذن فانتهينا أيضاً إلى مبغوضيّة مولويّة(1)، وقد صرّح صاحب الكفاية بأنّه كما لا يجوز اجتماع الأمر والنهي


بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

وعليه فبإمكان صاحب الكفاية أن يجيب على هذا الإشكال بأنّنا نفترض أنّ خصوصيّة الحمّاميّة مضادّة لذاك الملاك المترتّب على الصلاة بطبيعتها الأوّليّة لا للمحبوبيّة النفسيّة للصلاة.

(1) لا أدري لماذا افترض اُستاذنا(رحمه الله) في المقام كون الخصوصيّة، أي: خصوصيّة إيقاع الصلاة في الحمّام، علّة للمبغوض، فبالإمكان أن يقول هنا بنفس ما قاله قبل أسطر في بيان عدم ورود الإشكال الأوّل على المبنى المشهور من كون الواجب النفسيّ واجباً لما فيه من الملاك والمصلحة ولا يلزم أن يكون وجوبه للمحبوبيّة الذاتيّة، حيث قال(رحمه الله): إنّ وجدان أحد الضدّين للملاك ومحبوبيّته لا يعني إفناء الضدّ الآخر للملاك ومبغوضيّته، فإنّ محبوبيّة الضدّ لا توجب مبغوضيّة الضدّ الآخر الخاصّ، فهذا في الحقيقة جواب على هذا التطوير للإشكال، فيقال: إنّ خصوصيّة كون الصلاة في الحمّام لا ينحصر أمرها في كونها هي العلّة المفنية لتلك المرتبة من الملاك، بل قد تكون مضادّة لما يحقّق تلك المرتبة من الملاك.

445

النفسيّين كذلك الحال في التكليف الغيريّ(1)، إذن فلا بدّ من التفتيش عن جواب عن الإشكال مع افتراض ثبوت المبغوضيّة.

وتحقيق الحال في هذا القسم من العبادات المكروهة ـ أعني: ما له بدل ـ: أنّ هناك عدّة ظهورات يمكن ادّعاؤها للنهي، ورفع الغائلة يكون برفع اليد عن واحد منها:

الظهور الأوّل: هو ظهور النهي في كونه مولويّاً في مقابل الحمل على الإرشاد، ومعنى المولويّة أن يكون بداعي الزجر حقيقة سواءً كان زجراً إلزاميّاً أو كراهتيّاً. والمقصود من الإرشاديّ أن يكون كجملة خبريّة.

ولا إشكال في أنّ ظاهر النهي هو المولويّة، فهنا يمكن تأويل هذا الظهور وحمله على الإرشاد، فيكون إرشاداً لمن يريد أن يصلّي ـ أي: بعد فرض أصل الصلاة ـ إلى أن لا يوقع صلاته في الحمّام. وهذا الإرشاد قد يكون إرشاداً إلى نقصان الملاك والمصلحة، وقد يكون إرشاداً إلى نقصان ناش من مبغوضيّة مندكّة في مقابل محبوبيّة صِرف الوجود، والإشكال على صاحب الكفاية كان باعتبار أنّه يرى ظاهراً أن لا مبغوضيّة أصلا حتّى بنحو الاندكاك(2).

 


نعم، بالإمكان أن يقال: إنّ هذا خلاف ظاهر تعلّق النهي بتلك الخصوصيّة، فظاهر ذلك أنّ تلك الخصوصيّة بما هي تكون هي المفنية للملاك.

إلاّ أنّ هذا لا يبطل التوجيه الذي توجّه به العبادات المكروهة بعد فرض مسلّميّتها في الفقه. إذن لا تحاشي عندئذ عن ارتكاب مخالفة الظاهر.

(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 238 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق الشيخ المشكينيّ(رحمه الله).

(2) لم نعرف نكتةً لهذا الاستظهار من كلام صاحب الكفاية.

446

الظهور الثاني: ظهور النهي في أنّه متعلّق بالحصّة الخاصّة وهي الصلاة في الحمّام، أي: بالمقيّد لا بخصوصيّة الحمّاميّة وهي التقيّد، فنأوّل قوله: (لا تصلّ في الحمّام) ـ بعد تسليم كونه مولويّاً ـ الظاهر في النهي عن المقيّد إلى النهي عن القيد وهو التواجد في الحمّام عند الصلاة، وبذلك تنحلّ المشكلة.

وليس الكون في الحمّام كالكون في المغصوب؛ فإنّ السجود الذي هو إلقاء الثقل على الأرض يعتبر تصرّفاً في المغصوب، فيكون حراماً ولكن ليس نفس إلقاء الثقل هو الكون في المكان كي يكون مكروهاً(1).

الظهور الثالث: ظهور النهي وظهور أيّ خطاب مولويّ في أنّه ناشئ من مبادئ فعليّة من الحبّ والبغض والمصلحة والمفسدة لا من مبادئ مغلوبة ومندكّة، فيقال:


(1) لا يخفى أنّ حلّ الإشكال عن طريق أنّ الكون في الحمّام لم يتّحد مع الصلاة ليس حلاّ مطّرداً، فماذا نصنع ـ مثلا ـ فيما لو أوجب المولى عملا يكون من جزئه الكون في المكان، كما لو افترضنا الكون في المكان أحد أعمال الصلاة، ونهى نهياً كراهتيّاً عن إيقاعه في الحمّام؟

وبالإمكان أن يتمسّك للحلّ بأنّه بعد صرف النهي عن كونه نهياً عن الحصّة إلى كونه نهياً عن القيد أصبح الواجب والمكروه متعدّداً عنواناً؛ لأنّ الواجب هو العنوان المنتزع عن الجنس، والمكروه هو العنوان المنتزع عن الفصل، وقد مضى فيما سبق أنّ الأمر بعنوان الجنس مع النهي عن الخصوصيّة الفصليّة وإن كان لا يتمتّع بنكتة تعدّد المعنون؛ لأنّ الجنس والفصل يوجدان خارجاً بوجود واحد، ولكنّه يتمتّع بنكتة تعدّد العنوان، وقد قلنا: إنّ هذا كاف في حلّ الإشكال. نعم، قلنا في التحفّظ الأوّل: إنّنا لا نقبل في العبادات بصحّة العمل مع تنجّز الحرمة، وذلك على أساس الخلل الذي يتّجه إلى التقرّب، لكن هذا الخلل إنّما يكون في فرض الحرمة دون الكراهة، فكراهة الفصل لا تمنع عن التقرّب بالجنس الواجب.

447

إنّ مقتضى الظهور السياقيّ للنهي ـ بعد تسليم كونه نهياً عن الحصّة لا عن الخصوصيّة والقيد ـ كان هو فعليّة المبادئ في الحصّة، بينما المفروض أنّ المبادئ بمقدار تعلّقها بذات الصلاة تكون مغلوبة ومندكّة في مقابل مبادئ وجوب الصلاة وإن كانت بمقدار ارتباطها بالخصوصيّة فعليّة، لكنّنا نرفع اليد عن هذا الظهور السياقيّ ونحمله على نهي ناش عن مبادئ مندكّة، فليس هناك بغض فعليّ، ولكنّه مع هذا يؤثّر هذا البغض الشأنيّ ـ أو قل: المفسدة المندكّة ـ في جعل النهي.

لا يقال: مغلوبيّة المبادئ تنافي عقلا جعل الحكم على طبقها.

فإنّه يقال: إنّ مغلوبيّة المبادئ إنّما تنافي عقلا جعل الحكم على طبقها حينما يكون جعل الحكم على طبقها منافياً لاهتمام المولى بالملاك الغالب، فمثلا (الميسر) فيه مصالح للناس مغلوبة للمفسدة التي فيها، وهذه المصلحة لا يُعقل أن تستتبع حكماً بالاستحباب أو الوجوب، فإنّ هذا يكون تضييعاً للملاك الأهمّ، وهو خلف اهتمام المولى بالملاك الأهمّ. وأمّا فيما نحن فيه فالنهي عن الحصّة الناشئ من مفسدة تكون مغلوبة في مقابل مصلحة أصل الصلاة لا يكون تضييعاً للملاك الأهمّ، فإنّ الملاك الأهمّ إنّما هو في جامع الصلاة، ويمكن حفظه إلى صفّ ذاك النهي التنزيهيّ، وذلك بالأمر الوجوبيّ بأصل الصلاة(1).

 


(1) لا يخفى أنّه بناءً على هذا الكلام لا يكون في المقام ظهور أصلا للنهي في كونه ناشئاً عن مبادئ فعليّة وغير مغلوبة؛ لأنّ منشأ هذا الظهور واضح عند العرف نفسه، وهو عدم إمكان صدور النهي من المبادئ المغلوبة، وهنا من الواضح عند العرف نفسه إمكان الجمع بين المبدأين الغالب والمغلوب بالأمر بالجامع والنهي عن الحصّة.

نعم، لو كان العرف لا يعرف ثبوت أو عدم ثبوت نكتة الظهور في مورد مّا لأمكن أن يقال: إنّ غلبة ثبوت تلك النكتة في نفسها هي المولّدة للظهور فيثبت الظهور، وذلك من

448

هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من العبادات المكروهة.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو العبادة التي تعلّق بها النهي التنزيهيّ وليس لها بدل، من قبيل صوم يوم عاشوراء لو قلنا بكراهته، ومن قبيل صوم يومين بعد عيد الفطر، فإنّه مكروه ـ فهنا يتبادر إلى الذهن عدم تماميّة الأجوبة السابقة:

أمّا الجواب بالحمل على الإرشاد إلى أقلّيّة الفضل أو أفضليّة البديل ـ أو قل: إلى الانتقال إلى البديل ـ فلأنّه لا بديل في المقام كي يرشد إلى الانتقال إليه.

وأمّا الجواب بصرف النهي إلى النهي عن الخصوصيّة دون الحصّة فلا أثر لذلك في المقام؛ لأنّ هذا الفرد من الصوم ملازم لتلك الخصوصيّة المنهيّ عنها، فيكون الامتثالان متضادّين دائماً وهو غير معقول.

وأمّا الجواب الثالث فأيضاً لا يأتي في المقام، فإنّ ملاك النهي إن فُرض كونه غالباً كان الصوم مبغوضاً بالفعل فكيف يكون عبادة؟ وإن فُرض مغلوباً فلا يعقل أن يستتبع النهي، فإنّ النهي هنا يفوّت الملاك الأهمّ على المولى؛ إذ لا بديل له هنا.

والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أجاب بتسليم أنّ النهي متعلّق بالصوم إلاّ أنّه ليس نهياً ناشئاً عن مفسدة ومبغوضيّة قائمة بالصوم، كي يلزم كون الصوم مبغوضاً بالفعل ويستحيل صحّته، وإنّما هو ناشئ من مصلحة قويّة في الترك، فروح النهي يكون


قبيل ظهور النهي في الانحلال الناشئ من غلبة انحلاليّة المفاسد، ففي مورد مّا لو لم يعرف العرف أنّ المفسدة انحلاليّة أو لا، بقي النهي على ظهوره في الانحلال.

أمّا في المقام فمن الواضح عند العرف إمكانيّة الجمع بين المبدأين وصدور النهي عن المبدأ المغلوب، وفي هذا الفرض نمنع بقاء ظهور للنهي في فعليّة المبادئ. نعم، مع حمل النهي على الحرمة وفرض عباديّة المتعلّق يكون المبدأ فعليّاً عند العلم بالحرمة من ناحية عدم إمكانيّة تحصيل ملاك الأمر؛ لأجل عدم تمشّي القربة، وهذا مطلب آخر.