415

من الداخل أو من الخارج، فإنّه على كلا التقديرين يكون دليل (لا تغصب) نافياً لا لأصل ملاك الصلاة بل لمساواته وأهمّيّته، ولا علم بكذب (لا تغصب) ولا إحراز للحكم خطاباً ولا ملاكاً.

 

رابعاً: ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل:

لو كان للواجب بدل عرضيّ كما في باب الصلاة والغصب مع وجود المندوحة، فأحد المرجّحات في باب التزاحم هو تقديم ما ليس له بدل على ما له البدل، وهذا يطبّق في المقام لو علم بوجود ملاك ما ليس له بدل من الخارج وذلك بالقطع الوجدانيّ؛ لأنّ المقتضي موجود وهو ملاك حرمة الغصب والمانع مفقود؛ فإنّ ما يتصوّر كونه مانعاً هو مصلحة الصلاة وهذه لا تمنع؛ لأنّها لا اقتضاء لها تجاه هذا الفرد بالخصوص؛ إذ بالإمكان الصلاة في مكان آخر.

أمّا لو كان الملاك محرزاً بنفس إطلاق الدليل فسوف يقع التكاذب بنحو لا يثبت أصل الملاك؛ لأنّ الإطلاق البدليّ لدليل (صلّ) يشمل الصلاة في المكان المغصوب، وهو لا يلائم مع أصل ثبوت الملاك لحرمة الغصب؛ إذ لو كانت مفسدة في الغصب لما كان يقتضي ملاك الصلاة جعل وجوبها مطلقاً يشمل الصلاة في المكان المغصوب؛ إذ كان بالإمكان تحصيل ملاك الصلاة بالصلاة في مكان آخر، إذن فالإطلاق البدليّ لدليل وجوب الصلاة ينفي بالالتزام أصل مفسدة الغصب في المجمع، فيكون التعارض تعارضاً بحتاً.

 

خامساً: ترجيح المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة:

وهذا حاله حال الترجيح بالأهمّيّة، أي: إنّه لو كانت الصلاة هي المشروطة بالقدرة العقليّة على تقدير ثبوت ملاكها فلو كان دليل ثبوت ملاكها عبارة عن إطلاق (صلّ) وقع طرفاً للمعارضة لإطلاق (لا تغصب). ولو كان ملاكها قد ثبت

416

بدليل خارجيّ لا يقاومه دليل المزاحم تقدّم على دليل حرمة الغصب.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّه لو علم بالملاك من الخارج وأنّه أهمّ أو بحكم الأهمّ ـ كأن يكون مشروطاً بالقدرة العقليّة في مقابل المشروط بالقدرة الشرعيّة، أو يكون تعيينيّاً في مقابل البدليّة ـ تقدّم على الآخر باعتبار العلم ببطلان ملاك الآخر. وأمّا لو لم يُعلم بثبوت الملاك من الخارج وكان إحرازه من الداخل ـ أي: من إطلاق المادّة أو الدلالة الالتزاميّة ـ أو احتملنا الأهمّيّة في كلّ واحد من الطرفين وقع التعارض لا محالة.

الآن نريد أن نتكلّم بعد فرض وقوع التعارض بين الدليلين ـ ولو بأن نختار مبنى المشهور القائل بأنّ التزاحم الملاكيّ لا يلحق بالتزاحم الحقيقيّ ـ في أنّ إحراز الملاكين هل له أثر بالنسبة للخطوات الثلاث التي تتّخذ بشأن المتعارضين أو لا؟

والخطوات الثلاث عبارة عن أنّه: أوّلا يحاول الجمع بينهما جمعاً عرفيّاً، وثانياً بعد العجز عن ذلك يفتّش عن الترجيح السنديّ لو كان التعارض بنحو التباين لا العموم من وجه، وثالثاً يقال بالتساقط، فنقول:

أمّا الجمع العرفيّ فيظهر من صاحب الكفاية أنّ كون الملاك محرزاً في مادّة التعارض هو بنفسه يمهّد لجمع عرفيّ، فإنّه إذا أحرزنا الملاكين وكان أحدهما أقوى حملنا دليل الحكم الآخر على الحكم الاقتضائيّ الشأنيّ ودليل ذي الملاك الأقوى على الحكم الفعليّ(1)، وهذا جمع عرفيّ في فرض إحراز الأهمّيّة، وإذا سلّمنا بعرفيّة هذا الجمع لا تصل النوبة إلى الخطوتين الأخيرتين.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 242 و 273 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

417

وتعليقنا على ذلك: أنّنا نتساءل هل يُعمل هذا الجمع العرفيّ إذا كان الملاك محرزاً من الخارج، أو يعمله إذا كان محرزاً من الداخل؟

ففي الفرض الأوّل لا معنى للجمع العرفيّ، فإنّ الجمع العرفيّ فرع التعارض وهنا لا تعارض؛ للعلم التفصيليّ بكذب ما هو غير أهمّ.

وفي الفرض الثاني نقول هنا صورتان: فتارة يفرض التعارض بنحو العموم من وجه مثل (أكرم الهاشميّ) و(لا تكرم الفاسق) وكنّا نعلم من الخارج أنّ الملاك في الوجوب متى ما ثبت فهو أقوى من ملاك الحرمة. واُخرى يفرض التعارض بنحو التباين مثل (صلّ) و(لا تصلّ).

أمّا في الصورة الاُولى فهنا كما يمكن الجمع بين الدليلين بالتحفّظ على إطلاق كلّ منهما لمادّة الاجتماع مع حمل (لا تكرم الفاسق) على الشأنيّة، كذلك يمكن تقييد هذا أو ذاك بإخراج مادّة الاجتماع عن إطلاقه، ولا موجب عرفاً لأولويّة أحد هذين التصرّفين على الآخر ونسبة العرف إلى كلّ من التصرّفين على حدّ سواء، والتعارض محذور يرفع بكلّ من التصرّفين والتأويلين.

وأمّا في الصورة الثانية فهنا حلّ التعارض لا يمكن أن يكون بالتقييد، فإنّهما واردان في موضوع واحد، لكن مع هذا لا نقبل الجمع العرفيّ بالحمل على الاقتضاء، فإنّ الحمل على الاقتضاء معناه أنّه حكم اقتضائيّ لولائيّ وأنّه لولا مصلحة غالبة لكانت الحرمة ثابتة، وهذا بحسب النظر العرفيّ ليس جمعاً وإنّما هو إلغاء.

وأمّا الترجيح السنديّ بعد فرض العجز عن الجمع العرفيّ فهل يجري ذلك في المقام بلا تأثّر بمعرفة اجتماع الملاكين أو لا؟

توضيح الكلام في ذلك: أنّ التعارض لو كان بنحو العموم من وجه فلا تجري المرجّحات السنديّة حتّى لو لم يحرز الملاك؛ لأنّ التعارض لا يسري إلى السند، ولو كان بنحو التساوي من حيث الموضوع والتباين في المفاد، فلا بأس بالرجوع

418

إلى المرجّحات السنديّة حتّى لو أحرز الملاكان، فإنّ التعارض على كلّ حال مستحكم بين الدلالتين المطابقيّتين على الحكم الفعليّ وتسري المعارضة إلى السند ويقدّم ما هو الأرجح سنداً لو كان ويسقط سند الآخر، وحينئذ لو كان الملاك محرزاً بنفس الدليل سقط إحرازه، ولو كان محرزاً من الخارج بقي إحرازه ثابتاً على حاله.

وللمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) هنا عبارة، وهي: أنّه «يقدّم الأقوى منهما دلالةً أو سنداً، وبطريق الإنّ يحرز به أنّ مدلوله أقوى مقتضياً»(1). ولقوله: «بطريق الإنّ يحرز به...» تفسيرات ثلاثة:

الأوّل: أن يقال(2): إنّ الدليل معلول للملاك الذي دلّ عليه، فيحرز بأقوائيّة المعلول أقوائيّة العلّة.

وهذا واضح البطلان؛ إذ من المعلوم أنّ الدليل ليس معلولا للمدلول حتّى نرى أنّهما هل يكونان من سنخ معلول وعلّة تكون أقوائيّة المعلول دليلا على أقوائيّة العلّة أو لا، وإنّما الدليل يكون متأخّراً ـ بالتأخّر الطبعيّ ـ عن وجود المدلول بما هو في صقع الدليل نظير تأخّر العلم عن المعلوم.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 273 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(2) كتبت هذه التفسيرات من دفتري الحاكي عن دورة سابقة. أمّا ما هو الموجود في دفتر بعض تلامذة اُستاذنا(رحمه الله)في التفسير الأوّل والذي ضرب عليه القلم وادّعى أنّه لم يفهم مقصود السيّد الاُستاذ فهو كما يلي: نسبة الحكم إلى الدليل نسبة المعلول إلى العلّة، وقوّة العلّة تستلزم قوّة المعلول، فكلّما يكون الدليل أقوى فالحكم المستكشف منه يكون أقوى، إلاّ أنّ هذا واضح البطلان؛ فإنّ المنكشف ليس معلولاً للكاشف وإنّما انكشف المنكشف بالكاشف، فالانكشاف هو المعلول دون المنكشف، انتهى.

419

الثاني: ما قاله بعض: من أنّ دليل ترجيح أحد الدليلين على الآخر كاشف عن أهمّيّة ملاك ذاك الحكم بناءً على أنّ الترجيح يكون من باب الطريقيّة لا الموضوعيّة، فإنّما نصبه المولى حفظاً لملاكات الواقع.

وفيه: أنّ أدلّة الوظيفة الظاهريّة ليس نصبها ناشئاً عن وجود الملاك في كلّ فرد فرد من الموارد، بل نصبها ناشئ عن وجود الملاك في المجموع من حيث المجموع، بمعنى أنّ المولى لمّا رأى ـ مثلا ـ أنّه لو أمر باتّباع خبر الأعدل استفاد العبد في الخارج عشرين ملاكاً من مجموع ملاكات الأحكام التي ورد فيها خبر العادل معارضاً بخبر الأعدل، ولو لم يأمر بذلك لم يستفد العبد هذا المقدار، فلذلك أمر باتّباع خبر الأعدل عند المعارضة بخبر العادل، فليس ذلك كاشفاً عن الملاك الشخصيّ حتّى يجعل دليلا على الأهمّيّة.

الثالث: أنّه بعد أن فُرضت حجّيّة أحد الدليلين لأجل الترجيح دون الآخر فقد دلّ ذلك الدليل بالمطابقة على فعليّة ذلك الحكم وبالالتزام على أقوائيّة ملاكه، فبطريق الإنّ اُحرز تعبّداً أقوائيّة ملاكه.

ثُمّ إنّنا وإن قلنا بالرجوع إلى المرجّح السنديّ عند إحراز الملاكين ـ لسريان التعارض إلى السند ـ ولكن قد يقال بأنّ هذا إنّما يتمّ إذا كان إحراز الملاكين من الخارج ولم نقبل الإحراز الداخليّ بلحاظ الدلالة الالتزاميّة مثلا، بدعوى أنّ الالتزاميّة تابعة للمطابقيّة، أمّا لو لم نرَ الالتزاميّة تابعة للمطابقيّة وقلنا في المقام: إنّه حتّى مع سقوط المطابقيّة نأخذ بالالتزاميّتين، وإنّ الالتزاميّة تكون حجّة بصورة مستقلّة عن المطابقيّة فحينئذ يقال بأنّ التعارض لا يسري إلى السند؛ إذ الدلالة الالتزاميّة لا زالت باقية على الحجّيّة وما معنى بقاؤها بلا سند؟! إذن، فلا معنى للرجوع إلى المرجّحات السنديّة.

إلاّ أنّ التحقيق عدم صحّة هذا التفصيل والصحيح هو الرجوع إلى المرجّحات

420

السنديّة مطلقاً، وذلك بتقريبين:

التقريب الأوّل: هو أنّ هذه المرجّحات العلاجيّة أهمّ أدلّتها هو الروايات، ومن الواضح أنّ العنوان المأخوذ في موضوع الأخبار العلاجيّة هو أنّه جاء خبران مختلفان، ومن الواضح أنّ هذا العنوان صادق في المقام(1) سواء اقتضت صناعة الاُصول سريان التعارض إلى السند أو لا، فإنّه لم يؤخذ في موضوع تلك الروايات عنوان سراية التعارض إلى السند وإنّما المأخوذ عنوان الاختلاف، إذن فنفس الأخبار العلاجيّة دليل على أنّ الإمام جعل الاختلاف ضابطاً كاملا لسريان التعارض إلى السند وطرح سند الآخر بالترجيح.

بل لو استشكلنا في صدق التعارض السنديّ في المقام فقلّ ما يتّفق عدم ثبوت دلالة التزاميّة غير مبتلاة بالمعارض في باب التعارض، فيلزم إلغاء الأخبار العلاجيّة عرفاً.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّ الدلالة الالتزاميّة لو كانت التزاميّة لإطلاق الكلام، كَأن يدلّ ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾ بالإطلاق على صحّة البيع المعاطاتيّ، ويدلّ هذا الإطلاق بالالتزام على صحّة الإجارة المعاطاتيّة، فهنا من الواضح أنّ المدلول المطابقيّ ـ وهو الإطلاق ـ لو سقط بالتعارض عن الحجّيّة لم يسقط السند، ولو سقط الإطلاق أخذنا بدلالته الالتزاميّة بنفس ذلك السند بناءً على أنّ الالتزاميّة لا تسقط بسقوط المطابقيّة.


(1) وبكلمة اُخرى: قد يقال: إنّ عنوان (خبران مختلفان أحدهما يأمر والآخر ينهى) ونحو ذلك لا يشمل فرض التعارض بالعموم من وجه؛ لأنّ الاختلاف فيه ليس صارخاً بذاك الشكل، ولكن لا شكّ في شموله للتعارض الكامل بين المدلولين المطابقيّين ولو لم يكن تعارض بين الالتزاميّين.

421

أمّا في المقام فالدلالة الالتزاميّة مستفادة من أصل الخطاب لا من إطلاقه، فلو قُصد بكون الدلالة الالتزاميّة مستقلّة عن المطابقيّة في الحجّيّة أنّ الراوي شهد بشهادتين: شهد بالمدلول المطابقيّ وشهد بالمدلول الالتزاميّ، فإن سقطت الاُولى فلتبق الثانية فهنا من الواضح أنّه إذا سقطت الاُولى كان معنى ذلك سقوط سند الشهادة الاُولى، غاية الأمر أنّ التعارض السنديّ يكون بين سندي المدلولين المطابقيّين، فيدخل في الأخبار العلاجيّة.

نعم، لو كان مدّعى القائل باستقلال الدلالة الالتزاميّة في الحجّيّة في المقام: أنّه يتحصّل من كلام الراوي كلام واحد، وهو (صلّ) مثلا، وهذا يدلّ على شيئين: الوجوب والملاك، والملاك يثبت وإن لم يثبت الوجوب، فهنا لا يسري التعارض إلى السند(1).

وأمّا التساقط بعد عدم إمكان الجمع العرفيّ وعدم إمكان الترجيح فإذا افترضنا


(1) كأنّ المقصود أنّه لو كانت المطابقيّة والالتزاميّة جزءين عرضيّين لمدلول واحد، بحيث أمكن افتراض صدق السندين ولو بصرفهما إلى الجزءين غير المتعارضين وافتراض خروج الجزءين المتعارضين أو أحدهما عن المقصود كما هو الحال في المتعارضين بالعموم من وجه، أمكن القول بأنّ التعارض لم يسر إلى السند، كما نقول بذلك في العموم من وجه، فإنّنا نصدّق السندين ولو بلحاظ مادّتي الافتراق ونفترض خروج مادّة الاجتماع عن المقصود في أحد النقلين أو كليهما، فالخلل إنّما هو في الدلالة دون السند.

ولكن في المقام تكون الدلالة الأصليّة الأوّلية عبارة عن المطابقيّتين وتفرّعت عنهما الالتزاميّتان، ولا يصحّ عرفاً افتراض صدق كلا السندين بصرفهما إلى الالتزاميّتين وافتراض خروج إحدى المطابقيتين عن مقصود الناقل، فالتعارض سار إلى سندي المطابقيّتين حتماً، سواءً آمنّا بأنّ الالتزاميّة تابعة للمطابقيّة في الحجّيّة فقد سقط السند حتّى بلحاظ الالتزاميّة، أو آمنّا بأنّ المطابقيّة والالتزاميّة بمنزلة شهادتين لو سقطت الاُولى سنداً لا يؤدّي ذلك إلى سقوط الثانية سنداً.

422

أنّنا نقول بالتساقط الجزئيّ في موارد التعارض، أي: إنّنا نلتزم بنفي الثالث، فلا فرق بين فرض إحراز الملاكين وعدمه.

أمّا لو التزمنا بالتساقط الكلّيّ في باب التعارض ـ كما هو الصحيح ـ فالفرق بين الفرضين أنّه في غير موارد إحراز الملاكين قد نرجع بعد التساقط إلى أصل ينفي كلا الحكمين. أمّا في المقام فالرجوع إلى أصل ينفي كلا الحكمين إنّما يجوز لو لم يفوّت الملاكين، كما لو ورد (صلّ) و(لا تصلّ) وأحرزنا الملاكين فنرجع بعد التساقط إلى الأصل العمليّ ولا بأس به، سواءً كان مفاده الوجوب أو الحرمة أو الإباحة، فإنّ الأوّل يطابق (صلّ) والثاني يطابق (لا تصلّ) والثالث وإن كان ينفي كلا الحكمين لكنّه يطابق فرض تكافؤ الملاكين.

ونذكر مثالين لعدم جواز الرجوع إلى الأصل المفوّت لكلا الملاكين:

المثال الأوّل: أن يقع التزاحم بين أمرين بضدّين بينهما تضادّ دائميّ ولهما ثالث، كالالتفات إلى الجنوب والالتفات إلى الشمال (أمّا لو كان التضادّ اتفاقيّاً دخل في التزاحم الحقيقيّ)، فالتعارض هنا يكون عندنا تعارضاً بين إطلاق الدليلين المقتضي للتعيينيّة. ولكن لو بنينا على ما يقوله المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّ التعارض بين أصل الخطابين فهنا لو افترضنا إحراز الملاكين لم يمكن الرجوع إلى أصالة البراءة عن الوجوبين؛ لأنّها تفوّت الملاكين، ونحن نعلم بأنّ الملاكين لو كانا متساويين ثبت التخيير وإلاّ تعيّن أحدهما. نعم، يمكن الرجوع إلى البراءة عن تعيين أحدهما.

المثال الثاني: أن يرد دليل مطلق ودليل أخصّ، لكنّ الأخصّ يكون شبيهاً للمتساوي بنحو لا يصلح أن يكون مقيّداً، مثل (لا تصلّ) و(صلّ في مكان نظيف) لو فُرض أنّ الصلاة في مكان غير نظيف فرد نادر، فلا يمكن تقييد المطلق به، فلو فُرض عدم إحراز الملاكين أمكن إجراء البراءة عنهما بحيث يجوز الإتيان بمادّة

423

الافتراق من طرف النهي. أمّا مع فرض إحراز الملاكين فلا يجوز الإتيان بمادّة الافتراق من طرف النهي؛ لأنّها مفوّتة لكلا الملاكين.

 

حكم العمل في المجمع بناءً على الأقوال:

التنبيه السادس: في البحث عن صحّة العمل في المجمع على الأقوال:

فلو قيل بامتناع الاجتماع مع تقديم جانب الوجوب فلا إشكال في صحّة العمل حتّى ولو كان عباديّاً، وسواءً علم المكلّف بملاك الحرمة المغلوب أو كان جاهلا.

ولو قيل بجواز الاجتماع فلو لم توجَد المندوحة وقع التزاحم بين الأمر والنهي، فلو قلنا بالترتّب أو أحرزنا الملاك صحّ العمل(1)، وإلاّ لم يصحّ العمل سواءً كان تعبّديّاً أو توصّليّاً. ولو وُجدت المندوحة فهنا لا تعارض ـ لجواز الاجتماع ـ ولا تزاحم ـ لوجود المندوحة ـ إلاّ على مبنى الميرزا القائل باختصاص متعلّق الخطاب بالمقدور عقلا وشرعاً، والحرمة تجعله غير مقدور؛ لأنّه على الأقلّ ملازم للحرام(2) فلابدّ من تصحيحه بالترتّب أو بالملاك.

وأمّا إذا بنينا على امتناع الاجتماع وقدّمنا النهي: فتارة يُفترض العلم بالنهي،


(1) نعم، بناءً على كون ملاك جواز الاجتماع هو تعدّد العنوان لا المعنون مع كون العمل قربيّاً يبطل العمل، لكن هذا داخل في التحفّظ الثالث له(رحمه الله) الذي تحفّظ به عن مسألة جواز الاجتماع بمجرّد تعدّد العنوان، ولعلّه لهذا لم يرَ هنا حاجة إلى الإشارة إلى ذلك؛ إذ كان فرض جواز الاجتماع في العباديّات بناءً على هذا التحفّظ يساوق فرض تعددّ المعنون.

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 1 و 2، ص 442.

424

واُخرى يُفترض الجهل به، فإن كان معلوماً فيقال بالتفصيل بين ما إذا كان عباديّاً فيبطل؛ لاستحالة التقرّب به. وأمّا إذا كان توصّليّاً فيصحّ لو اُحرز الملاك وإلاّ لم يصحّ؛ لعدم العلم باستيفاء الملاك به. وأمّا مع الجهل فقد يقال بأنّ المجمع يكون صحيحاً ولو كان عباديّاً، وسيتّضح الحال في ذلك.

 

الصلاة في المكان المغصوب مع الجهل:

ثُمّ إنّ المشهور قد أفتوا بصحّة الصلاة في المكان المغصوب مع الجهل به بينما أفتوا بالبطلان في صورة العلم، وهذه الفتوى هي التي أثارت الإشكال المعروف والذي أجاب عليه في الكفاية بعدّة أجوبة(1)، وهذا الإشكال هو: أنّه لو قلنا بجواز الاجتماع فلتصحّ الصلاة مطلقاً، وكذا لو قلنا بالامتناع مع تقديم الأمر، أمّا مع تقديم النهي فتتقيّد الصلاة بالمكان غير المغصوب، فتبطل في المكان المغصوب مطلقاً، فما معنى التفصيل؟!

وما قيل أو يمكن أن يقال في مقام تخريج هذه الفتوى عدّة وجوه:

الوجه الأوّل: ما اُشير إليه في الكفاية(2)، وحاصله مركّب من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الأحكام إنّما تكون متضادّة ومتنافية بمرحلة فعليّتها لا بمرحلة وجودها الإنشائيّ.

الثانية: أنّ الحكم ما لم يصل لا يصبح فعليّاً.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 246 ـ 248 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(2) أشار إليه في الكفاية بقوله في ص 248 بحسب الطبعة الماضية: وأمّا لو قيل بعدم التزاحم إلاّ في مقام فعليّة الأحكام لكان ممّا يسعه وامتثالا لأمرها بلا كلام.

425

وهذا ينتج أنّه بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي إنّما يكون الامتناع والتقديم فيما إذا كان الأمر والنهي فعليّين، وذلك بالوصول وإلاّ لما كان بينهما تضادّ، إذن فلا مانع عن التمسّك بإطلاق الوجوب بلحاظ حال الجهل بالحرمة.

ويرد عليه:

أوّلا: النقض بأنّه لو تمّ هذا للزم جريانه في سائر موارد التعارض، فلو ورد (أكرم كلّ هاشميّ) وورد (لا تكرم أيّ فاسق) وقدّم الدليل الثاني على الأوّل لمرجّح مّا فلا إشكال في سقوط الوجوب عن إكرام الهاشميّ الفاسق وإن لم يُعلم بفسقه، مع أنّ نفس البيان يأتي هنا.

بل لو تمّ هذا الكلام للزم إسراؤه إلى مثل موارد التخصيص أيضاً، فلو قال في الدليل الثاني: (لا تكرم الهاشميّ الفاسق) فهنا أيضاً يمكن أن يقال: إنّ الخاصّ إنّما يقيّد العامّ بالمقدار الذي يكون مضادّاً له، والتضادّ إنّما يكون بلحاظ الفعليّة التي هي عند الوصول، ومع عدم العلم بالفسق لم يتمّ الوصول.

وثانياً: الحلّ بأنّه لو اُريد بالفعليّة التنجّز بحكم العقل وترتّب العقاب على الترك منعنا المقدّمة الاُولى؛ إذ يكفي في التعارض أن يكون على طبق الحكم الحبّ والبغض، فيتمانعان وإن لم يصل إلى مرحلة التنجّز. ولو اُريد بالفعليّة الإرادة والحبّ الفعليّ في مقابل مجرّد إنشاء المعنى باللفظ منعنا المقدّمة الثانية؛ فإنّ كلّ دليل ظاهر في أنّ المولى في مقام التحريك فعلا، فيكشف عن فعليّة الحكم وإن لم يصل الدليل(1).


(1) ولو اُريد بالفعليّة كون المولى في مقام التحريك فعلا بالنحو الذي لا يعقل اجتماعه مع البراءة الشرعيّة منعنا المقدّمة الاُولى؛ فإنّ التعارض والتمانع يحصل بما هو أقلّ من ذلك، أي: بمجرّد الحبّ والبغض بالنحو الذي يجتمع مع البراءة الشرعيّة.

426

الوجه الثاني: أيضاً مستفاد من كلمات المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1)، لكن لا بنحو التبنّي بل بنحو الإشارة، وحاصله: أنّ الأحكام الشرعيّة لا إشكال في أنّها تتبع المصالح والمفاسد. وفي هذا الوجه يُدّعى أنّها تتبع المصالح والمفاسد لا بما هي هي بل بما هي موجبة للحسن والقبح، والمصلحة والمفسدة ما لم تصلا لا توجبان الحسن والقبح.

وهذا الوجه أيضاً غير صحيح ويرد عليه:

أوّلا: النقض السابق.

وثانياً: أنّ هذا البيان لو تمّ لاختصّ بالجهل بالموضوع دون الجهل بالحكم؛ لأنّ العلم بالمفسدة كاف في تأثيرها في القبح، مع أنّ الذين أفتوا بصحّة الصلاة مع الجهل لم يفرّقوا بين الجهل بنحو الشبهة المصداقيّة والجهل بنحو الشبهة الحكميّة.

وثالثاً: أنّ ما قام عليه الدليل باعتبار حكمة المشرّع إنّما هو تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد لا لهما عند تأثيرهما في الحسن والقبح، ومن الواضح أنّه ليست كلّ مصلحة مستتبعة للحسن، ولا كلّ مفسدة مستتبعة للقبح، فما هي النتيجة المقصودة من القول بتبعيّة الأحكام للمصلحة والمفسدة بما هي مؤثّرة للحسن والقبح؟ إن كان المقصود تخصيص الحكم بفرض وصول العنوان الذي فيه مصلحة


(1) مستفاد من قوله ـ في الكفاية، ج 1 ص 247 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ ـ: «بناءً على تبعيّة الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً، لا لما هو المؤثّر منها فعلا للحسن أو القبح؛ لكونهما تابعين لما عُلم منهما كما حقّق في محلّه»، فإنّ هذا الكلام ـ كماترى ـ يشير إلى إمكانيّة البناء على خلاف هذه التبعيّة، أي: البناء على تبعيّة الأحكام لما هو المؤثّر فعلا للحسن والقبح لا الأقوى منهما ولو غير المؤثّر في الحسن والقبح، والتأثير في الحسن والقبح تابع للوصول.

427

أو مفسدة فهذا لا يكفي في ترتّب الحسن والقبح، وإن كان المقصود تخصيص الحكم بفرض العلم بنفس المصلحة والمفسدة فهذا واضح البطلان، فإنّ العلم بالمصلحة والمفسدة إنّما يأتي غالباً من قِبَل نفس دليل الوجوب والحرمة.

الوجه الثالث: أيضاً لصاحب الكفاية، وهو مبنيّ على أصل موضوعيّ فرغ منه فيما تقدّم، وهو ثبوت كلا الملاكين في المجمع، فيقال: إنّه مع العلم بالحرمة تبطل الصلاة وإن كان الملاك ثابتاً؛ وذلك لأنّ الحرمة أصبحت منجّزة فيقبح العمل، ولا يمكن التقرّب بالقبيح. وأمّا في فرض عدم تنجّز الحرمة فتصحّ العبادة؛ لأنّ صحّة العبادة تتوقّف على أمرين: أحدهما كون الفعل واجداً للملاك وهو ثابت، والثاني أن يأتي به بداع قربيّ وهذا ممكن في المقام، بأن يأتي بداعي الملاك ـ بل وحتّى بداعي الأمر، فإنّه يتخيّل أنّه مأمور به(1) ـ ولا قبح يمنع عن التقرّب؛ لأنّ القبح من شؤون تنجّز الحرمة لا واقع الحرمة.

وقد اعترض السيّد الاُستاذ(2) على ذلك بما يرجع حاصله إلى أنّ صحّة العبادة والتقرّب بلحاظ الملاك إنّما يكون فيما إذا لم يكن الملاك مغلوباً ومندكّاً كما هو المفروض في المقام؛ إذ المفروض هو الامتناع وتقديم جانب النهي، وهذا يعني أنّ المصلحة مندكّة والمحبوبيّة مضمحلّة، فلا يمكن التقرّب بهذا الفعل إلى المولى.

وكأنّه ـ دامت بركاته ـ يفترض ثلاثة شروط في صحّة العبادة: الملاك،


(1) علّل في الكفاية إمكانيّة حصول قصد الأمر بأنّ المجمع واجدٌ لنفس الغرض الذي وجب لأجله العمل في غير المجمع، وعدم شمول الإطلاق لهذا الفرد إنّما هو لأجل المانع لا لعدم المقتضي، فنفس الأمر بالطبيعيّ في غير مورد المجمع كاف في الدفع نحو الإتيان بالمجمع؛ لأنّنا نعلم أنّ المجمع يحصّل غرض المأمور به.

(2) راجع المحاضرات، ج 4، ص 236 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.

428

وصلاحيّة التقرّب، وقصد التقرّب، ويقول: إنّ الشرط الثاني غير موجود.

وهذا الاعتراض لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ صلاحيّة الفعل لأن يتقرّب به مربوطة بمقدار إحراز المكلّف للجهات لا بالجهات الواقعيّة، ولهذا قد يكون الشيء مبغوضاً محضاً في الواقع ولكن في وجهة نظر العبد يكون مقرّباً فيصحّ التقرّب به، مثل إكرام عدوّ المولى بتخيّل أنّه ابنه، فكلام صاحب الكفاية صحيح إلاّ في أصله الموضوعيّ وهو افتراض ثبوت الملاكين في المجمع.

وهذه الوجوه الثلاثة كلّها مبنيّة على القول بالامتناع، وأمّا على الجواز فكأنّه لم يستشكل صاحب الكفاية في الصحّة حتّى على فرض العلم بالحرمة.

الوجه الرابع: ما عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وهو مبنيّ على جواز الاجتماع، وكأنّه يرى أنّه على الامتناع لابدّ من الالتزام بالفساد مطلقاً، فإنّه مع الامتناع يقيّد الأمر بغير المجمع. وحاصل هذا الوجه: أنّه مع العلم بالحرمة لا يصحّ العمل لا بالأمر العرضيّ ولا بالأمر الطوليّ الترتّبيّ ولا بالملاك:

أمّا الأمر العرضيّ، أي: في عرض النهي عن الغصب، فلا وجود له أصلا، وذلك بناءً على مبناه من أنّ الوجوب المتعلّق بالطبيعيّ لا يُعقل شموله للفرد غير المقدور، سواءً كان غير مقدور عقلا أو غير مقدور شرعاً، بل يختصّ بخصوص الحصّة المقدورة فيقول: إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي فهذا معناه أنّ اجتماع الوجوب والحرمة لا يلزم منه اجتماع الضدّين، لكن يلزم ثبوت التزاحم بين حرمة الغصب وإطلاق دليل الواجب، والقول بجواز الاجتماع وإن كان يعني أنّ التركيب انضماميّ، فهنا وجودان: أحدهما واجب والآخر حرام، إلاّ أنّه حيث إنّ أحدهما ملازم للآخر فيكون غير مقدور، وحينئذ إذا علم بالحرمة ثبت التزاحم، وإذا قُدّمت الحرمة على الوجوب بالأقوائيّة استحال بقاء إطلاق الواجب لهذا الفرد على حاله.

429

وأمّا الأمر الترتّبيّ فأيضاً لا يوجد في المقام بأن يثبت الإطلاق في طول الغصب؛ وذلك لما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الترتّب في موارد اجتماع الأمر والنهي غير معقول وإنّما يعقل في ضدّين وجوديّين، إذن فلا أمر بالنسبة إلى هذا الفرد لا الأمر الأوّليّ ولا الأمر الترتّبيّ.

فلم يبق إلاّ الملاك، وهو يقول: إنّ الملاك أيضاً لا يمكن التقرّب به؛ فإنّ الملاك مزاحم بقبح فاعليّ(1)، فإنّنا وإن قلنا بجواز الاجتماع وهذا يعني أنّ التركيب انضماميّ ولكن هذان الموجودان وُجدا بإيجاد وبحركة واحدة، وحيث إنّ أحدهما معصية وإيجاد القبيح قبيح، إذن فهذا الإيجاد الموحّد لهما يصبح قبيحاً. وهذا ما نسمّيه بالقبح الفاعليّ، يعني: أنّ الإيجاد قبيح في قبال القبح الفعليّ الذي يعني: أنّ الوجود قبيح، وحينئذ لا يمكن التقرّب بهذا الإيجاد.

وأمّا إذا لم تكن الحرمة منجّزة فلا تزاحم(2) أصلا، فإنّ التزاحم بين الخطابين فرع وصولهما، وبرهان هذا تقدّم في بحث التزاحم، وإذا لم يقع تزاحم بقي إطلاق الوجوب على حاله ويكون مقرّباً بلا قبح فعليّ وبلا قبح فاعليّ(3).


(1) لا يخفى أنّ هذا البيان لإبطال الصلاة بقصد الملاك لو تمّ ثبت أيضاً عدم صحّة الصلاة بالأمر العرضيّ أو الترتّبيّ حتّى لو لم نقل باستحالة الأمر العرضيّ أو الترتّبيّ في حدّ ذاتهما.

(2) بل حتّى لو قيل بالتزاحم وتقديم النهي صحّ العمل بالملاك على مبنيي المحقّق النائينيّ(رحمه الله)؛ لأنّ القدرة غير دخيلة في الملاك، فالملاك موجود في حال التزاحم، والقبح الفاعليّ غير موجود؛ لعدم تنجّز الحرمة.

(3) راجع فوائد الاُصول، ج 1 و 2، ص 442 ـ 443 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وأجود التقريرات، ج 1، ص 369 ـ 370 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

430

ولنا حول هذا الكلام ثلاث ملاحظات:

الملاحظة الاُولى: المنع عن وقوع التزاحم في مثل المقام؛ لمعقوليّة تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور عندنا.

الملاحظة الثانية: أنّه لو سُلّم التزاحم أو افترضنا عدم المندوحة بحيث ثبت التزاحم فالترتّب معقول على ما حقّقناه في أبحاثنا الماضية.

الملاحظة الثالثة: في مناقشة ما ذكره من القبح الفاعليّ، فنقول: إنّ الإيجاد والوجود إن بنينا على أنّهما متّحدان حقيقة ومختلفان اعتباراً كما هو الصحيح، إذن فبناءً على الجواز وكون التركيب انضماميّاً يكون الإيجاد متعدّداً، فإنّه عين الوجود، فلا قبح فاعليّ في الصلاة.

وإن بنينا على أنّ الإيجاد مغاير للوجود فإمّا أن نلتزم بأنّ كلّ وجود له إيجاد يخصّه، أو نتعقّل أن يكون لوجودين إيجاد واحد: فعلى الأوّل أيضاً لا يثبت القبح الفاعليّ، وعلى الثاني فغايته أنّ الإيجاد يكون مقدّمة للحرام وهو الوجود كما أنّه مقدّمة للواجب، وحينئذ لا نسلّم بوجود قبح فاعليّ فيه، فإنّ الإيجاد ليس هو المحرّم وإنّما هو مقدّمة للحرام، ولا نسلّم بأنّ مقدّمة الحرام تكون مبعّدة؛ لما تقدّم في محلّه من أنّ استحقاق الثواب والعقاب إنّما يترتّب على ذي المقدّمة دون المقدّمة(1). ثُمّ لو سلّمنا أنّ المقدّمة أصبحت قبيحة فلماذا لا يمكن التقرّب بذي المقدّمة؟!

الوجه الخامس: ما نأخذه روحاً من المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ولكن نغيّر جزءاً من


(1) لا يخفى أنّ علّة الحرام تكون مبعّدة ولو بسبب مساوقتها لنفس الحرام، بأن يكون العقاب عقاباً على الحرام لا على علّته. وإن شئت فقل: إنّ علّة الحرام مبغوضة بالأخرة ولو غيريّاً، ولا يمكن التقرّب بالمبغوض.

431

كلامه، وذلك بأن نقول: إنّه بناءً على الجواز يثبت التزاحم بين الحرمة وإطلاق الوجوب، ونقول أيضاً بعدم إمكان الأمر الترتّبيّ في المقام، ولكن لا نقول بعدم تصحيح العمل بلحاظ القبح الفاعليّ، بل نقول: إنّه لا كاشف عن الملاك؛ لأنّ الكاشف هو الأمر وهو غير موجود.

وبهذا التغيير يندفع الإشكال الثالث ممّا أوردناه على المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ولكن يبقى الأوّل والثاني.

الوجه السادس: أنّنا إذا بنينا على جواز الاجتماع بملاك أنّ الأمر متعلّق بالجامع والنهي متعلّق بالحصّة ولا يسري أحدهما إلى متعلّق الآخر، فتصحّ الصلاة عند الجهل بالحرمة؛ لإمكان التقرّب مادامت الحرمة غير منجّزة، وتبطل عند العلم بها؛ لأنّ الحرمة منجّزة فيصبح العمل مبعّداً عن المولى. وهذا خير تخريج يمكن أن يوجّه به هذا التفصيل.

الوجه السابع: أن يبنى على جواز الاجتماع بملاك تعدّد العنوان دون المعنون، فأيضاً يقال بأنّه مع الجهل تصحّ الصلاة؛ لإمكانيّة التقرّب مادام النهي غير منجّز، ومع العلم تبطل؛ لما يأتي من أنّ التقرّب من شؤون الوجود الخارجيّ لا من شؤون العنوان، فتعدّد العنوان لا يكفي في إمكان التقرّب بهذا الوجود وإنّما يفيد تعدّد العنوان بلحاظ عالم الأمر والنهي دون عالم المقرّبيّة والمبعّديّة.

وأمّا الملاك الثالث للجواز ـ أعني: إنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ـ فلا يمكن على أساسه تخريج صحيح لبطلان العبادة في فرض العلم بل لابدّ من الحكم بصحّة العبادة مطلقاً.

الوجه الثامن: أن يبنى على القول بالامتناع بنكتة استبطان الأمر بالجامع للترخيص في الحصّة، فيقال: إنّه مع العلم بالحرمة تبطل الصلاة؛ لانسحاب الأمر عن الجامع كي لا يلزم الترخيص في الحرام. أمّا مع الجهل بالحرمة فتصحّ الصلاة؛

432

لأنّه لا موجب لانسحاب الأمر عن الجامع كي لا يلزم الترخيص في الحرام؛ فإنّ الترخيص في الحرام المجهول لا بأس به بل هو ثابت ولو بالبراءة الشرعيّة.

وتحقيق الحال في ذلك: أنّه إن كان المقصود من استبطان الأمر بالجامع للترخيص في التطبيق كون إطلاق الواجب بعينه عبارة عن الترخيصات في التطبيق فهذا الترخيص ترخيص واقعيّ، ولا يمكن الترخيص الواقعيّ في الحرام، وأمّا الترخيص الثابت بالبراءة الشرعيّة فهو ترخيص ظاهريّ.

وإن كان القائل باستبطان الأمر بالجامع للترخيص ملتفتاً إلى أنّ الإطلاق ليس عدا رفض القيود، غاية الأمر أنّه يدّعي استلزام الأمر بالجامع للترخيص في التطبيق، فحينئذ لو كان يقول بأنّ الأمر بالجامع يستلزم الترخيص العمليّ بحيث لو أقدم على الفعل لا يكون عليه عتاب، فمثل هذا الترخيص موجود في المقام ولا بأس بفرض إطلاق الأمر.

ولو كان المقصود أنّ الإطلاق الواقعيّ يستلزم الترخيص الواقعيّ فأيضاً لا يتمّ هذا الوجه.

الوجه التاسع: أن يبنى على الامتناع لا بنكتة استبطان الأمر بالجامع للترخيص في التطبيق، بل بدعوى التنافي بين نفس وجوب صِرف الوجود وحرمة الحصّة ويقال: إنّه لا ينحصر رفع المنافاة بتقييد الأمر بالصلاة بعدم النهي مطلقاً، بل يكفي في رفعها تقييد الأمر بعدم النهي المعلوم، فيصبح الأمر مترتّباً على عدم وصول النهي، فيكون الأمر في طول النهي، فيكون الأمر والنهي في رتبتين لا في رتبة واحدة، فيرتفع التضادّ.

وأوضح ما يمكن أن يشكل به على هذا ما قلناه في بحث الترتّب: من أنّ تعدّد الرتبة لا يرفع محذور التضادّ؛ فإنّ الميزان في التضادّ هو وحدة الزمان لا وحدة الرتبة، فمثلا السواد والبياض يستحيل اجتماعهما في لحظة واحدة ولو في رتبتين

433

كَأن يكون أحدهما علّة للآخر(1).

الوجه العاشر: أنّه بناءً على الامتناع وإن لم يكن الملاك في المجمع محرزاً بإطلاق المادّة أو بالدلالة الالتزاميّة، كي يتأتّى ما مضى من الوجه الثالث من أنّه تصحّ الصلاة الواجدة للملاك لو تمشّت القربة، والقربة تتمشّى مع الجهل بالحرمة، ولكن عدم الملاك أيضاً غير محرز؛ فإنّ ما يمكن أن يُحرز به عدم الملاك هو افتراض أنّ مادّة الصلاة في (صلّ) مقيّدة بغير الصلاة في المجمع، وأنّ هيئة (صلّ) مطلقة تشمل حتّى فرض الإتيان بالصلاة في المجمع، فيصبح هذا دليل على أنّ الأمر بالصلاة في غير المجمع يشمل حتّى من صلّى في المجمع.

ولكن لا دليل على صحّة هذا الافتراض، فإنّ (لا تغصب) وإن دلّ على لزوم إدخال قيد في (صلّ) كي لا يلزم اجتماع الأمر والنهي، ولكن كون هذا القيد راجعاً إلى المادّة لا الهيئة غير معلوم، ومعه لا نجزم بعدم الملاك في المجمع.

وحينئذ نقول: إنّه مع العلم بالحرمة لا إشكال في بطلان الصلاة بعد فرض تقديم الحرمة؛ لعدم تمشّي القربة. أمّا مع الجهل بالحرمة وتمشّي القربة فبالإمكان الحكم بتصحيح الصلاة وذلك بالتمسّك بالبراءة، فإنّنا إن تكلّمنا بلحاظ عالم الملاك أمكن أن يقال: إنّنا شككنا أنّ خصوصيّة إباحة المكان ـ مثلا ـ هل هي دخيلة في الملاك


(1) ويمكن أن يشكل أيضاً على هذا الوجه بمنع كون ما في طول أحد النقيضين في طول النقيض الآخر، فلنفرض أنّ الأمر في طول عدم وصول النهي ولكن هذا لا يعني أنّه في طول وصول النهي الذي هو في طول النهي.

على أنّه لو كان تعدّد الرتبة رافعاً للتضادّ فليقيّد الأمر بفرض العلم بالنهي، فما الذي يرجّح تقييده بفرض الجهل بالنهي على تقييده بفرض العلم به؟! ومقصودي من تقييد الأمر بفرض العلم بالنهي هو تقييده بالجامع بين أن لا يكون نهي وأن يكون عالماً بالنهي، فلا يقال: إنّ الأمر يصبح لغواً؛ إذ مع العلم بالنهي لا يمكن التقرّب.

434

أو لا، فنجري البراءة عن دخلها في الملاك. وإن تكلّمنا بلحاظ عالم الخطاب والجعل قلنا: إنّ فرض عدم دخل تلك الخصوصيّة في الملاك يعني أنّ الأمر يسقط بالإتيان بالصلاة في المجمع، رغم أنّ الصلاة في المجمع ليست داخلة تحت الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر بالصلاة مشروط بعدم الإتيان بالفرد الذي أصبح مجمعاً، وفرض دخلها في الملاك يعني عدم سقوط الأمر بالإتيان بالمجمع، وهذا يعني إطلاق الأمر، إذن فالشكّ في دخلها في الملاك وعدمه يرجع إلى الشكّ في كون الوجوب مشروطاً أو مطلقاً، فنجري البراءة عن إطلاق الوجوب.

وهذا الوجه أيضاً غير صحيح؛ لما حقّقنا في محلّه من أنّه عند دوران الأمر بين تقييد المادّة وتقييد الهيئة يتقدّم تقييد المادّة؛ لأنّها تقييد على كلّ حال فيدفع احتمال تقييد الهيئة بالإطلاق، فيثبت أنّ المادّة مقيّدة والهيئة مطلقة، فما مضى من عبارة «لا دليل على صحّة هذا الافتراض» غير صحيح(1).

 


(1) ولا يخفى أنّ هذا الوجه لو كان تامّاً أمكن تصحيح الصلاة به حتّى في الجهل التقصيريّ.

وهناك وجهٌ آخر للتصحيح عند الجهل والنسيان في خصوص الصلاة، وهو التمسّك بقاعدة (لاتعاد)، ولو صحّ ذلك صحّ حتّى في الجهل عن تقصير بناءً على ما هو التحقيق من شمول قاعدة (لا تعاد) للجاهل المقصّر.

ويمكن المناقشة في هذا الوجه بأن يقال: إنّ (لا تعاد) إنّما تنظر إلى نفي الإعادة من ناحية غير الاُمور الخمسة من الأجزاء والشرائط ممّا ليس دخيلا في صحّة أحد الاُمور الخمسة بالذات، وإنّما يكون دخله فيها من باب الدخل في المجموع المركّب المسمّى بالصلاة، فمثلا لو نسي التشهّد فليس دخل التشهّد في الركوع أو السجود اللذين هما من الاُمور الخمسة إلاّ من باب دخله في أصل الصلاة.

435


أمّا لو نسي وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه فسجد على ما لا يصحّ السجود عليه، فهذا في الحقيقة داخل في المستثنى لا في المستثنى منه، أي: أنّ صلاته بطلت؛ لأنّ سجوده بطل وهو من الاُمور الخمسة، فلا يقال بصحّة صلاته من باب احتفاظه بأصل السجود وبباقي الاُمور الخمسة، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ السجود أيضاً أصبح غصباً أو الركوع أصبح غصباً فبطل، فكأنّه لم يسجد أو لم يركع، فبطلت صلاته ببطلان بعض الاُمور الخمسة.

ويمكن أيضاً المناقشة في هذا الوجه بمناقشتين اُخريتين ولكنّهما جميعاً قابلتان للنظر:

الاُولى: أنّ (لا تعاد) تنظر إلى الشرائط الأوّليّة التي اُخذت في الصلاة مباشرة، لا إلى شرط اتّخذ في طول مصادمة دليل (صلّ) لدليل حكم آخر لا علاقة له مباشرة بعنوان الصلاة كـ (لا تغصب).

وفيه: أنّ هذا التصادم لم يفترض إلاّ كاشفاً عن شرط من شروط الصلاة وهو إباحة المكان، وبعد هذا الكشف ليس حال هذا الشرط إلاّ حال باقي الشروط المشمولة لحديث (لا تعاد).

والثانية: أنّ المتبادر إلى الذهن من (لا تعاد) هو أنّ المتبقّى من أجزاء الصلاة وشرائطها بعد ما ترك بالنسيان أو الجهل مشتمل على شيء من المحبوبيّة في حال النسيان أو الجهل، ولا يشمل شرطاً فُهم من النهي فقدان المحبوبيّة عن باقي الأجزاء والشرائط بعد فقده؛ لأنّ النهي دلّ على البغض. وإن شئت فاجعل هذا تطويراً للمناقشة السابقة.

إلاّ أنّ هذا التبادر أو الانصراف دعوى لا شاهد لها، فلعلّ المقصود بصحّة الباقي بعد فقدان شرط مّا بالجهل أو النسيان: صحّته بلحاظ اشتماله على مقدار من الملاك، أو بلحاظ منعه عن إمكانيّة التدارك، أو بلحاظ التسهيل، أو نحو ذلك.

436

 

تقديم دليل النهي على الأمر وعدمه في العامّين من وجه بناءً على الامتناع:

التنبيه السابع: بناءً على القول بالامتناع ووقوع التعارض بين دليلي (صلّ) و(لا تغصب) بالعموم من وجه هل يقدّم دليل الحرمة على دليل الوجوب أو أنّهما إطلاقان متكافئان فيتساقطان؟

قد يقال بتقديم دليل الحرمة على الواجب بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: هو البناء على كبرى آمن بها المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ونسبت إلى تقريرات الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) من أنّه متى ما وقع التعارض بين الإطلاق البدليّ والإطلاق الشموليّ كان الثاني مقدّماً على الأوّل.

وخالف في ذلك المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ، وسنبحث ذلك إن شاء الله في بحث التعادل والتراجيح، وسنبني على أنّه لا وجه فنّيّ لتقديم الإطلاق الشموليّ بما هو شموليّ على الإطلاق البدليّ بما هو بدليّ، وهنا لا نريد الدخول في البحث عن هذه الكبرى وإنّما نريد أن نبيّن أمرين:

الأمر الأوّل: أنّه قد يناقش في انطباق هذه الكبرى ـ لو تمّت ـ على المقام في فرض عدم المندوحة حيث يقال: إنّ الطرف المعارض للإطلاق الشموليّ لـ (لاتغصب) وإن كان هو الإطلاق البدليّ في المادّة لـ (صلّ) عند وجود المندوحة، ولكن عند عدمها ليس (لا تغصب) معارضاً لإطلاق المادّة فقط بل يقتضي نفي الوجوب رأساً؛ لأنّ المفروض أنّ الصلاة في غير المغصوب غير ممكنة والصلاة في المغصوب حرام، ومن الواضح أنّ نفي الوجوب رأساً يرجع إلى تضييق في الهيئة، وهيئة الأمر مفادها الوجوب المطلق بنحو شموليّ.

إلاّ أنّ هذا الاعتراض غير وارد؛ لأنّ نفي أصل الوجوب عند عدم المندوحة

437

ليس بطروّ تقييد زائد على الهيئة، فدليل (لا تغصب) إنّما أثبت ـ بعد فرض تقدّم النهي على الإطلاق البدليّ للمادّة ـ أنّ المادّة مقيّدة بإباحة المكان، وحينئذ يقال: إنّ هذا الواجب المقيّد بإباحة المكان أصبح عند عدم المندوحة غير مقدور، فسقط الوجوب بعدم القدرة، ومن الواضح أنّ دليل الوجوب مقيّد من أوّل الأمر بالقدرة، فليس (لا تغصب) هو الذي أضاف قيداً إلى الهيئة(1). إذن فطرف المعارضه لـ (لا تغصب) مطلقاً هو الإطلاق البدليّ لمادّة (صلّ).

الأمر الثاني: أنّنا وإن قلنا بأ نّا سوف لا نقبل كبرى تقدّم الإطلاق الشموليّ على البدليّ بما هما كذلك بشكل عامّ، ولكن قد يدّعى هذا التقديم في خصوص المقام ببيان لا يسري إلى بقيّة الموارد، وذلك بالبناء على مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الأمر يختصّ دائماً بحسب طبعه بخصوص الحصّة المقدورة، فالمقدوريّة قيد محصّص للمادّة في باب الأوامر بقرينة متّصلة وهي كون الأمر بداعي المحرّكيّة، وغير المقدور شرعاً كغير المقدور عقلا، فمادّة الأمر هي مقيّدة من أوّل الأمر بالقدرة العقليّة والشرعيّة.


(1) لا يخفى أنّ المقصود ليس هو تقديم (لا تغصب) على (صلّ) بمجرّد حجّة أنّ الأمر مشروط بالقدرة على الفعل، فالنهي يرفع موضوعه بسلب القدرة على الفعل، حتّى يقال: لِمَ لا نعكس ونقول: إنّ النهي مشروط بالقدرة على الترك؟ فالأمر يرفع موضوعه بسلب القدرة على الترك. بل المقصود تقديم (لا تغصب) على (صلّ) بحجّة شموليّة إطلاق (لا تغصب) وبدليّة إطلاق (صلّ).

فإن قيل: إنّ (لا تغصب) لو قدّم على (صلّ) لقيّد إطلاق الهيئة في (صلّ) أيضاً الذي هو أيضاً شموليّ، كان الجواب: أنّ تقديم (لا تغصب) لم يضف قيداً على هيئة (صلّ)؛ لأنّها من أوّل الأمر مقيّدة بالقدرة و(لاتغصب) سلب القدرة بتقدّمه على مادّة (صلّ) باعتبار تقدّم الشموليّ على البدليّ.

438

فلو سلّمنا هذا من المحقّق النائينيّ(رحمه الله) كان الإطلاق الشموليّ في دليل (لا تغصب) مقدّماً على الإطلاق البدليّ في (صلّ) لا من باب تقديم أقوى الدليلين على الآخر بل بالورود، من باب أنّ الإطلاق الشموليّ رفع موضوع الإطلاق البدليّ الذي هو القدرة، فإنّ دليل (لا تغصب) يقول: إنّ هذه الحصّة غير مقدورة، فلا يشملها دليل (صلّ). نعم، لو بدّل النهي التحريميّ بالنهي الكراهتيّ فنكتة التقدّم لا تأتي، فإنّ دليل (صلّ) موضوعه المقدور عقلا وشرعاً، والمكروه مقدور عقلا وشرعاً.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّه كلّما وقع التعارض بالعموم من وجه بين دليل إلزاميّ ودليل ترخيصيّ ُقدّم الأوّل على الثاني، فمثلا لو ورد الدليل على جواز شرب الحليب، ودليلٌ آخر على حرمة الغصب، فلا إشكال في أنّه يحرم شرب الحليب المغصوب، فنطّبق هذه الكبرى على المقام بأن يقال: إنّ النهي عن الغصب حكم إلزاميّ، والأمر بالصلاة أوجب الترخيص في التطبيق على كلّ الحصص، وهذا الترخيص هو الذي أوجب التعارض، وهو حكم ترخيصيّ، فيقدّم (لا تغصب) عليه، وذلك بناءً على مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الامتناع حينما يكون فهو بملاك اقتضاء الأمر للترخيص في التطبيق، لا بناءً على أنّ نفس الأمر بالجامع والنهي عن الحصّة متضادّان بغضّ النظر عن مسألة اقتضاء الأمر للترخيص في التطبيق.

ولكنّ الصحيح أنّ كبرى تقديم الدليل الإلزاميّ على الترخيصيّ لاتنطبق على المقام حتّى بناءً على كون نكتة التعارض هي اقتضاء الأمر للترخيص في التطبيق لا التضادّ بين نفس الأمر والنهي. ويتّضح ذلك بالالتفات إلى نكتة هذه الكبرى، وبيان ذلك: أنّه حينما يوجد الترخيص على عنوان والإلزام بلحاظ عنوان آخر وبينهما عموم من وجه ففي الحقيقة لا يوجد تعارض بينهما، لا أنّهما تعارضا وقدّمنا الدليل الإلزاميّ؛ وذلك لأنّ دليل الترخيص إنّما دلّ على الترخيص في

439

عنوانه، وهذا لا ينافي انطباق عنوان آخر محرّم على نفس مصداق ذاك العنوان فيحرم بالعنوان الآخر.

وإن شئت فقل: إنّ دليل الترخيص إنّما دلّ على أنّه لم يجعل التحريم على هذه الحصّة بواسطة انطباق العنوان الفلانيّ عليه وهذا لا ينافي تحريمها بعنوان آخر.

وبكلمة اُخرى: إنّ المفهوم من دليل الترخيص ليس إلاّ الحكم الحيثيّ، أي: إنّ شرب الحليب ـ مثلا ـ من حيث أنّه شرب الحليب لم يجعل عليه الحرمة، وقد يكون حكمه الفعليّ الحرمة بعنوان الغصب مثلا.

وعندئذ نأتي إلى المقام ونقول: هل المفروض أنّ الأمر بالجامع يقتضي الترخيص في الحصّة بمعنى الترخيص الحيثيّ، أو يقتضي الترخيص الفعليّ فيها؟ فإن فُرض الثاني وقع التعارض بينه وبين النهي عن الغصب، فلم تنطبق عليه نكتة كبرى الأخذ بالدليل الإلزاميّ، وهي عدم التعارض رأساً بالبيان الذي عرفت. وإن فُرض الأوّل إذن لا يمتنع اجتماع الأمر والنهي؛ لأنّ الترخيص الحيثيّ لا يولّد التعارض بينهما، وهذا خلف الفرض فإنّنا نتكلّم مبنيّاً على الامتناع.

إذن، فاتّضح أنّه لا نكتة فنّيّة لتقديم النهي على الأمر. وأمّا بقيّة الكلمات من قبيل: أنّ النهي مقدّم بالاستقراء أو باعتبار أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المفسدة، فلا تستحقّ التعرّض.

 

تحقيق حال العبادات المكروهة:

التنبيه الثامن: في تحقيق حال العبادات المكروهة.

وقد جعلت العبادات المكروهة دليلا إنّيّاً على جواز اجتماع الأمر والنهي حيث يقال: إنّ التضادّ لا يختصّ بالوجوب والحرمة، فكلّ الأحكام الخمسة متضادّة فيما بينها، والعبادات المكروهة قد ثبتت فقهيّاً صحّتها، وهذا يعني أنّها