147

المشروط بالقدرة الشرعيّة صحيح بأحد معنيين:

1 ـ أن تكون القدرة بالمعنى الشامل لعدم الانشغال بما يضادّ طلب المولى نفسه دخيلة في ملاكه.

2 ـ أن تكون عدم توجّه التكليف الآخر دخيلا في ملاكه.

بقيت هنا أربعة أبحاث:

البحث الأوّل: أنّ القدر المتيقّن من مورد تطبيق هذا المرجّح ـ بناءً على صحّة الترجيح به ـ هو ما لو ثبت في أحد الواجبين أنّ قدرته عقليّة، وفي الآخر أنّ قدرته شرعيّة، فيرجّح الأوّل على الثاني. أمّا لو لم نعرف في كلّ منهما أنّ قدرته عقليّة أو شرعيّة، فمن الواضح عدم إمكان تطبيق هذا المرجّح عليهما.

تبقى صورتان اُخريان ينبغي الكلام عن أنّهما هل تُلحقان بالصورة الاُولى في تطبيق هذا المرجّح عليهما، أو بالصورة الثانية في عدم تطبيق ذلك:

إحداهما:ما لو ثبت في أحد الواجبين أنّ القدرة فيه شرعيّة، ولم نعرف أنّ القدرة في الآخر عقليّة أو شرعيّة، فقد يقال: إنّ هذا ملحق بالصورة الاُولى؛ لأنّه لو قدّم الثاني على الأوّل جزم بأنّه لم يخسّر المولى شيئاً؛ لأنّه قد حصّل الملاك الثاني وأعدم موضوع ملاك الأوّل حتماً، بينما لو عكس احتمل خسارة المولى لملاك الثاني.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ هذه الصورة الثالثة تُلحق بالصورة الثانية دون الاُولى؛ لأنّ الشكّ في الحقيقة في سعة دائرة ملاك الثاني وضيقه(1)؛ إذ لا ندري أنّه في صورة العجز يكون الملاك ثابتاً أو لا، وهذا ـ كالشكّ في سعة دائرة الخطاب وضيقه ـ موردٌ للاُصول المؤمّنة، فاحتمال تخسير المولى للملاك لا يضرّ في المقام؛ لأنّ هذا الملاك داخل تحت الاُصول المؤمّنة.


(1) زائداً الشكّ في سعة دائرة خطابه وضيقه.

148

والاُخرى: عكس الصورة الثالثة، أي: ما لو ثبت في أحد الواجبين أنّ القدرة عقليّة، ولم نعرف أنّ القدرة في الآخر عقليّة أو شرعيّة، فلو قدّم الأوّل على الثاني كانت خسارة المولى احتماليّة، بينما لو عكس كانت خسارة المولى قطعيّة.

والصحيح: أنّ هذه الصورة تُلحق بالصورة الاُولى؛ وذلك لأنّ سعة دائرة ملاك الأوّل ودخوله في العهدة معلوم، والاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ، فلو أتى بالأوّل قطع بالفراغ من ملاكه واحتمل فوت ملاك الثاني، لكنّه تحت التأمين؛ لعدم الجزم بسعة ملاك الثاني وثبوته عند الاشتغال بالأوّل.

أمّا لو أتى بالثاني لم يحصل له الجزم بخروجه عن عهدة ملاك الأوّل؛ إذ الخروج عن عهدة ملاك الأوّل يكون بأحد أمرين: إمّا بالإتيان به لكي لا يخسر المولى ذاك الملاك، وهذا ما لم يفعله. وإمّا بالإتيان بما يجبر هذه الخسارة، أي: بملاك آخر يساويه مثلا، ممّا كان يخسره المولى لو أتى بالأوّل، وهذا غير معلوم؛ إذ لعلّ ملاك الآخر مشروط بالقدرة، فلو كان يأتي بالأوّل لم يكن يخسر المولى، حتّى يكون الإتيان بالثاني جبراناً لكسر خاطر المولى بتفويت ملاك الأوّل عليه. إذن، فقاعدة الاشتغال محكّمة في المقام(1).

فتحصّل أنّ الترجيح بهذا المرجّح منطبق بلا إشكال على الصورة الاُولى، وغير منطبق بلا إشكال على الصورة الثانية، والصحيح: عدم انطباقه على الصورة الثالثة، والصحيح: انطباقه على الصورة الرابعة.

البحث الثاني: أنّه قد يكون كلا التكليفين مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، ومع ذلك


(1) سنخ تحكيمها في موارد الشكّ في القدرة على الامتثال؛ لعلمه بالملاك المبرز وشكّه في القدرة على عدم تخسير المولى.

149

يتقدّم أحدهما على الآخر حينما يكون الشرطان مختلفين. ونذكر بهذا الصدد صورتين:

الصورة الاُولى: ما لو كان أحد الحكمين مشروطاً بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثاني ـ أي: أنّ ملاكه كان مقيّداً بعدم انشغاله بالمزاحم ـ والحكم الآخر كان مشروطاً بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث ـ أي: أنّ ملاكه تقيّد بعدم توجّه الحكم المزاحم إليه ـ فالأوّل يقدّم على الثاني.

والبرهان على ذلك: أنّ الحكم الثاني لا يمكن أن يكون فعليّاً؛ إذ هل تُفرض فعليّته حتّى مع فرض فعليّة الأوّل، أو تُفرض فعليّته على تقدير عدم فعليّة الأوّل؟

فإن فرض الأوّل ـ وهو فعليّته حتّى لو فُرضت فعليّة الأوّل ـ فهذا خلف؛ لأنّ المفروض أنّ الخطاب الثاني مشروط بعدم توجّه الخطاب الآخر إليه.

وإن فُرض الثاني ـ وهو تقيّده بما لو لم يكن الخطاب الآخر فعليّاً في حقّه ـ ففرض عدم فعليّة الآخر في حقّه هو فرض انشغاله بالثاني؛ لأنّ المفروض أنّه مقيّد بعدم انشغاله به، إذن فتقيّد هذا الخطاب بعدم فعليّة ذاك الخطاب يساوق تقيّده بالإتيان بمتعلّق نفسه، والتكليف بشيء على تقدير الإتيان به غير معقول.

الصورة الثانية: ما لو كان كلّ واحد من الحكمين مقيّداً بعدم الحكم الآخر، إلاّ أنّ أحدهما كان مقيّداً بعدم الوجود اللولائيّ للآخر، أي: أنّه لو كان للآخر وجود لولا هذا فهذا غير موجود، والآخر كان مقيّداً بعدم الوجود الفعليّ للأوّل، فالثاني يقدّم على الأوّل؛ إذ هو مشروط بعدم الوجود الفعليّ للأوّل، وهذا الشرط حاصل؛ إذ الأوّل ليس له وجود فعليّ؛ لأنّ وجوده الفعليّ مشروط بعدم الوجود اللولائيّ للآخر، وهذا الشرط غير متحقّق؛ بداهة أنّه لولاه لكان الحكم الآخر فعليّاً بلا إشكال. إذن، فشرط الثاني حاصل، وشرط الأوّل غير حاصل، فيقدّم عليه لا محالة.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ المشروط بالقدرة العقليّة مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة بأحد المعنيين الأخيرين. وأنّ المشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى

150

الثاني مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث. وأنّ المشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث ـ إذا كان مشروطاً بعدم الوجود الفعليّ ـ مقدّم على المشروط بعدم الوجود اللولائيّ.

وكلّ واحد من هذه الأساليب الثلاثة قد يطبّق على مثال تزاحم الحجّ والنذر في مقام تقديم الحجّ على النذر:

فقد يقال: إنّ الحجّ مقدّم على النذر؛ لأنّ الحجّ مشروط بالقدرة العقليّة، لكنّ النذر مشروط بالقدرة الشرعيّة استظهاراً من مثل قوله: «شرط الله قبل شرطكم»، وإن كان قد يعكس الأمر، فيقدّم النذر بدعوى: كون قدرته عقليّة، والقدرة في الحجّ شرعيّة استظهاراً من مثل قوله: ﴿لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاع ...﴾.

وقد يقال: إنّ الحجّ مقدّم على النذر وإن فُرضت قدرته شرعيّة، بقرينة قوله: ﴿مَنِ اسْتَطَاع﴾؛ وذلك لأنّ القدرة المشروطة في النذر هي القدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث، وذلك بأن يستظهر من قوله: «شرط الله قبل شرطكم» أنّ مجرّد وجود شرط الله يمنع عن وجود شرطنا، بينما لا يستظهر من دليل الحجّ أزيد من اشتراط القدرة بالمعنى الثاني.

وقد يقال: إنّ الحجّ مقدّم على النذر، وإن فُرض أنّنا استظهرنا من قوله:﴿مَنِ اسْتَطَاع﴾ الاستطاعة بمعنى يشمل عدم المزاحم، فكانت قدرته شرعيّة بالمعنى الثالث؛ وذلك لأنّ النذر أيضاً مشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث، ويكون مشروطاً بعدم الوجود اللولائيّ للمزاحم، استظهاراً من قوله: «شرط الله قبل شرطكم» بأن يقال: إنّ هذا يعطي معنى: أنّه متى ما ثبت شرط الله ـ ولو بغضّ النظر عن شرطكم ـ كفى ذلك في عدم تحقّق شرطكم؛ لأنّه شرط واقع قبل شرطكم. بينما في الحجّ غاية ما يمكن أن يقال هي: أنّه يكون مشروطاً بعدم الوجود الفعليّ للمزاحم. وسيأتي تفصيل الكلام في هذا الفرع إن شاء الله.

151

البحث الثالث: أنّه كيف يُستظهر ـ بحسب مقام الإثبات ـ كون القدرة عقليّة أو شرعيّة؟ وهل هناك ضابط لذلك أو لا؟

قد يقال: إنّه متى ما لم تؤخذ القدرة في لسان الدليل، فالأصل فيها أن تكون عقليّة وغير دخيلة في الملاك ما لم تقم قرينة خاصّة على الخلاف. ومتى ما اُخذت القدرة في لسان الدليل فالأصل فيها أن تكون شرعيّة ودخيلة في الملاك ما لم تقم قرينة خاصّة على الخلاف.

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ ينحلّ إلى دعويين:

الدعوى الاُولى: أنّه متى ما لم تؤخذ القدرة في لسان الدليل، فالأصل فيها أن تكون عقليّة وغير دخيلة في الملاك. ويمكن الاستدلال على ذلك بأحد وجهين:

1 ـ التمسّك بالدلالة الالتزاميّة للخطاب على الملاك في حال العجز، بالرغم من سقوط الدلالة المطابقيّة على الحكم عن الحجّيّة ـ في ذلك الحال ـ بالمخصّص اللبّيّ، بدعوى: أنّ سقوط الدلالة المطابقيّة لا يضرّ بحجّيّة الدلالة الالتزاميّة.

2 ـ التمسّك بإطلاق المادّة، بدعوى: أنّه حمل عليها محمولان: محمول بارز، وهو الحكم، ومحمول مستتر، وهو الملاك، والأوّل قد قُيّد بالقدرة بدليل لبّيّ، ولكنّنا بالقياس إلى الثاني نتمسّك بالإطلاق.

وكلا هذين الوجهين قد مضى فيما تقدّم من بعض أبحاث الضدّ مع النقاش فيهما، فقد عرفت هناك عدم تماميّتهما. إذن، فعدم أخذ القدرة في لسان الدليل لا يدلّ على كون القدرة عقليّة، ويبقى احتمال كونها شرعيّة ودخيلة في الملاك قائماً. نعم، لا يثبت أيضاً كونها شرعيّة ودخيلة في الملاك، لكن يكفي الشكّ وعدم ثبوت الملاك عند العجز بلا حاجة إلى التأكّد من عدمه.

نعم، بناءً على مبنى السيّد الاُستاذ دامت بركاته من عدم دخل القدرة ـ بحكم العقل ـ في الحكم، وأنّها إنّما تكون دخيلة في التنجيز، يمكن أن يستظهر من عدم

152

أخذ القدرة في لسان الدليل كون القدرة عقليّة؛ لأنّ إطلاق الدلالة المطابقيّة لحال العجز لا موجب لسقوطه عن الحجّيّة، كي لا تثبت الدلالة الالتزاميّة، وهي الدلالة على ثبوت الملاك حال العجز. إلاّ أنّنا لا نقول بهذا المبنى كما مضى.

الدعوى الثانية: أنّه متى ما اُخذت القدرة في لسان الدليل، فالأصل فيها أن تكون شرعيّة ودخيلة في الملاك. وهذه الدعوى يمكن إثباتها ولو بحسب النتيجة بأحد وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّه إذا اُخذت القدرة في لسان الدليل لم يتمّ شيء من الاستظهارين اللذين يستدلّ بهما على كون القدرة عقليّة حينما لا تؤخذ القدرة في لسان الدليل؛ فإنّه لا تبقى دلالة التزاميّة على ثبوت الملاك في حال العجز؛ لأنّ الدلالة المطابقيّة على الحكم تنهدم بوجودها لا بحجّيّتها مع فرض وجودها، حتّى يقال: إنّ انهدام حجّيتها لا يعني انهدام حجّيّة ما تستتبعها من دلالة التزاميّة، ولا يبقى إطلاق للمادّة حتّى يتمسّك به لإثبات الملاك حال العجز.

وهذا الوجه وإن كان لا يثبت كون القدرة شرعيّة ودخيلة في الملاك، لكنّه يعطي نفس النتيجة من ناحية أنّه يثبت عدم تماميّة الدلالة على كون القدرة عقليّة، فبالتالي لا يثبت لدينا اشتمال المتعلّق على الملاك في حال العجز.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّه لو حُملت القدرة المأخوذة في لسان الدليل على كونها دخيلة في غرض المولى وملاك الحكم، كان التقييد مولويّاً وصادراً من المولى بما هو مولى، بينما لو حُملت على القدرة العقليّة، كان التقييد عقليّاً بملاك حكم العقل بقبح تكليف العاجز مثلا. ومن الواضح أنّ التقييد الذي يأتي على لسان المولى في مقام بيان الحكم ظاهرٌ في التقييد المولويّ.

وهذا الوجه غير صحيح؛ فإنّ التقييد بالقدرة على أيّ حال تقييد مولويّ؛ إذ ليس التقييد بالقدرة إلاّ عبارة عن تضييق المولى دائرة تشريعه ـ عمداً واختياراً ـ

153

بفرض القدرة، ولا نعني بالتقييد المولويّ ـ الذي يُحمل عليه ما يأتي على لسان المولى من تقييد عند بيان الحكم ـ إلاّ هذا المعنى، أعني: تضييق المولى دائرة تشريعه عن عمد واختيار. غاية الأمر أنّ نكتة هذا التقييد وملاكه تختلف، فقد تكون نكتته ضيق دائرة الملاك، وقد تكون نكتته القبح العقليّ لتكليف العاجز مثلا.

الوجه الثالث: أن يقال: إنّه لو فُرضت القدرة عقليّة فأخذها في لسان الدليل يكون مجرّد تأكيد صِرف، واستبعاد ذلك عند العرف يُعطي لأخذ القدرة ظهوراً سياقيّاً في معنىً آخر تأسيسيّ، وهو دخلها في الملاك.

وهذا الوجه قد ينافي الدعوى الاُولى؛ وذلك لأنّه إن فُرض التقييد اللبّيّ للخطاب بالقدرة تقييداً نظريّاً كالمنفصل، إذن فالتأكيد عليه بأخذ القدرة في لسان الدليل حسنٌ عرفاً وغير مستبعد، فإنّه تنبيهٌ على شيء غير واضح، ولا يوجب أخذ القدرة في لسان الدليل صرفها إلى القدرة الشرعيّة.

وإن فُرض تقييداً بديهيّاً كالمتّصل، إذن تبطل الدعوى الاُولى، وهي دعوى: أنّ عدم أخذ القدرة في لسان الدليل يوجب حملها على القدرة العقليّة، إذا كان الوجه في ذلك التمسّك بالدلالة الالتزاميّة؛ إذ مع فرض كون التقييد بالقدرة لبّيّاً كالمتّصل، لا تنعقد الدلالة المطابقيّة على الإطلاق لحال العجز، حتّى تستتبع دلالة التزاميّة على ثبوت الملاك حين العجز.

وأمّا إذا كان الوجه في ذلك دعوى التمسّك بإطلاق المادّة:

فإن قلنا(1): إنّ بداهة اشتراط القدرة في الحكم وارتكازيّته كانت بنحو ينصرف إطلاق المادّة إلى الحصّة المقدورة حتّى كأنّ المولى قد أتى بكلمة القدرة في عبارته، إذن بطل التمسّك بإطلاق المادّة أيضاً.


(1) القول بهذا لا مبرّر له.

154

وإن قلنا: إنّ غاية ما تقتضيه بداهة اشتراط القدرة وارتكازيّته، عدم تماميّة مقدّمات الحكمة لتكوين الظهور في الإطلاق، فهذا إنّما يضرّ بإطلاق المادّة بلحاظ المحمول البارز وهو الحكم، دون إطلاقها بلحاظ المحمول المستتر وهو الملاك.

وخلاصة الكلام في هذا المقام: أنّه لو لم تؤخذ القدرة في لسان الدليل، لم نقبل أنّ هذا شاهد على كون القدرة عقليّة لا شرعيّة، بل من المحتمل أن تكون شرعيّة. ولو اُخذت القدرة في لسان الدليل، فظاهر ذلك كون القدرة شرعيّة، وذلك لأجل الوجه الثالث(1).

وهذا المقدار من البيان لا يوجب تقديم أحد الحكمين المتزاحمين على الآخر بالقدرة الشرعيّة بغضّ النظر عن قرائن خاصّة؛ إذ لئن كان أخذ القدرة في لسان الدليل في أحدهما شاهداً على كون القدرة فيه شرعيّة ودخيلة في الملاك، فمن المحتمل كون القدرة في الآخر الذي لم تؤخذ في لسان دليله أيضاً كذلك.

نعم، يبقى أن يعيّن معنى القدرة التي استظهرنا دخلها في الملاك. وهذا راجع إلى الاستظهار من الكلمة الدالّة على القدرة المأخوذة في لسان الدليل، فقد


(1) هذا الاستظهار غير واضح؛ فإنّه لو كان دخل القدرة في لسان الدليل في ذاته مجملا مردّداً بين دخلها في الحكم ودخلها في الملاك، أو قل: بين القدرة العقليّة والقدرة الشرعيّة، أمكن القول بأنّ الظهور في التأسيس ـ أو قل: استبعاد التأكيد ـ يصرف الكلام إلى القدرة الشرعيّة. ولكنّ الواقع ليس كذلك، وإنّما أخذ القدرة يدلّ في ذاته على جامع الدخل في الحكم، الأعمّ من كونه بسبب دخله في الملاك، أو بسبب عدم صحّة إطلاق الحكم للعاجز. وهذا المقدار الجامع يحكم به العقل على كلّ حال، ولو من باب إيمانه بعدم صحّة إطلاق الحكم للعاجز، وتكون التأسيسيّة أو التأكيديّة رهينة لما يكون اللفظ في ذاته ساكتاً عنه، وهو دخل القدرة في الملاك وعدمه، وعندئذ لا يتكوّن للكلام ظهور في التأسيس.

155

يُستظهر منه المعنى الأوّل الذي عرفت عدم تأثيره في هذا الترجيح. وقد يُستظهر منه المعنى الثاني أو الثالث بحسب اختلاف الألفاظ، فمثلا قد يقول: (افعل هذا لو قدرت)، وقد يقول: (افعله لو لم تنشغل بمانع)، وقد يقول: (افعله لو لم يكن مانع). فقد يُستظهر من الأوّل الأوّل، ومن الثاني الثاني، ومن الثالث الثالث.

فمتى ما استظهر من دليل الحكم ـ الذي اُخذ في لسانه القدرة ـ إنّها القدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث، فمقتضى الأصل أن يتقدّم عليه الحكم المزاحم الذي لم تؤخذ القدرة في لسان دليله، بلا حاجة في التقديم إلى قرائن خاصّة؛ وذلك لأنّنا وإن قلنا: إنّ عدم أخذ القدرة في لسان الدليل لا يدلّ على كون القدرة عقليّة وعدم كونها شرعيّة، لكنّه يدلّ بالإطلاق على نفي خصوص المعنى الثالث، وهو دخل عدم توجّه خطاب بالمزاحم في الملاك، فإنّ مقتضى إطلاق الحكم هو ثبوته حتّى مع توجّه خطاب بالمزاحم إليه لو لم يمتثله.

وحينما يكون ظاهر اللفظ الدالّ على القدرة المأخوذة في لسان الدليل هي القدرة بالمعنى الثالث، ثبت دخل القدرة في الملاك بلا حاجة إلى الوجوه الثلاثة التي ذكرناها لإثبات ذلك. والنكتة في ذلك هي: أنّ دخل القدرة بذلك المعنى في الخطاب ليس عقليّاً، فإذا اُخذت القدرة بذلك المعنى قيداً في الخطاب دلّ ذلك لا محالة على دخلها في الملاك. هذا.

وحاصل الكلام في كيفيّة استظهار كون القدرة عقليّة أو شرعيّة: أنّه إن اُخذت في أحد الدليلين القدرة بالمعنى الثالث في الموضوع، فهذا دليل على كون القدرة شرعيّة؛ لأنّ القدرة بالمعنى الثالث غير دخيلة بحكم العقل، فدخلها شرعاً لا يكون إلاّ بدخلها في الملاك، وعدم أخذها في دليل الآخر دليل على عدم اشتراطه بالقدرة الشرعيّة بهذا المعنى؛ لأنّ إطلاق الخطاب ينفي هذا القيد؛ لعدم كونه قيداً عقليّاً.

156

أمّا إذا لم تؤخذ القدرة بالمعنى الثالث في دليل أحد الحكمين، فإن فُرض تساوي الدليلين في عدم أخذ القدرة ـ التي هي قيد لبّيّ ـ في لسان أحدهما، أو أخذها في لسانهما معاً بنهج واحد، فمن الواضح أنّه عندئذ لا معنى لترجيح أحد الحكمين على الآخر.

وإن فُرض أخذ ذلك القيد اللبّيّ في أحدهما دون الآخر، فهذا يدخل في الصورة الاُولى من الصور الأربع التي مضى ذكرها لو اعترفنا بمجموع أمرين: أحدهما: أنّ أخذ القدرة في لسان الدليل قرينة على دخلها في الملاك. والآخر: أنّ عدم أخذ القدرة في لسان الدليل قرينة على عدم دخلها في الملاك، إمّا للدلالة الالتزاميّة، أو لإطلاق المادّة، فعندئذ يكون هذا داخلا في الصورة الاُولى، أعني: ما لو ثبت في أحدهما أنّ القدرة شرعيّة وفي الآخر أنّها عقليّة، فيقدّم الثاني على الأوّل.

أمّا لو لم يتمّ كلا الأمرين فيدخل المورد في الصورة الثانية من تلك الصور، أعني: ما لو لم نحرز في كليهما أنّ القدرة عقليّة أو شرعيّة.

وأمّا لو فُرضت تماميّة الأمر الأوّل وعدم تماميّة الأمر الثاني ـ كما هو الصحيح ـ دخل المورد في الصورة الثالثة من تلك الصور، أعني: ما لو اُحرز في أحدهما أنّ القدرة شرعيّة، ولم يُحرز في الآخر أنّها شرعيّة أو عقليّة.

ولو فرض العكس، أعني: تماميّة الأمر الثاني دون الأوّل، دخل في الصورة الرابعة، أعني: ما لو اُحرز في أحدهما أنّ القدرة عقليّة ولم يُحرز في الآخر أنّها عقليّة أو شرعيّة، وهذا كاف في الترجيح كما مضى، إلاّ أنّ هذا كلّه مجرّد فرض.

أمّا ما هو المنسجم مع التعبير العرفيّ والفقهيّ، فهو أنّه حينما يؤخذ في لسان الدليل عدم الانشغال بالمزاحم، لا يؤخذ عادة فيه ذلك القيد اللبّيّ بحدوده، أعني: عدم الانشغال بخصوص الأهمّ أو المساوي، بل يؤخذ مطلق عدم الانشغال

157

بواجب آخر، فيقول مثلا: (إن لم يكن لديك شغل واجب فاصنع كذا). وعندئذ يتقدّم كلّ واجب آخر عليه؛ وذلك لأنّنا إن ادّعينا أنّ المستظهر عرفاً من هذا التقييد أنّه لا تجعل هذا الواجب مزاحماً لأيّ واجب آخر، بل قدّم كلّ واجب آخر عليه بالأهمّيّة، فلا إشكال في التقديم. وإن لم ندّع هذا الاستظهار العرفيّ كفانا في تخريج تقديم كلّ واجب آخر عليه أحد تقريبين:

التقريب الأوّل: أن يُدرج ذلك فيما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من الترجيح باحتمال الأهمّيّة بأن يقال: إنّ هذا الواجب الذي اُخذ في موضوعه عدم الانشغال بواجب آخر، لا نشكّ في أنّه على تقدير كون القدرة المأخوذة فيه ـ في مقابل مزاحمه ـ عقليّة، فهو ليس بأهمّ من مزاحمه، وإلاّ لما كان يؤخذ عدم الانشغال بمزاحمه في موضوعه، بينما نحتمل أهمّيّة مزاحمه منه.

وأمّا على تقدير كون قدرته شرعيّة فالاحتمالات متكافئة. إلاّ أنّ الترجيح بهذا البيان موقوف على قبول الترجيح بالأهمّيّة حتّى في المشروطين بالقدرة الشرعيّة الذي سيأتي بحثه في المرجّح الثالث؛ إذ من المحتمل كون كلا الواجبين في المقام مشروطين بالقدرة الشرعيّة.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّ القدرة المأخوذة في الواجب ـ المشروط بعدم الانشغال بواجب آخر ـ شرعيّة حتماً، وليست عقليّة؛ وذلك لأنّ نكتة أخذ عدم الانشغال بواجب آخر في موضوع هذا الواجب ليست هي مجرّد أنّ المولى لاحظ ـ بنحو القضيّة الخارجيّة ـ أنّ كلّ ما يزاحم هذا الواجب فهو إمّا أهمّ منه أو مساو له مثلا، أو أنّ المولى لاحظ هذا الواجب، فرأى أنّ ملاكه هو أقلّ مقدار ممكن من الملاك الباعث للإيجاب، بل يستكشف من ظاهر دليل التقييد بعدم الانشغال بواجب آخر أنّ الانشغال بواجب آخر يرفع ملاك هذا الواجب، وذلك:

إمّا بتقريب أنّنا نعلم ـ ولو إجمالاً ـ أنّ بعض الواجبات في الشريعة قدرته

158

شرعيّة(1)، وإطلاق التقييد بعدم الانشغال بواجب آخر يشمل مثل هذا الواجب، بينما هذا لا يمكن تخريجه على أساس كون ملاك هذا المزاحم أهمّ أو مساوياً؛ إذ حتّى لو كان كذلك، وكانت القدرة في هذا الواجب عقليّة، لكان مقدّماً على ذاك المزاحم، ولم يبق مبرّر للتقييد بعدم الانشغال بواجب آخر. إذن، يستكشف من ذلك أنّ كلّ واجب آخر يكون بامتثاله رافعاً لملاك هذا الواجب. أمّا احتمال التبعيض، بأن تكون القدرة في هذا الواجب تجاه كلّ واجب مقيّد بالقدرة الشرعيّة شرعيّة وتجاه غير ذلك عقليّة، فغير عقلائيّ.

وإمّا بتقريب أنّ الظاهر من دليل التقييد بعدم الانشغال بواجب آخر هو: أنّ ذات الانشغال بواجب آخر ـ بنحو القضيّة الحقيقيّة ـ(2) هو المانع عن وجوب هذا


(1) لا يخفى أنّ دعوى هذا العلم الإجماليّ تنافي ما سيأتي من البرهنة على أنّ القدرة في الواجب الآخر عقليّة.

(2) الظهور في كون القيد ملحوظاً بنحو القضيّة الحقيقيّة، إنّما يكون فيما إذا كان لحاظ الخارج من قِبَل المولى ـ بما هو مولى ـ غير ممكن إلاّ على أساس إعمال الغيب، ولكن في المقام يكون المولى ـ بما هو مولى ـ مطّلعاً على باقي واجباته، وعلى حدود ملاكات الواجبات، فلحاظ ذلك ليس خلاف الظاهر.

والأولى من كلّ هذه التقريبات أن يقال: إنّ الواجب الذي اُخذ في لسان دليله، قيد عدم الانشغال بواجب مزاحم، لا يخلو حال هذا القيد فيه ـ بالقياس إلى الواجب الآخر ـ من كونه قدرة عقليّة غير دخيلة في الملاك، أو شرعيّة دخيلة في الملاك. وعلى الثاني، فالقدرة في الواجب الآخر ـ الذي لم تؤخذ في لسان دليله ـ عقليّة، بالبرهان الذي سيأتي في المتن بعد أسطر: من شمول إطلاق دليل الواجب الآخر لفرض الانشغال بواجب كانت قدرته شرعيّة. وعلى الأوّل، فالقدرة في الواجب الآخر الذي لم تؤخذ في لسان دليله

159

الواجب، ولو فُرض ذاك الواجب الآخر قدرته شرعيّة مثلا، وهذا لا يكون إلاّ بفرض القدرة في هذا الواجب شرعيّة.

فإذا اتّضح أنّ القدرة في هذا الواجب شرعيّة، جئنا إلى الواجب الآخر المزاحم لهذا الواجب وقلنا: إنّ القدرة في ذاك الواجب الآخر ـ بالقياس إلى هذا الواجب ـ عقليّة حتماً؛ وذلك لأنّ إطلاق دليل ذاك الواجب يشمل فرض الانشغال بهذا الواجب، فحتّى مع الانشغال بهذا الواجب يكون ذاك الواجب ثابتاً بملاكه ووجوبه، في حين أنّه مع الانشغال بذاك الواجب يرتفع هذا الواجب بوجوبه وملاكه، فلا محالة يتقدّم ذاك على هذا.

أمّا النكتة في شمول إطلاق دليل ذاك الواجب لفرض الانشغال بهذا الواجب، فهي: أنّ ما مضى من القيد اللبّيّ في واجب، وهو عدم الانشغال بواجب أهمّ أو مساو (إذ معه لا معنى لإيجابه عليه ضمّاً إلى ذاك، ولا بدلا عنه؛ لأنّ الأوّل غير


أيضاً عقليّة؛ إذ لو كانت شرعيّة مع كون القدرة في الواجب الذي اُخذت في لسان دليله عقليّة، لكان هذا رافعاً بامتثاله موضوع ما كانت قدرته شرعيّة، دون العكس. فلا يبقى معنى لأخذ قيد عدم الانشغال بالواجب المزاحم في لسان دليله، وقد فُرض أخذه فيه.

وعليه فنحن نعلم إجمالاً بأنّه إمّا أنّ القدرة في كليهما عقليّة، أو فيما لم تؤخذ في لسان دليله عقليّة، وفيما اُخذت في لسان دليله شرعيّة. وعلى الثاني يتقدّم ما لم تؤخذ القدرة في لسان دليله على ما اُخذت القدرة فيه، بنكتة عقليّة القدرة في الأوّل، وشرعيّتها في الثاني. وعلى الأوّل يتقدّم أيضاً ما لم تؤخذ القدرة في لسان دليله بنكتة احتمال الأهمّيّة؛ لأنّهما بعد فرض القدرة فيهما عقليّتين، لا يمكن أن يقيّد الثاني بعدم الانشغال بالأوّل، إلاّ إذا لم يكن الثاني أهمّ، فلا يبقى إلاّ احتمال أن يكونا متساويين أو يكون الأوّل أهمّ.

160

معقول، والثاني بلا مبرّر) لابدّ من إجراء تعديل عليه، وذلك بأن يقال: إنّ القيد اللبّيّ في كلّ واجب هو عدم الانشغال بواجب متّصف بوصفين: أحدهما: كونه أهمّ أو مساوياً لمزاحمه، والثاني: كون قدرته تجاه مزاحمه عقليّة؛ إذ لو كانت شرعيّة كان من المحتمل أنّ المولى يريد الانشغال بمزاحمه بدلا عنه؛ إذ من المحتمل كون قدرته عقليّة. إذن، فالإطلاق يتمّ وتثبت به حقّانيّة هذا الاحتمال(1).

البحث الرابع: أنّ تقدّم المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة، هل يشمل صورة كون المشروط بالقدرة الشرعيّة أهمّ، أو لا؟

التحقيق: أنّ هذا يرجع إلى صياغة أخذ قيد القدرة في لسان الدليل في المشروط بالقدرة الشرعيّة: فإن كان ذلك بما مضى من الصياغة العرفيّة، أعني:


(1) لا بأس بأن نسجّل هنا خلاصة النتائج التي اعتقدها اُستاذنا(رحمه الله) في بحث الترجيح بالقدرة العقليّة والقدرة الشرعيّة في كلّ واجبين متزاحمين لم تؤخذ القدرة في لسان دليل أحدهما واُخذت في لسان دليل الآخر، وهي: أنّ القدرة المأخوذة في لسان دليل ذاك الواجب قد تكون بمعنى القدرة التكوينيّة، وقد تكون بمعنى يشمل عدم الانشغال بالأهمّ أو المساوي، وقد تكون بمعنى الانشغال بأيّ واجب آخر، وقد تكون بمعنى يشمل مجرّد وجود المزاحم، فهذا أربع صور: أمّا الصورة الاُولى فلا أثر لها في تقديم أحد الواجبين على الآخر أصلا. وأمّا الصورة الثانية فتأثيرها في تقديم ما لم تؤخذ القدرة في لسان دليله على ما اُخذت في لسان دليله موقوف على قيام قرينة خاصّة تدلّ على أنّ القدرة فيما لم تؤخذ في لسان دليله عقليّة. وأمّا الصورة الثالثة فهي تكفي في إثبات ورود ما لم تؤخذ القدرة في لسان دليله على الآخر بالامتثال، بلا حاجة إلى قرينة خاصّة. وأمّا الصورة الرابعة فهي تكفي في إثبات الورود بنفس فعليّة الخطاب بلا حاجة إلى قرينة خاصّة.

161

عدم الانشغال بواجب(1) إذن فالمشروط بالقدرة العقليّة يرفع ملاك هذا الأهمّ، فلا أثر لأهمّيّته، ولا يخسره المولى.

وإن كان ذلك بصياغة القيد اللبّيّ، أعني: عدم الانشغال بالأهمّ أو المساوي، إذن فالمشروط بالقدرة الشرعيّة الذي هو الأهمّ هو الذي يتقدّم؛ لأنّ المشروط بالقدرة العقليّة لم يؤخذ عدمه في موضوع هذا؛ لأنّه ليس أهمّ ولا مساوياً له، فلا يرفع موضوعه، فيكون هذا مقدّماً عليه بالأهمّيّة.

 

2 ـ تقديم ما لا بدل له على ما له البدل:

المرجّح الثاني: ما ذكره أيضاً المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّه لو كان أحد الواجبين ممّا له البدل، والآخر ممّا لا بدل له قُدّم ما لا بدل له على ما له البدل. واستدلّ(رحمه الله)على ذلك بأنّ الحكم الذي له بدل لا اقتضاء له لحفظ متعلّقه بالخصوص، بينما الحكم الذي لا بدل له يقتضي تحقّق متعلّقه بالخصوص، وما لا اقتضاء له لا يمكنه أن يزاحم ما له الاقتضاء، فلا محالة يقدّم ما لا بدل له على ما له البدل.

أقول: إنّ هذا الدليل ـ كما ترى ـ إنّما يناسب ما لو كان البدل بدلا عرضيّاً، فحينئذ لا يقتضي الخطاب الإتيان بالمبدل بالخصوص، وإنّما يقتضي الإتيان بالجامع بينهما. أمّا لو كان البدل طوليّاً ـ وهو مورد الكلام ـ فلا محالة يكون الخطاب مقتضياً لمتعلّقه بالخصوص؛ إذ لم يتعلّق إلاّ به، كما هو واضح، فهذا البرهان غير صحيح.

والصحيح أن ندرس هذا المرجّح على نهج درسنا للمرجّح السابق.


(1) وكذا لو كان بمعنى عدم وجود واجب آخر مضادّ له، أي: بالمعنى الثالث من معاني القدرة الشرعيّة.

162

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّه تارة نتكلّم في مرجّحيّة هذا المرجّح بعنوانه مستقلاًّ عن باقي المرجّحات، فيكون المطلوب معرفة ما إذا كان يوجد برهانٌ على مرجّحيّة ما ليس له البدل على ما له البدل بهذا العنوان، وبغضّ النظر عن باقي المرجّحات. واُخرى نتكلّم في مرجّحيّة هذا المرجّح بلحاظ رجوعه إلى مرجّح آخر، فيكون المطلوب معرفة ما إذا كان يوجد برهانٌ على استلزام هذا العنوان لصدق مرجّح آخر من سائر المرجّحات، فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في ترجيح ما لا بدل له على ما له البدل بالأصالة ومستقلاًّ عن سائر المرجّحات.

وأحسن ما يمكن أن يقال في مقام البرهنة على ذلك هو: أنّه قد مضى فيما سبق برهانٌ على أنّ كلّ حكم مشروطٌ بعدم انشغال المكلّف بما لا يقلّ أهمّيّة عنه، وهو أنّه في فرض انشغال العبد بما لا يقلّ أهمّيّة عنه، لماذا يأمره المولى بالفعل الآخر؟ هل يأمره به لكي يأتي به منضمّاً إلى ذلك الفعل، أو لكي يصرفه عن ذلك الفعل إلى هذا الفعل؟ أمّا الأوّل فغير معقول؛ لعدم قدرة المكلّف على الإتيان به منضمّاً إلى الفعل الآخر. وأمّا الثاني فأيضاً غير معقول؛ إذ الفعل الذي فُرض انشغال المكلّف به ليس بأقلّ أهمّيّة من الفعل الذي يُؤمر به، فلا داعي لصرفه عنه إليه.

إلاّ أنّ هذا الشرط ينبغي إدخال تعديل عليه، وذلك بأن يقال: إنّ كلّ حكم مشروط بعدم انشغال المكلّف بما لا يقلّ أهمّيّة عنه ممّا ليس له بدل؛ إذ لو كان له بدل لا يتأتّى ذلك البرهان، فنبقى نحن وإطلاق الخطاب؛ إذ لا نرفع يدنا عن إطلاق الخطاب إلاّ بالمقدار الذي يقتضيه ذلك المقيّد اللبّيّ.

والوجه في عدم تأتّي ذلك البرهان أنّه لو قيل لماذا يأمر المولى بذلك الفعل، هل لكي يجمع العبد بينه وبين الفعل الآخر، أو لكي يصرفه عنه إليه؟ لأمكن أن يجاب على ذلك باختيار الشقّ الثاني، بأن يقال: إنّ المولى يأمره بهذا الفعل لكي

163

يصرفه عن ذاك الفعل إلى هذا الفعل.

ولا يقال: إنّ هذا الصرف بلا موجب؛ لكونه صرفاً إلى ما لا يزداد أهمّيّة من المصروف عنه.

فإنّه يقال: إنّ الموجب لذلك هو أنّه لو انشغل بما له البدل يفوت على المولى ملاك ما لا بدل له، بينما لو انشغل بما لا بدل له، فكان عاجزاً عمّا له البدل، فانتقل إلى بدله، فقد حصل المولى على كلا الملاكين: أمّا ملاك ما لا بدل له فبالإتيان بمتعلّقه. وأمّا ملاك ما له البدل فبالإتيان ببدله.

وبهذا يتّضح أنّ ما لا بدل له مقدّم على ما له البدل؛ لأنّ الثاني مشروط بعدم الانشغال بالأوّل، بينما الأوّل ليس مشروطاً بعدم الانشغال بالثاني، فالأوّل يكون بامتثاله وارداً على الثاني.

وقد يورد على هذا البيان بأنّ هذا المرجّح يتطلّب دائماً وجود مرجّح سابق، ومعه لا تأثير لهذا المرجّح، وهو معنى بطلان هذا المرجّح.

والنكتة في ذلك: أنّ ترجيح الإزالة مثلا على الصلاة، بكون الصلاة ذات بدل دون الإزالة، يتوقّف طبعاً على ثبوت بدل للصلاة، وعلى كون بدليّة ذاك البدل ثابتاً حين الإزالة، وذلك بثبوت موضوع البدليّة، وهو العجز. والعجز إمّا يكون تكوينيّاً، وهو غير موجود؛ لقدرته على ترك الإزالة وفعل الصلاة. وإمّا يكون تشريعيّاً بمعنى كون انشغاله بالصلاة ملازماً للوقوع في محذور شرعيّ، فيكون عاجزاً شرعاً عن الصلاة، وهذا إنّما يكون بوجوب تقديم الإزالة على الصلاة، فيصبح بذلك عاجزاً شرعاً عن الصلاة. إذن، فيجب إثبات وجوب تقديم الإزالة في الرتبة السابقة على هذا المرجّح بمرجّح آخر كالأهمّيّة، وهذا كما قلنا معناه بطلان هذا المرجّح.

إلاّ أنّ هذا الإيراد يمكن الجواب عليه بأنّ الأمر يختلف باختلاف ما يُستظهر

164

من دليل البدليّة بحسب اختلاف ألسنته، فقد يُستظهر منه أنّ موضوع البدليّة هو العجز عن المبدل بمعنى يشمل الوقوع في المحذور الشرعيّ، فيقصد بالعجز التشريعيّ استلزام الوقوع في المحذور الشرعيّ، وعندئذ لابدّ من التفتيش عن مرجّح آخر سابق؛ إذ لولاه لا يقع ـ من ترك ما ليس له البدل للانشغال بما له البدل ـ في محذور شرعيّ.

إلاّ أنّه قد يُستظهر منه أنّ موضوع البدليّة هو العجز عن المبدل بمعنى يشمل المعذوريّة، فيقصد بالعجز التشريعيّ المعذوريّة الشرعيّة، وعندئذ يصبح ما ليس له البدل مقدّماً على ما له البدل في المتساويين(1)، بلا حاجة إلى مرجّح سابق؛ وذلك لأنّ الانشغال بالمساوي يكفي في المعذوريّة شرعاً عمّا يساويه، فإذا انشغل بما ليس له البدل كان معذوراً عمّا له البدل، فيأتي ببدله، وبذلك يجمع بين الملاكين، بينما لو انشغل بما له البدل فاته الآخر نهائيّاً.

هذا كلّه إذا فُرض أنّ زمان الإتيان بالبدل هو زمان القدرة على المبدل، أو فُرض أنّ العجز التكوينيّ الناشئ عن العمد والاختيار لا يُحقّق موضوع البدليّة. أمّا لو فرضنا أنّ العجز التكوينيّ العمديّ كان كافياً في تحقيق موضوع البدليّة، وأنّه كان قادراً على البدل بعد عجزه عن المبدل، فحتّى لو فسّرنا العجز التشريعيّ بمعنى استلزام الوقوع في المحذور الشرعيّ، لا بمعنى العذر الشرعيّ، أمكن ترجيح ما ليس له البدل على ما له البدل في المتساويين، من دون فرض مرجّح سابق؛ إذ لو اشتغل بما له البدل فاته الآخر نهائيّاً، بينما لو اشتغل بما ليس له البدل عجز تكويناً ـ بعد مضيّ آن مثلا، أو بانتهائه من العمل ـ عمّا له البدل؛ لفرض التزاحم بينهما، فتصل النوبة إلى البدل، فيأتي بالبدل، فقد جمع بهذا بين الملاكين.


(1) وفي كلّ مورد لم نجد مرجّحاً آخر لما ليس له البدل، ولو لم نجزم بتساويهما.

165

وعلى أيّ حال فقد تحصّل أنّه ليس من الصحيح الإيراد على الترجيح بثبوت البدل وعدمه، باحتياجه إلى مرجّح سابق، بل نفس ثبوت البدل وعدمه يكون مرجّحاً.

نعم، التحقيق أنّ هذا ـ بالدقّة ـ يرجع إلى الترجيح بالأهمّيّة أو باحتمال الأهمّيّة. ولتوضيح الفكرة نفترض ثلاثة فروض ونشرح الحال فيها:

الفرض الأوّل:أن يوجد عندنا واجبان متزاحمان، كالصلاة والإزالة، ولأحدهما بدل وهو الصلاة مثلا، ونحن نعلم أنّ الواجبين متساويان في الملاك، وهنا يتمّ الترجيح بالبدليّة واللابدليّة، بناءً على كون دليل البدليّة شاملا لفرض العجز بمعنى العذر؛ وذلك لأنّه لو أتى بالصلاة فاته كلّ ملاك الإزالة الذي نفترضه ـ مثلا ـ عشر درجات، بينما لو أتى بالإزالة لأمكنه الإتيان ببدل الصلاة، فلا يكون قد فاتته كلّ الدرجات العشرة من ملاك الصلاة؛ لأنّ البدل يتدارك خمساً منها مثلا. فطرف المزاحمة مع الإزالة ذات الدرجات العشرة للملاك، إنّما هو مقدار التفاوت بين الصلاة وبدلها، وهو خمس درجات، فالإزالة أهمّ، وكان الترجيح بهذه الأهمّيّة(1).

الفرض الثاني: أن لا نملك فكرةً عن ملاكي الصلاة والإزالة، فنحتمل تساويهما، ونحتمل رجحان الأوّل، ونحتمل رجحان الثاني. وعندئذ فاحتمال رجحان ملاك الصلاة يوازيه احتمال رجحان ملاك الإزالة، ويبقى احتمال التساوي، وهذا الاحتمال في الحقيقة احتمالٌ لأهمّيّة الإزالة ورجحانه؛ لما عرفت


(1) وكذلك الحال لو فرضنا أنّ البدل يتدارك كلّ ملاك المبدل، فأيضاً يكون الترجيح بروح الأهمّيّة، وإن فُرض عدم صدق الأهمّيّة لغة مثلا؛ لاشتراط وجود أصل الوصف المتفاضل فيه في طرف المرجوح في باب أفعل التفضيل.

166

في الفرض الأوّل ـ وهو فرض التساوي ـ من أهمّيّة ما لا بدل له. إذن، فأصبح احتمال أهمّيّة الإزالة أقوى من احتمال أهمّيّة الصلاة، فيدخل ذلك في الترجيح بأقوائيّة احتمال الأهمّيّة، فإن قبلنا الترجيح بذلك تمّ الترجيح هنا، وإن قلنا: إنّه لابدّ في الترجيح الجزم بالأهمّيّة ولا يكفي احتمالها، لم يتمّ الترجيح هنا. وسيأتي إن شاء الله البحث عن مرجّحيّة احتمال الأهمّيّة.

الفرض الثالث: أن نعلم أنّ ملاك الصلاة عشر درجات مثلا، وملاك الإزالة خمس، وبدل الصلاة يتدارك خمس درجات من ملاك الصلاة، فإن فرضنا أنّ دليل البدليّة لم يشمل العجز عن الصلاة، بمعنى الانشغال بالإزالة ـ لكون الإزالة أقلّ ملاكاً من الصلاة ـ فلا موضوع للترجيح بالبدليّة واللابدليّة. وإن فرضنا أنّه شمل ذلك، فهنا وإن أصبحت الصلاة ممّا له بدلٌ دون الإزالة، ولا توجد هناك أهمّيّة أو احتمال الأهمّيّة للإزالة؛ إذ على أيّ حال تفوته خمس درجات من المصلحة، إلاّ أنّه لا مبرّر هنا للترجيح بوجود البدل وعدمه؛ إذ المقيّد اللبّيّ هنا يأتي ويُسقط إطلاق دليل وجوب الإزالة عند الانشغال بالصلاة، كما يسقط العكس؛ إذ لا مبرّر لوجوب الإزالة عند انشغاله بالصلاة؛ إذ لو اُريد به الجمع بينهما فهو غير مقدور. ولو اُريد به صرف العبد عن الصلاة إلى الإزالة فلا مبرّر له؛ إذ يفوته ـ بهذا الصرف ـ ما لا يقلّ أهمّيّة عن ملاك الإزالة، وهو خمس درجات.

فتحصّل: أنّه متى ما صحّ الترجيح بوجود البدل وعدمه، رجع إلى الترجيح بالأهمّيّة أو أقوائيّة احتمال الأهمّيّة. ومتى ما لم يرجع إلى ذلك لم يصحّ الترجيح بذلك.

المقام الثاني: في ترجيح ما لا بدل له على ما له البدل بلحاظ رجوع ذلك إلى مرجّح آخر، وتوجد بهذا الصدد محاولتان:

المحاولة الاُولى: ما ظهر من كلامنا في المقام الأوّل من إرجاع هذا المرجّح

167

إلى الترجيح بالأهمّيّة أو أكبريّة احتمال الأهمّيّة، ففائدة ذكر الترجيح بعدم البدل على ما له البدل بيان أنّ هذا العنوان (أعني: عنوان ثبوت البدل لأحدهما دون الآخر) متى ما ثبت أوجب في نفسه انطباق مرجّح الأهمّيّة، بمعنى أكبريّة احتمال الأهمّيّة، بغضّ النظر عن تزاحم حساب ذلك بنكتة خارجيّة اُخرى تقتضي أهمّيّة الآخر.

والبرهان على ذلك برهانٌ رياضيّ مأخوذ من حساب الاحتمالات، وهو أنّه متى ما كانت عندنا كمّيّتان يقابل أيّ احتمال في صالح أكبريّة أحدهما، احتمالا آخر مثله في صالح أكبريّة الآخر، فلا محالة يكون احتمال الأكبريّة في أحدهما مساوياً لاحتمال الأكبريّة في الآخر. وإذا وجد من بين الاحتمالات احتمالٌ واحد في صالح أكبريّة أحدهما، لا يوجد في مقابله احتمالٌ في صالح أكبريّة الآخر، فلا محالة يصبح احتمال أكبريّة ذاك أرجح من احتمال أكبريّة مقابله.

وما نحن فيه ـ حينما لا نملك أيّ فكرة عن كمّيّة الملاك في كلّ واحد من المتزاحمين وقياسه إلى الآخر ـ من هذا القبيل، فإذا تزاحمت الصلاة مع الإزالة مثلا، ولم نملك أيّ فكرة عن ملاك كلّ واحد منهما، فلا محالة يكون كلّ احتمال في صالح أكبريّة أحدهما موازياً لاحتمال في صالح أكبريّة الآخر، فمثلا احتمال كون ملاك الصلاة نصف ملاك الإزالة، يوازيه احتمال كون ملاك الإزالة نصف ملاك الصلاة، واحتمال كون ملاك الصلاة رُبع ملاك الإزالة، يوازيه احتمال كون ملاك الإزالة رُبع ملاك الصلاة... وهكذا.

إلاّ أنّ هناك احتمالا واحداً ليس في مقابله احتمال آخر يوازيه، وهو احتمال كون ملاك الصلاة مساوياً لملاك الإزالة، فإنّ هذا الاحتمال لو عكسناه لكان عكسه عينه، وهو كون ملاك الإزالة مساوياً لملاك الصلاة؛ فإذا فُرض للصلاة بدل وهو الصدقة مثلا، أصبح هذا الاحتمال الوحيد الذي لا عِدل له في صالح أرجحيّة

168

ملاك الإزالة؛ إذ لو اخترنا الإزالة لم يفُتنا تمام ملاك الصلاة؛ لتدارك بعضه على الأقلّ ببدلها وهي الصدقة، بينما لو اخترنا الصلاة فاتنا كلّ ملاك الإزالة، ولا يوجد في مقابل ذلك احتمال آخر في صالح أرجحيّة ملاك الصلاة، فأصبح لا محالة احتمال الأهمّيّة في الإزالة التي لا بدل لها، أكبر من احتمال الأهمّيّة في الصلاة التي لها بدل.

نعم، قد يزاحم هذا الحساب حسابٌ آخر لأرجحيّة تُفرَض للصلاة حينما نملك فكرةً عن الملاكين، إلاّ أنّ هذا لا ينافي ما قلناه: من أنّ كون أحدهما ليس له بدل بخلاف الآخر، يوجب بذاته ترجيحاً على الآخر، وإن كان ذلك قد يزاحم بترجيح آخر للطرف المقابل.

المحاولة الثانية: محاولة إرجاع هذا المرجّح إلى المرجّح السابق، أعني: ترجيح ما كانت القدرة فيه عقليّة على ما كانت القدرة فيه شرعيّة. بتقريب: أنّ ما ليس له بدل لم تؤخذ في موضوعه القدرة في لسان الدليل، وصاحب القول بالمرجّح الأوّل يرى أنّ عدم أخذ القدرة في لسان الدليل يوجب حمل القدرة على كونها عقليّة. وأمّا ما له البدل ـ وقد فُرض في موضوع بدله عدم القدرة على المبدل ـ فالقدرة فيه شرعيّة؛ وذلك لأنّ دليل البدل ـ المأخوذ في موضوعه عدم القدرة ـ قرينة على تقييد موضوع المبدل بالقدرة؛ لكي لا يجتمع البدل والمبدل على شخص واحد. إذن، فقد اُخذت القدرة في موضوع ما له البدل في لسان الدليل، فصارت القدرة شرعيّة، فما ليس له البدل يتقدّم على ما له البدل من باب ترجيح المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة.

ويرد عليه ـ بعد تسليم الاُصول الموضوعيّة لهذا الكلام وعدم النقاش فيها بمثل إنكار كون عدم ذكر القدرة في لسان الدليل دليلا على كون القدرة عقليّة ـ: أنّ دليل البدل وإن فُرض تخصيصه لدليل المبدل بفرض القدرة، لكن هذا مخصّص

169

منفصل، ولا ينبغي فرضه كالمخصّص المتّصل في كونه موجباً لحمل القدرة على القدرة الشرعيّة(1)؛ فإنّ المخصّص المتّصل بصورة القدرة يوجب حمل القدرة على القدرة الشرعيّة مثلا، من باب أنّه لا يوجد معه مجال لإطلاق المادّة من


(1) لو كانت نكتة دخل أخذ القدرة في لسان الدليل وعدمه، في حملها على القدرة الشرعيّة أو العقليّة، هي: أنّها لو لم تؤخذ في لسان الدليل تمسّكنا بإطلاق المادّة لإثبات الملاك عند العجز، ولو اُخذت في لسان الدليل لم يبق إطلاق للمادّة، فتثبت نتيجة كون القدرة شرعيّة، فإسراء هذا البيان إلى ما نحن فيه يرد عليه أوّلا: أنّ دليل البدل إذا كان منفصلا لم يضرّ بإطلاق المادّة. وثانياً: أنّه حتّى لو كان متّصلا فهو ليس بلسان توصيف المادّة بالقدرة مثلا حتّى يقيّد المادّة بلحاظ الملاك أيضاً، وإنّما فهمنا التقيّد بالقدرة من ناحية أنّ البدل والمبدل لا يجتمعان في الوجوب، وهذا يصلح للتقييد من ناحية الوجوب فقط.

ولو كانت نكتة دخل أخذ القدرة في لسان الدليل، في حملها على القدرة الشرعيّة وجوداً وعدماً: أنّها لو لم تؤخذ في لسان الدليل لتمسّكنا بالدلالة الالتزاميّة، رغم سقوط المطابقيّة عن الحجّيّة، ولو اُخذت في لسان الدليل بطلت الدلالة الالتزاميّة بانهدام المطابقيّة، فتثبت نتيجة كون القدرة شرعيّة، فإسراء هذا البيان إلى ما نحن فيه يرد عليه الإشكال الأوّل؛ إذ المنفصل لا يهدم الظهور. ولا يرد عليه الإشكال الثاني؛ إذ لو كان دليل شرط القدرة متّصلا فهو بأيّ لسان يُفترض يكون هادماً للظهور.

ولو كانت نكتة دلالة أخذ القدرة في لسان الدليل على كونها شرعيّة، كون الأصل هو المولويّة أو التأسيس، دون الإرشاديّة أو التأكيد، فإسراء هذا البيان إلى ما نحن فيه يرد عليه الإشكال الثاني؛ لأنّ القدرة لم يأخذها المولى بعنوانها في لسان الدليل، وإنّما ذكر المولى البدل، وهو تأسيس على أيّ حال أو بيانٌ مولويّ على أيّ حال. ولا يرد عليه الإشكال الأوّل؛ لأنّ دليل شرط القدرة حتّى لو كان منفصلا يحمل على التأسيس أو المولويّة.

170

ناحية الملاك؛ لعدم تكوّن الإطلاق من أساسه مع المخصّص المتّصل، ولا يوجد معه مجال لتكوّن دلالة مطابقيّة على إطلاق الحكم لصورة العجز حتّى يقال: إنّه مع سقوطها عن الحجّيّة تبقى دلالتها الالتزاميّة على ثبوت الملاك حجّة. أمّا المخصّص المنفصل فهو لا يمنع عن تكوّن الدلالة المطابقيّة وعن إطلاق المادّة بلحاظ الملاك، إذن لا أثر له في حمل القدرة على القدرة الشرعيّة. هذا تمام الكلام في المرجّح الثاني.

 

3 ـ التقديم بالأهمّيّة:

المرجّح الثالث: هو الأهمّيّة، والكلام في ذلك يقع في ثلاث مراحل:

الاُولى: فيما لو قطعنا بأهمّيّة أحد الحكمين.

والثانية: فيما لو احتملنا أهمّيّة أحدهما ولم نحتمل أهمّيّة الآخر.

والثالثة: فيما لو احتملنا الأهمّيّة في كلّ واحد منهما، إلاّ أنّ الاحتمال في أحدهما كان أكبر من الآخر:

 

القطع بأهمّيّة أحد الحكمين:

أمّا المرحلة الاُولى: فحينما نقطع بأهمّيّة الإزالة عن الصلاة ـ مثلاً ـ بمقدار يكفي ذلك المقدار ملاكاً لحكم إلزاميّ ـ لا بدرجة يسيرة استحبابيّة ـ يُقدّم الأهمّ وهو الإزالة بلا إشكال. ويمكن تقريب البرهنة على هذا التقديم بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الأهمّ وارد بامتثاله على المهمّ؛ لما مضى من أنّ كلّ حكم مقيّد لبّاً بعدم الانشغال بما لا يقلّ أهمّيّةً عنه، فإذا انشغل بالأهمّ فقد فَقَد الحكم المهمّ هذا القيد، فينتفي، بينما لو انشغل بالمهمّ لم يفقد الحكم الأهمّ هذا القيد، وهذا يرجع بحسب الحقيقة إلى الترتّب من طرف واحد.

171

الوجه الثاني: أنّنا لو غضضنا النظر عن ورود أحد الإطلاقين على الآخر، كفانا حكم العقل بوجوب تقديم الأهمّ؛ وذلك لأنّ خسارة المولى لدرجة من الملاك ممّا لابدّ منه على كلّ تقدير، ولو تركنا الأهمّ وأخذنا بالمهمّ فقد خسّرنا المولى مقداراً أكثر من المقدار الذي لابدّ منه، وهذا المقدار الزائد واصلٌ إلى الدرجة الإلزاميّة بحسب الفرض، وليست درجة استحبابيّة، وملاكا الحكمين وإن كانا قد يفترضان من سنخين ومتباينين، لكنّنا على أيّ حال نحسب درجة اهتمام المولى بهما، فبلحاظ الاهتمام تكون القضيّة دائرة بين الأقلّ والأكثر، فتخسير المولى المقدار الأقلّ من اهتمامه لابدّ منه، وتخسيره الأكثر لا يجوز.

إلاّ أنّ هذا الوجه الثاني إنّما يتمّ لو عرفنا من الخارج أنّ هذا الأهمّ ملاكه فعليٌّ حتّى على تقدير الإتيان بالمهمّ. وبكلمة اُخرى: أنّ القدرة المأخوذة في الأهمّ بالقياس إلى المهمّ عقليّة، فتكون أهمّيّة الأهمّ عند امتثال المهمّ فعليّة، وعندئذ لا إشكال في أنّ العقل يحكم بوجوب تقديم الأهمّ.

أمّا إذا لم نعرف ذلك من الخارج، فلولا الرجوع إلى إطلاق الخطاب ـ الذي هو عبارة اُخرى عن الوجه الأوّل ـ لا يمكن إثبات لزوم تقديم الأهمّ؛ إذ نحتمل أنّ الإتيان بالمهمّ يرفع ملاك الأهمّ، ومع هذا الاحتمال تجري البراءة عن لزوم تقديم الأهمّ، وسعة دائرة ملاكه لصورة الإتيان بالمهمّ، وليست الأهمّيّة المحرزة في هذا الفرض إلاّ أهمّيّة تعليقيّة، أي: أنّه لو ثبت ملاك هذا فهو أهمّ، أمّا أنّه هل هو ثابت عند امتثال الآخر أو لا؟ فغير معلوم.

هذا. وقد يقال: إنّه في فرض عدم المعرفة من الخارج بكون ملاك الأهمّ فعليّاً عند الإتيان بالمهمّ، لا يتمّ الوجه الأوّل للتقديم أيضاً؛ وذلك لأنّ القيد اللبّيّ لكلّ وجوب في الحقيقة هو عدم الانشغال بواجب مزاحم له صفتان: الاُولى أنّه أهمّ أو مساو. والثانية فعليّة ملاكه حتّى مع الانشغال بذاك الواجب؛ إذ لولا ذلك لاحتملنا