155

يُستظهر منه المعنى الأوّل الذي عرفت عدم تأثيره في هذا الترجيح. وقد يُستظهر منه المعنى الثاني أو الثالث بحسب اختلاف الألفاظ، فمثلا قد يقول: (افعل هذا لو قدرت)، وقد يقول: (افعله لو لم تنشغل بمانع)، وقد يقول: (افعله لو لم يكن مانع). فقد يُستظهر من الأوّل الأوّل، ومن الثاني الثاني، ومن الثالث الثالث.

فمتى ما استظهر من دليل الحكم ـ الذي اُخذ في لسانه القدرة ـ إنّها القدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث، فمقتضى الأصل أن يتقدّم عليه الحكم المزاحم الذي لم تؤخذ القدرة في لسان دليله، بلا حاجة في التقديم إلى قرائن خاصّة؛ وذلك لأنّنا وإن قلنا: إنّ عدم أخذ القدرة في لسان الدليل لا يدلّ على كون القدرة عقليّة وعدم كونها شرعيّة، لكنّه يدلّ بالإطلاق على نفي خصوص المعنى الثالث، وهو دخل عدم توجّه خطاب بالمزاحم في الملاك، فإنّ مقتضى إطلاق الحكم هو ثبوته حتّى مع توجّه خطاب بالمزاحم إليه لو لم يمتثله.

وحينما يكون ظاهر اللفظ الدالّ على القدرة المأخوذة في لسان الدليل هي القدرة بالمعنى الثالث، ثبت دخل القدرة في الملاك بلا حاجة إلى الوجوه الثلاثة التي ذكرناها لإثبات ذلك. والنكتة في ذلك هي: أنّ دخل القدرة بذلك المعنى في الخطاب ليس عقليّاً، فإذا اُخذت القدرة بذلك المعنى قيداً في الخطاب دلّ ذلك لا محالة على دخلها في الملاك. هذا.

وحاصل الكلام في كيفيّة استظهار كون القدرة عقليّة أو شرعيّة: أنّه إن اُخذت في أحد الدليلين القدرة بالمعنى الثالث في الموضوع، فهذا دليل على كون القدرة شرعيّة؛ لأنّ القدرة بالمعنى الثالث غير دخيلة بحكم العقل، فدخلها شرعاً لا يكون إلاّ بدخلها في الملاك، وعدم أخذها في دليل الآخر دليل على عدم اشتراطه بالقدرة الشرعيّة بهذا المعنى؛ لأنّ إطلاق الخطاب ينفي هذا القيد؛ لعدم كونه قيداً عقليّاً.

156

أمّا إذا لم تؤخذ القدرة بالمعنى الثالث في دليل أحد الحكمين، فإن فُرض تساوي الدليلين في عدم أخذ القدرة ـ التي هي قيد لبّيّ ـ في لسان أحدهما، أو أخذها في لسانهما معاً بنهج واحد، فمن الواضح أنّه عندئذ لا معنى لترجيح أحد الحكمين على الآخر.

وإن فُرض أخذ ذلك القيد اللبّيّ في أحدهما دون الآخر، فهذا يدخل في الصورة الاُولى من الصور الأربع التي مضى ذكرها لو اعترفنا بمجموع أمرين: أحدهما: أنّ أخذ القدرة في لسان الدليل قرينة على دخلها في الملاك. والآخر: أنّ عدم أخذ القدرة في لسان الدليل قرينة على عدم دخلها في الملاك، إمّا للدلالة الالتزاميّة، أو لإطلاق المادّة، فعندئذ يكون هذا داخلا في الصورة الاُولى، أعني: ما لو ثبت في أحدهما أنّ القدرة شرعيّة وفي الآخر أنّها عقليّة، فيقدّم الثاني على الأوّل.

أمّا لو لم يتمّ كلا الأمرين فيدخل المورد في الصورة الثانية من تلك الصور، أعني: ما لو لم نحرز في كليهما أنّ القدرة عقليّة أو شرعيّة.

وأمّا لو فُرضت تماميّة الأمر الأوّل وعدم تماميّة الأمر الثاني ـ كما هو الصحيح ـ دخل المورد في الصورة الثالثة من تلك الصور، أعني: ما لو اُحرز في أحدهما أنّ القدرة شرعيّة، ولم يُحرز في الآخر أنّها شرعيّة أو عقليّة.

ولو فرض العكس، أعني: تماميّة الأمر الثاني دون الأوّل، دخل في الصورة الرابعة، أعني: ما لو اُحرز في أحدهما أنّ القدرة عقليّة ولم يُحرز في الآخر أنّها عقليّة أو شرعيّة، وهذا كاف في الترجيح كما مضى، إلاّ أنّ هذا كلّه مجرّد فرض.

أمّا ما هو المنسجم مع التعبير العرفيّ والفقهيّ، فهو أنّه حينما يؤخذ في لسان الدليل عدم الانشغال بالمزاحم، لا يؤخذ عادة فيه ذلك القيد اللبّيّ بحدوده، أعني: عدم الانشغال بخصوص الأهمّ أو المساوي، بل يؤخذ مطلق عدم الانشغال

157

بواجب آخر، فيقول مثلا: (إن لم يكن لديك شغل واجب فاصنع كذا). وعندئذ يتقدّم كلّ واجب آخر عليه؛ وذلك لأنّنا إن ادّعينا أنّ المستظهر عرفاً من هذا التقييد أنّه لا تجعل هذا الواجب مزاحماً لأيّ واجب آخر، بل قدّم كلّ واجب آخر عليه بالأهمّيّة، فلا إشكال في التقديم. وإن لم ندّع هذا الاستظهار العرفيّ كفانا في تخريج تقديم كلّ واجب آخر عليه أحد تقريبين:

التقريب الأوّل: أن يُدرج ذلك فيما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من الترجيح باحتمال الأهمّيّة بأن يقال: إنّ هذا الواجب الذي اُخذ في موضوعه عدم الانشغال بواجب آخر، لا نشكّ في أنّه على تقدير كون القدرة المأخوذة فيه ـ في مقابل مزاحمه ـ عقليّة، فهو ليس بأهمّ من مزاحمه، وإلاّ لما كان يؤخذ عدم الانشغال بمزاحمه في موضوعه، بينما نحتمل أهمّيّة مزاحمه منه.

وأمّا على تقدير كون قدرته شرعيّة فالاحتمالات متكافئة. إلاّ أنّ الترجيح بهذا البيان موقوف على قبول الترجيح بالأهمّيّة حتّى في المشروطين بالقدرة الشرعيّة الذي سيأتي بحثه في المرجّح الثالث؛ إذ من المحتمل كون كلا الواجبين في المقام مشروطين بالقدرة الشرعيّة.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّ القدرة المأخوذة في الواجب ـ المشروط بعدم الانشغال بواجب آخر ـ شرعيّة حتماً، وليست عقليّة؛ وذلك لأنّ نكتة أخذ عدم الانشغال بواجب آخر في موضوع هذا الواجب ليست هي مجرّد أنّ المولى لاحظ ـ بنحو القضيّة الخارجيّة ـ أنّ كلّ ما يزاحم هذا الواجب فهو إمّا أهمّ منه أو مساو له مثلا، أو أنّ المولى لاحظ هذا الواجب، فرأى أنّ ملاكه هو أقلّ مقدار ممكن من الملاك الباعث للإيجاب، بل يستكشف من ظاهر دليل التقييد بعدم الانشغال بواجب آخر أنّ الانشغال بواجب آخر يرفع ملاك هذا الواجب، وذلك:

إمّا بتقريب أنّنا نعلم ـ ولو إجمالاً ـ أنّ بعض الواجبات في الشريعة قدرته

158

شرعيّة(1)، وإطلاق التقييد بعدم الانشغال بواجب آخر يشمل مثل هذا الواجب، بينما هذا لا يمكن تخريجه على أساس كون ملاك هذا المزاحم أهمّ أو مساوياً؛ إذ حتّى لو كان كذلك، وكانت القدرة في هذا الواجب عقليّة، لكان مقدّماً على ذاك المزاحم، ولم يبق مبرّر للتقييد بعدم الانشغال بواجب آخر. إذن، يستكشف من ذلك أنّ كلّ واجب آخر يكون بامتثاله رافعاً لملاك هذا الواجب. أمّا احتمال التبعيض، بأن تكون القدرة في هذا الواجب تجاه كلّ واجب مقيّد بالقدرة الشرعيّة شرعيّة وتجاه غير ذلك عقليّة، فغير عقلائيّ.

وإمّا بتقريب أنّ الظاهر من دليل التقييد بعدم الانشغال بواجب آخر هو: أنّ ذات الانشغال بواجب آخر ـ بنحو القضيّة الحقيقيّة ـ(2) هو المانع عن وجوب هذا


(1) لا يخفى أنّ دعوى هذا العلم الإجماليّ تنافي ما سيأتي من البرهنة على أنّ القدرة في الواجب الآخر عقليّة.

(2) الظهور في كون القيد ملحوظاً بنحو القضيّة الحقيقيّة، إنّما يكون فيما إذا كان لحاظ الخارج من قِبَل المولى ـ بما هو مولى ـ غير ممكن إلاّ على أساس إعمال الغيب، ولكن في المقام يكون المولى ـ بما هو مولى ـ مطّلعاً على باقي واجباته، وعلى حدود ملاكات الواجبات، فلحاظ ذلك ليس خلاف الظاهر.

والأولى من كلّ هذه التقريبات أن يقال: إنّ الواجب الذي اُخذ في لسان دليله، قيد عدم الانشغال بواجب مزاحم، لا يخلو حال هذا القيد فيه ـ بالقياس إلى الواجب الآخر ـ من كونه قدرة عقليّة غير دخيلة في الملاك، أو شرعيّة دخيلة في الملاك. وعلى الثاني، فالقدرة في الواجب الآخر ـ الذي لم تؤخذ في لسان دليله ـ عقليّة، بالبرهان الذي سيأتي في المتن بعد أسطر: من شمول إطلاق دليل الواجب الآخر لفرض الانشغال بواجب كانت قدرته شرعيّة. وعلى الأوّل، فالقدرة في الواجب الآخر الذي لم تؤخذ في لسان دليله

159

الواجب، ولو فُرض ذاك الواجب الآخر قدرته شرعيّة مثلا، وهذا لا يكون إلاّ بفرض القدرة في هذا الواجب شرعيّة.

فإذا اتّضح أنّ القدرة في هذا الواجب شرعيّة، جئنا إلى الواجب الآخر المزاحم لهذا الواجب وقلنا: إنّ القدرة في ذاك الواجب الآخر ـ بالقياس إلى هذا الواجب ـ عقليّة حتماً؛ وذلك لأنّ إطلاق دليل ذاك الواجب يشمل فرض الانشغال بهذا الواجب، فحتّى مع الانشغال بهذا الواجب يكون ذاك الواجب ثابتاً بملاكه ووجوبه، في حين أنّه مع الانشغال بذاك الواجب يرتفع هذا الواجب بوجوبه وملاكه، فلا محالة يتقدّم ذاك على هذا.

أمّا النكتة في شمول إطلاق دليل ذاك الواجب لفرض الانشغال بهذا الواجب، فهي: أنّ ما مضى من القيد اللبّيّ في واجب، وهو عدم الانشغال بواجب أهمّ أو مساو (إذ معه لا معنى لإيجابه عليه ضمّاً إلى ذاك، ولا بدلا عنه؛ لأنّ الأوّل غير


أيضاً عقليّة؛ إذ لو كانت شرعيّة مع كون القدرة في الواجب الذي اُخذت في لسان دليله عقليّة، لكان هذا رافعاً بامتثاله موضوع ما كانت قدرته شرعيّة، دون العكس. فلا يبقى معنى لأخذ قيد عدم الانشغال بالواجب المزاحم في لسان دليله، وقد فُرض أخذه فيه.

وعليه فنحن نعلم إجمالاً بأنّه إمّا أنّ القدرة في كليهما عقليّة، أو فيما لم تؤخذ في لسان دليله عقليّة، وفيما اُخذت في لسان دليله شرعيّة. وعلى الثاني يتقدّم ما لم تؤخذ القدرة في لسان دليله على ما اُخذت القدرة فيه، بنكتة عقليّة القدرة في الأوّل، وشرعيّتها في الثاني. وعلى الأوّل يتقدّم أيضاً ما لم تؤخذ القدرة في لسان دليله بنكتة احتمال الأهمّيّة؛ لأنّهما بعد فرض القدرة فيهما عقليّتين، لا يمكن أن يقيّد الثاني بعدم الانشغال بالأوّل، إلاّ إذا لم يكن الثاني أهمّ، فلا يبقى إلاّ احتمال أن يكونا متساويين أو يكون الأوّل أهمّ.

160

معقول، والثاني بلا مبرّر) لابدّ من إجراء تعديل عليه، وذلك بأن يقال: إنّ القيد اللبّيّ في كلّ واجب هو عدم الانشغال بواجب متّصف بوصفين: أحدهما: كونه أهمّ أو مساوياً لمزاحمه، والثاني: كون قدرته تجاه مزاحمه عقليّة؛ إذ لو كانت شرعيّة كان من المحتمل أنّ المولى يريد الانشغال بمزاحمه بدلا عنه؛ إذ من المحتمل كون قدرته عقليّة. إذن، فالإطلاق يتمّ وتثبت به حقّانيّة هذا الاحتمال(1).

البحث الرابع: أنّ تقدّم المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة، هل يشمل صورة كون المشروط بالقدرة الشرعيّة أهمّ، أو لا؟

التحقيق: أنّ هذا يرجع إلى صياغة أخذ قيد القدرة في لسان الدليل في المشروط بالقدرة الشرعيّة: فإن كان ذلك بما مضى من الصياغة العرفيّة، أعني:


(1) لا بأس بأن نسجّل هنا خلاصة النتائج التي اعتقدها اُستاذنا(رحمه الله) في بحث الترجيح بالقدرة العقليّة والقدرة الشرعيّة في كلّ واجبين متزاحمين لم تؤخذ القدرة في لسان دليل أحدهما واُخذت في لسان دليل الآخر، وهي: أنّ القدرة المأخوذة في لسان دليل ذاك الواجب قد تكون بمعنى القدرة التكوينيّة، وقد تكون بمعنى يشمل عدم الانشغال بالأهمّ أو المساوي، وقد تكون بمعنى الانشغال بأيّ واجب آخر، وقد تكون بمعنى يشمل مجرّد وجود المزاحم، فهذا أربع صور: أمّا الصورة الاُولى فلا أثر لها في تقديم أحد الواجبين على الآخر أصلا. وأمّا الصورة الثانية فتأثيرها في تقديم ما لم تؤخذ القدرة في لسان دليله على ما اُخذت في لسان دليله موقوف على قيام قرينة خاصّة تدلّ على أنّ القدرة فيما لم تؤخذ في لسان دليله عقليّة. وأمّا الصورة الثالثة فهي تكفي في إثبات ورود ما لم تؤخذ القدرة في لسان دليله على الآخر بالامتثال، بلا حاجة إلى قرينة خاصّة. وأمّا الصورة الرابعة فهي تكفي في إثبات الورود بنفس فعليّة الخطاب بلا حاجة إلى قرينة خاصّة.

161

عدم الانشغال بواجب(1) إذن فالمشروط بالقدرة العقليّة يرفع ملاك هذا الأهمّ، فلا أثر لأهمّيّته، ولا يخسره المولى.

وإن كان ذلك بصياغة القيد اللبّيّ، أعني: عدم الانشغال بالأهمّ أو المساوي، إذن فالمشروط بالقدرة الشرعيّة الذي هو الأهمّ هو الذي يتقدّم؛ لأنّ المشروط بالقدرة العقليّة لم يؤخذ عدمه في موضوع هذا؛ لأنّه ليس أهمّ ولا مساوياً له، فلا يرفع موضوعه، فيكون هذا مقدّماً عليه بالأهمّيّة.

 

2 ـ تقديم ما لا بدل له على ما له البدل:

المرجّح الثاني: ما ذكره أيضاً المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّه لو كان أحد الواجبين ممّا له البدل، والآخر ممّا لا بدل له قُدّم ما لا بدل له على ما له البدل. واستدلّ(رحمه الله)على ذلك بأنّ الحكم الذي له بدل لا اقتضاء له لحفظ متعلّقه بالخصوص، بينما الحكم الذي لا بدل له يقتضي تحقّق متعلّقه بالخصوص، وما لا اقتضاء له لا يمكنه أن يزاحم ما له الاقتضاء، فلا محالة يقدّم ما لا بدل له على ما له البدل.

أقول: إنّ هذا الدليل ـ كما ترى ـ إنّما يناسب ما لو كان البدل بدلا عرضيّاً، فحينئذ لا يقتضي الخطاب الإتيان بالمبدل بالخصوص، وإنّما يقتضي الإتيان بالجامع بينهما. أمّا لو كان البدل طوليّاً ـ وهو مورد الكلام ـ فلا محالة يكون الخطاب مقتضياً لمتعلّقه بالخصوص؛ إذ لم يتعلّق إلاّ به، كما هو واضح، فهذا البرهان غير صحيح.

والصحيح أن ندرس هذا المرجّح على نهج درسنا للمرجّح السابق.


(1) وكذا لو كان بمعنى عدم وجود واجب آخر مضادّ له، أي: بالمعنى الثالث من معاني القدرة الشرعيّة.

162

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّه تارة نتكلّم في مرجّحيّة هذا المرجّح بعنوانه مستقلاًّ عن باقي المرجّحات، فيكون المطلوب معرفة ما إذا كان يوجد برهانٌ على مرجّحيّة ما ليس له البدل على ما له البدل بهذا العنوان، وبغضّ النظر عن باقي المرجّحات. واُخرى نتكلّم في مرجّحيّة هذا المرجّح بلحاظ رجوعه إلى مرجّح آخر، فيكون المطلوب معرفة ما إذا كان يوجد برهانٌ على استلزام هذا العنوان لصدق مرجّح آخر من سائر المرجّحات، فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في ترجيح ما لا بدل له على ما له البدل بالأصالة ومستقلاًّ عن سائر المرجّحات.

وأحسن ما يمكن أن يقال في مقام البرهنة على ذلك هو: أنّه قد مضى فيما سبق برهانٌ على أنّ كلّ حكم مشروطٌ بعدم انشغال المكلّف بما لا يقلّ أهمّيّة عنه، وهو أنّه في فرض انشغال العبد بما لا يقلّ أهمّيّة عنه، لماذا يأمره المولى بالفعل الآخر؟ هل يأمره به لكي يأتي به منضمّاً إلى ذلك الفعل، أو لكي يصرفه عن ذلك الفعل إلى هذا الفعل؟ أمّا الأوّل فغير معقول؛ لعدم قدرة المكلّف على الإتيان به منضمّاً إلى الفعل الآخر. وأمّا الثاني فأيضاً غير معقول؛ إذ الفعل الذي فُرض انشغال المكلّف به ليس بأقلّ أهمّيّة من الفعل الذي يُؤمر به، فلا داعي لصرفه عنه إليه.

إلاّ أنّ هذا الشرط ينبغي إدخال تعديل عليه، وذلك بأن يقال: إنّ كلّ حكم مشروط بعدم انشغال المكلّف بما لا يقلّ أهمّيّة عنه ممّا ليس له بدل؛ إذ لو كان له بدل لا يتأتّى ذلك البرهان، فنبقى نحن وإطلاق الخطاب؛ إذ لا نرفع يدنا عن إطلاق الخطاب إلاّ بالمقدار الذي يقتضيه ذلك المقيّد اللبّيّ.

والوجه في عدم تأتّي ذلك البرهان أنّه لو قيل لماذا يأمر المولى بذلك الفعل، هل لكي يجمع العبد بينه وبين الفعل الآخر، أو لكي يصرفه عنه إليه؟ لأمكن أن يجاب على ذلك باختيار الشقّ الثاني، بأن يقال: إنّ المولى يأمره بهذا الفعل لكي

163

يصرفه عن ذاك الفعل إلى هذا الفعل.

ولا يقال: إنّ هذا الصرف بلا موجب؛ لكونه صرفاً إلى ما لا يزداد أهمّيّة من المصروف عنه.

فإنّه يقال: إنّ الموجب لذلك هو أنّه لو انشغل بما له البدل يفوت على المولى ملاك ما لا بدل له، بينما لو انشغل بما لا بدل له، فكان عاجزاً عمّا له البدل، فانتقل إلى بدله، فقد حصل المولى على كلا الملاكين: أمّا ملاك ما لا بدل له فبالإتيان بمتعلّقه. وأمّا ملاك ما له البدل فبالإتيان ببدله.

وبهذا يتّضح أنّ ما لا بدل له مقدّم على ما له البدل؛ لأنّ الثاني مشروط بعدم الانشغال بالأوّل، بينما الأوّل ليس مشروطاً بعدم الانشغال بالثاني، فالأوّل يكون بامتثاله وارداً على الثاني.

وقد يورد على هذا البيان بأنّ هذا المرجّح يتطلّب دائماً وجود مرجّح سابق، ومعه لا تأثير لهذا المرجّح، وهو معنى بطلان هذا المرجّح.

والنكتة في ذلك: أنّ ترجيح الإزالة مثلا على الصلاة، بكون الصلاة ذات بدل دون الإزالة، يتوقّف طبعاً على ثبوت بدل للصلاة، وعلى كون بدليّة ذاك البدل ثابتاً حين الإزالة، وذلك بثبوت موضوع البدليّة، وهو العجز. والعجز إمّا يكون تكوينيّاً، وهو غير موجود؛ لقدرته على ترك الإزالة وفعل الصلاة. وإمّا يكون تشريعيّاً بمعنى كون انشغاله بالصلاة ملازماً للوقوع في محذور شرعيّ، فيكون عاجزاً شرعاً عن الصلاة، وهذا إنّما يكون بوجوب تقديم الإزالة على الصلاة، فيصبح بذلك عاجزاً شرعاً عن الصلاة. إذن، فيجب إثبات وجوب تقديم الإزالة في الرتبة السابقة على هذا المرجّح بمرجّح آخر كالأهمّيّة، وهذا كما قلنا معناه بطلان هذا المرجّح.

إلاّ أنّ هذا الإيراد يمكن الجواب عليه بأنّ الأمر يختلف باختلاف ما يُستظهر

164

من دليل البدليّة بحسب اختلاف ألسنته، فقد يُستظهر منه أنّ موضوع البدليّة هو العجز عن المبدل بمعنى يشمل الوقوع في المحذور الشرعيّ، فيقصد بالعجز التشريعيّ استلزام الوقوع في المحذور الشرعيّ، وعندئذ لابدّ من التفتيش عن مرجّح آخر سابق؛ إذ لولاه لا يقع ـ من ترك ما ليس له البدل للانشغال بما له البدل ـ في محذور شرعيّ.

إلاّ أنّه قد يُستظهر منه أنّ موضوع البدليّة هو العجز عن المبدل بمعنى يشمل المعذوريّة، فيقصد بالعجز التشريعيّ المعذوريّة الشرعيّة، وعندئذ يصبح ما ليس له البدل مقدّماً على ما له البدل في المتساويين(1)، بلا حاجة إلى مرجّح سابق؛ وذلك لأنّ الانشغال بالمساوي يكفي في المعذوريّة شرعاً عمّا يساويه، فإذا انشغل بما ليس له البدل كان معذوراً عمّا له البدل، فيأتي ببدله، وبذلك يجمع بين الملاكين، بينما لو انشغل بما له البدل فاته الآخر نهائيّاً.

هذا كلّه إذا فُرض أنّ زمان الإتيان بالبدل هو زمان القدرة على المبدل، أو فُرض أنّ العجز التكوينيّ الناشئ عن العمد والاختيار لا يُحقّق موضوع البدليّة. أمّا لو فرضنا أنّ العجز التكوينيّ العمديّ كان كافياً في تحقيق موضوع البدليّة، وأنّه كان قادراً على البدل بعد عجزه عن المبدل، فحتّى لو فسّرنا العجز التشريعيّ بمعنى استلزام الوقوع في المحذور الشرعيّ، لا بمعنى العذر الشرعيّ، أمكن ترجيح ما ليس له البدل على ما له البدل في المتساويين، من دون فرض مرجّح سابق؛ إذ لو اشتغل بما له البدل فاته الآخر نهائيّاً، بينما لو اشتغل بما ليس له البدل عجز تكويناً ـ بعد مضيّ آن مثلا، أو بانتهائه من العمل ـ عمّا له البدل؛ لفرض التزاحم بينهما، فتصل النوبة إلى البدل، فيأتي بالبدل، فقد جمع بهذا بين الملاكين.


(1) وفي كلّ مورد لم نجد مرجّحاً آخر لما ليس له البدل، ولو لم نجزم بتساويهما.

165

وعلى أيّ حال فقد تحصّل أنّه ليس من الصحيح الإيراد على الترجيح بثبوت البدل وعدمه، باحتياجه إلى مرجّح سابق، بل نفس ثبوت البدل وعدمه يكون مرجّحاً.

نعم، التحقيق أنّ هذا ـ بالدقّة ـ يرجع إلى الترجيح بالأهمّيّة أو باحتمال الأهمّيّة. ولتوضيح الفكرة نفترض ثلاثة فروض ونشرح الحال فيها:

الفرض الأوّل:أن يوجد عندنا واجبان متزاحمان، كالصلاة والإزالة، ولأحدهما بدل وهو الصلاة مثلا، ونحن نعلم أنّ الواجبين متساويان في الملاك، وهنا يتمّ الترجيح بالبدليّة واللابدليّة، بناءً على كون دليل البدليّة شاملا لفرض العجز بمعنى العذر؛ وذلك لأنّه لو أتى بالصلاة فاته كلّ ملاك الإزالة الذي نفترضه ـ مثلا ـ عشر درجات، بينما لو أتى بالإزالة لأمكنه الإتيان ببدل الصلاة، فلا يكون قد فاتته كلّ الدرجات العشرة من ملاك الصلاة؛ لأنّ البدل يتدارك خمساً منها مثلا. فطرف المزاحمة مع الإزالة ذات الدرجات العشرة للملاك، إنّما هو مقدار التفاوت بين الصلاة وبدلها، وهو خمس درجات، فالإزالة أهمّ، وكان الترجيح بهذه الأهمّيّة(1).

الفرض الثاني: أن لا نملك فكرةً عن ملاكي الصلاة والإزالة، فنحتمل تساويهما، ونحتمل رجحان الأوّل، ونحتمل رجحان الثاني. وعندئذ فاحتمال رجحان ملاك الصلاة يوازيه احتمال رجحان ملاك الإزالة، ويبقى احتمال التساوي، وهذا الاحتمال في الحقيقة احتمالٌ لأهمّيّة الإزالة ورجحانه؛ لما عرفت


(1) وكذلك الحال لو فرضنا أنّ البدل يتدارك كلّ ملاك المبدل، فأيضاً يكون الترجيح بروح الأهمّيّة، وإن فُرض عدم صدق الأهمّيّة لغة مثلا؛ لاشتراط وجود أصل الوصف المتفاضل فيه في طرف المرجوح في باب أفعل التفضيل.

166

في الفرض الأوّل ـ وهو فرض التساوي ـ من أهمّيّة ما لا بدل له. إذن، فأصبح احتمال أهمّيّة الإزالة أقوى من احتمال أهمّيّة الصلاة، فيدخل ذلك في الترجيح بأقوائيّة احتمال الأهمّيّة، فإن قبلنا الترجيح بذلك تمّ الترجيح هنا، وإن قلنا: إنّه لابدّ في الترجيح الجزم بالأهمّيّة ولا يكفي احتمالها، لم يتمّ الترجيح هنا. وسيأتي إن شاء الله البحث عن مرجّحيّة احتمال الأهمّيّة.

الفرض الثالث: أن نعلم أنّ ملاك الصلاة عشر درجات مثلا، وملاك الإزالة خمس، وبدل الصلاة يتدارك خمس درجات من ملاك الصلاة، فإن فرضنا أنّ دليل البدليّة لم يشمل العجز عن الصلاة، بمعنى الانشغال بالإزالة ـ لكون الإزالة أقلّ ملاكاً من الصلاة ـ فلا موضوع للترجيح بالبدليّة واللابدليّة. وإن فرضنا أنّه شمل ذلك، فهنا وإن أصبحت الصلاة ممّا له بدلٌ دون الإزالة، ولا توجد هناك أهمّيّة أو احتمال الأهمّيّة للإزالة؛ إذ على أيّ حال تفوته خمس درجات من المصلحة، إلاّ أنّه لا مبرّر هنا للترجيح بوجود البدل وعدمه؛ إذ المقيّد اللبّيّ هنا يأتي ويُسقط إطلاق دليل وجوب الإزالة عند الانشغال بالصلاة، كما يسقط العكس؛ إذ لا مبرّر لوجوب الإزالة عند انشغاله بالصلاة؛ إذ لو اُريد به الجمع بينهما فهو غير مقدور. ولو اُريد به صرف العبد عن الصلاة إلى الإزالة فلا مبرّر له؛ إذ يفوته ـ بهذا الصرف ـ ما لا يقلّ أهمّيّة عن ملاك الإزالة، وهو خمس درجات.

فتحصّل: أنّه متى ما صحّ الترجيح بوجود البدل وعدمه، رجع إلى الترجيح بالأهمّيّة أو أقوائيّة احتمال الأهمّيّة. ومتى ما لم يرجع إلى ذلك لم يصحّ الترجيح بذلك.

المقام الثاني: في ترجيح ما لا بدل له على ما له البدل بلحاظ رجوع ذلك إلى مرجّح آخر، وتوجد بهذا الصدد محاولتان:

المحاولة الاُولى: ما ظهر من كلامنا في المقام الأوّل من إرجاع هذا المرجّح

167

إلى الترجيح بالأهمّيّة أو أكبريّة احتمال الأهمّيّة، ففائدة ذكر الترجيح بعدم البدل على ما له البدل بيان أنّ هذا العنوان (أعني: عنوان ثبوت البدل لأحدهما دون الآخر) متى ما ثبت أوجب في نفسه انطباق مرجّح الأهمّيّة، بمعنى أكبريّة احتمال الأهمّيّة، بغضّ النظر عن تزاحم حساب ذلك بنكتة خارجيّة اُخرى تقتضي أهمّيّة الآخر.

والبرهان على ذلك برهانٌ رياضيّ مأخوذ من حساب الاحتمالات، وهو أنّه متى ما كانت عندنا كمّيّتان يقابل أيّ احتمال في صالح أكبريّة أحدهما، احتمالا آخر مثله في صالح أكبريّة الآخر، فلا محالة يكون احتمال الأكبريّة في أحدهما مساوياً لاحتمال الأكبريّة في الآخر. وإذا وجد من بين الاحتمالات احتمالٌ واحد في صالح أكبريّة أحدهما، لا يوجد في مقابله احتمالٌ في صالح أكبريّة الآخر، فلا محالة يصبح احتمال أكبريّة ذاك أرجح من احتمال أكبريّة مقابله.

وما نحن فيه ـ حينما لا نملك أيّ فكرة عن كمّيّة الملاك في كلّ واحد من المتزاحمين وقياسه إلى الآخر ـ من هذا القبيل، فإذا تزاحمت الصلاة مع الإزالة مثلا، ولم نملك أيّ فكرة عن ملاك كلّ واحد منهما، فلا محالة يكون كلّ احتمال في صالح أكبريّة أحدهما موازياً لاحتمال في صالح أكبريّة الآخر، فمثلا احتمال كون ملاك الصلاة نصف ملاك الإزالة، يوازيه احتمال كون ملاك الإزالة نصف ملاك الصلاة، واحتمال كون ملاك الصلاة رُبع ملاك الإزالة، يوازيه احتمال كون ملاك الإزالة رُبع ملاك الصلاة... وهكذا.

إلاّ أنّ هناك احتمالا واحداً ليس في مقابله احتمال آخر يوازيه، وهو احتمال كون ملاك الصلاة مساوياً لملاك الإزالة، فإنّ هذا الاحتمال لو عكسناه لكان عكسه عينه، وهو كون ملاك الإزالة مساوياً لملاك الصلاة؛ فإذا فُرض للصلاة بدل وهو الصدقة مثلا، أصبح هذا الاحتمال الوحيد الذي لا عِدل له في صالح أرجحيّة

168

ملاك الإزالة؛ إذ لو اخترنا الإزالة لم يفُتنا تمام ملاك الصلاة؛ لتدارك بعضه على الأقلّ ببدلها وهي الصدقة، بينما لو اخترنا الصلاة فاتنا كلّ ملاك الإزالة، ولا يوجد في مقابل ذلك احتمال آخر في صالح أرجحيّة ملاك الصلاة، فأصبح لا محالة احتمال الأهمّيّة في الإزالة التي لا بدل لها، أكبر من احتمال الأهمّيّة في الصلاة التي لها بدل.

نعم، قد يزاحم هذا الحساب حسابٌ آخر لأرجحيّة تُفرَض للصلاة حينما نملك فكرةً عن الملاكين، إلاّ أنّ هذا لا ينافي ما قلناه: من أنّ كون أحدهما ليس له بدل بخلاف الآخر، يوجب بذاته ترجيحاً على الآخر، وإن كان ذلك قد يزاحم بترجيح آخر للطرف المقابل.

المحاولة الثانية: محاولة إرجاع هذا المرجّح إلى المرجّح السابق، أعني: ترجيح ما كانت القدرة فيه عقليّة على ما كانت القدرة فيه شرعيّة. بتقريب: أنّ ما ليس له بدل لم تؤخذ في موضوعه القدرة في لسان الدليل، وصاحب القول بالمرجّح الأوّل يرى أنّ عدم أخذ القدرة في لسان الدليل يوجب حمل القدرة على كونها عقليّة. وأمّا ما له البدل ـ وقد فُرض في موضوع بدله عدم القدرة على المبدل ـ فالقدرة فيه شرعيّة؛ وذلك لأنّ دليل البدل ـ المأخوذ في موضوعه عدم القدرة ـ قرينة على تقييد موضوع المبدل بالقدرة؛ لكي لا يجتمع البدل والمبدل على شخص واحد. إذن، فقد اُخذت القدرة في موضوع ما له البدل في لسان الدليل، فصارت القدرة شرعيّة، فما ليس له البدل يتقدّم على ما له البدل من باب ترجيح المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة.

ويرد عليه ـ بعد تسليم الاُصول الموضوعيّة لهذا الكلام وعدم النقاش فيها بمثل إنكار كون عدم ذكر القدرة في لسان الدليل دليلا على كون القدرة عقليّة ـ: أنّ دليل البدل وإن فُرض تخصيصه لدليل المبدل بفرض القدرة، لكن هذا مخصّص

169

منفصل، ولا ينبغي فرضه كالمخصّص المتّصل في كونه موجباً لحمل القدرة على القدرة الشرعيّة(1)؛ فإنّ المخصّص المتّصل بصورة القدرة يوجب حمل القدرة على القدرة الشرعيّة مثلا، من باب أنّه لا يوجد معه مجال لإطلاق المادّة من


(1) لو كانت نكتة دخل أخذ القدرة في لسان الدليل وعدمه، في حملها على القدرة الشرعيّة أو العقليّة، هي: أنّها لو لم تؤخذ في لسان الدليل تمسّكنا بإطلاق المادّة لإثبات الملاك عند العجز، ولو اُخذت في لسان الدليل لم يبق إطلاق للمادّة، فتثبت نتيجة كون القدرة شرعيّة، فإسراء هذا البيان إلى ما نحن فيه يرد عليه أوّلا: أنّ دليل البدل إذا كان منفصلا لم يضرّ بإطلاق المادّة. وثانياً: أنّه حتّى لو كان متّصلا فهو ليس بلسان توصيف المادّة بالقدرة مثلا حتّى يقيّد المادّة بلحاظ الملاك أيضاً، وإنّما فهمنا التقيّد بالقدرة من ناحية أنّ البدل والمبدل لا يجتمعان في الوجوب، وهذا يصلح للتقييد من ناحية الوجوب فقط.

ولو كانت نكتة دخل أخذ القدرة في لسان الدليل، في حملها على القدرة الشرعيّة وجوداً وعدماً: أنّها لو لم تؤخذ في لسان الدليل لتمسّكنا بالدلالة الالتزاميّة، رغم سقوط المطابقيّة عن الحجّيّة، ولو اُخذت في لسان الدليل بطلت الدلالة الالتزاميّة بانهدام المطابقيّة، فتثبت نتيجة كون القدرة شرعيّة، فإسراء هذا البيان إلى ما نحن فيه يرد عليه الإشكال الأوّل؛ إذ المنفصل لا يهدم الظهور. ولا يرد عليه الإشكال الثاني؛ إذ لو كان دليل شرط القدرة متّصلا فهو بأيّ لسان يُفترض يكون هادماً للظهور.

ولو كانت نكتة دلالة أخذ القدرة في لسان الدليل على كونها شرعيّة، كون الأصل هو المولويّة أو التأسيس، دون الإرشاديّة أو التأكيد، فإسراء هذا البيان إلى ما نحن فيه يرد عليه الإشكال الثاني؛ لأنّ القدرة لم يأخذها المولى بعنوانها في لسان الدليل، وإنّما ذكر المولى البدل، وهو تأسيس على أيّ حال أو بيانٌ مولويّ على أيّ حال. ولا يرد عليه الإشكال الأوّل؛ لأنّ دليل شرط القدرة حتّى لو كان منفصلا يحمل على التأسيس أو المولويّة.

170

ناحية الملاك؛ لعدم تكوّن الإطلاق من أساسه مع المخصّص المتّصل، ولا يوجد معه مجال لتكوّن دلالة مطابقيّة على إطلاق الحكم لصورة العجز حتّى يقال: إنّه مع سقوطها عن الحجّيّة تبقى دلالتها الالتزاميّة على ثبوت الملاك حجّة. أمّا المخصّص المنفصل فهو لا يمنع عن تكوّن الدلالة المطابقيّة وعن إطلاق المادّة بلحاظ الملاك، إذن لا أثر له في حمل القدرة على القدرة الشرعيّة. هذا تمام الكلام في المرجّح الثاني.

 

3 ـ التقديم بالأهمّيّة:

المرجّح الثالث: هو الأهمّيّة، والكلام في ذلك يقع في ثلاث مراحل:

الاُولى: فيما لو قطعنا بأهمّيّة أحد الحكمين.

والثانية: فيما لو احتملنا أهمّيّة أحدهما ولم نحتمل أهمّيّة الآخر.

والثالثة: فيما لو احتملنا الأهمّيّة في كلّ واحد منهما، إلاّ أنّ الاحتمال في أحدهما كان أكبر من الآخر:

 

القطع بأهمّيّة أحد الحكمين:

أمّا المرحلة الاُولى: فحينما نقطع بأهمّيّة الإزالة عن الصلاة ـ مثلاً ـ بمقدار يكفي ذلك المقدار ملاكاً لحكم إلزاميّ ـ لا بدرجة يسيرة استحبابيّة ـ يُقدّم الأهمّ وهو الإزالة بلا إشكال. ويمكن تقريب البرهنة على هذا التقديم بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الأهمّ وارد بامتثاله على المهمّ؛ لما مضى من أنّ كلّ حكم مقيّد لبّاً بعدم الانشغال بما لا يقلّ أهمّيّةً عنه، فإذا انشغل بالأهمّ فقد فَقَد الحكم المهمّ هذا القيد، فينتفي، بينما لو انشغل بالمهمّ لم يفقد الحكم الأهمّ هذا القيد، وهذا يرجع بحسب الحقيقة إلى الترتّب من طرف واحد.

171

الوجه الثاني: أنّنا لو غضضنا النظر عن ورود أحد الإطلاقين على الآخر، كفانا حكم العقل بوجوب تقديم الأهمّ؛ وذلك لأنّ خسارة المولى لدرجة من الملاك ممّا لابدّ منه على كلّ تقدير، ولو تركنا الأهمّ وأخذنا بالمهمّ فقد خسّرنا المولى مقداراً أكثر من المقدار الذي لابدّ منه، وهذا المقدار الزائد واصلٌ إلى الدرجة الإلزاميّة بحسب الفرض، وليست درجة استحبابيّة، وملاكا الحكمين وإن كانا قد يفترضان من سنخين ومتباينين، لكنّنا على أيّ حال نحسب درجة اهتمام المولى بهما، فبلحاظ الاهتمام تكون القضيّة دائرة بين الأقلّ والأكثر، فتخسير المولى المقدار الأقلّ من اهتمامه لابدّ منه، وتخسيره الأكثر لا يجوز.

إلاّ أنّ هذا الوجه الثاني إنّما يتمّ لو عرفنا من الخارج أنّ هذا الأهمّ ملاكه فعليٌّ حتّى على تقدير الإتيان بالمهمّ. وبكلمة اُخرى: أنّ القدرة المأخوذة في الأهمّ بالقياس إلى المهمّ عقليّة، فتكون أهمّيّة الأهمّ عند امتثال المهمّ فعليّة، وعندئذ لا إشكال في أنّ العقل يحكم بوجوب تقديم الأهمّ.

أمّا إذا لم نعرف ذلك من الخارج، فلولا الرجوع إلى إطلاق الخطاب ـ الذي هو عبارة اُخرى عن الوجه الأوّل ـ لا يمكن إثبات لزوم تقديم الأهمّ؛ إذ نحتمل أنّ الإتيان بالمهمّ يرفع ملاك الأهمّ، ومع هذا الاحتمال تجري البراءة عن لزوم تقديم الأهمّ، وسعة دائرة ملاكه لصورة الإتيان بالمهمّ، وليست الأهمّيّة المحرزة في هذا الفرض إلاّ أهمّيّة تعليقيّة، أي: أنّه لو ثبت ملاك هذا فهو أهمّ، أمّا أنّه هل هو ثابت عند امتثال الآخر أو لا؟ فغير معلوم.

هذا. وقد يقال: إنّه في فرض عدم المعرفة من الخارج بكون ملاك الأهمّ فعليّاً عند الإتيان بالمهمّ، لا يتمّ الوجه الأوّل للتقديم أيضاً؛ وذلك لأنّ القيد اللبّيّ لكلّ وجوب في الحقيقة هو عدم الانشغال بواجب مزاحم له صفتان: الاُولى أنّه أهمّ أو مساو. والثانية فعليّة ملاكه حتّى مع الانشغال بذاك الواجب؛ إذ لولا ذلك لاحتملنا

172

ثبوت الأمر بذاك الواجب صَرفاً لنا عن هذا الواجب إليه، فنتمسّك بالإطلاق.

وعليه فنقول: إنّه في المقام لم يثبت تقدّم الأمر بالأهمّ على الأمر بالمهمّ بالورود عليه بالامتثال؛ إذ لعلّ ملاكه يرتفع بالإتيان بالمهمّ، ويكون الأمر بالمهمّ وارداً عليه. وبكلمة اُخرى: لعلّ القدرة الدخيلة في الأهمّ بالقياس إلى المهمّ شرعيّة لا عقليّة، ولهذا مضى منّا: أنّ إطلاق الخطاب لا يدلّ على كون القدرة عقليّة، فيتحصّل بذلك: أنّه لو لا قرينة خارجيّة على كون المهمّ غير رافع لملاك الأهمّ، فكما لا يمكننا إثبات تقديم الأهمّ على المهمّ بحكم العقل، كذلك لا يمكننا إثبات ذلك بالورود بالامتثال وإطلاق الخطاب.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ الوجه الأوّل تامّ بلا حاجة إلى قرينة خارجيّة تدلّ على عدم رافعيّة المهمّ لملاك الأهمّ، فنحن بإمكاننا أن نثبت ـ من نفس الخطابين ـ أنّ الأمر بالأهمّ واردٌ على الأمر بالمهمّ بالامتثال، وليس العكس. وتوضيح ذلك:

إنّ الأمر بالصلاة ـ التي هي المهمّ مثلا ـ غير وارد بالامتثال على الأمر بالإزالة المفروض الأهمّيّة حتماً؛ لأنّ وروده عليه بالامتثال بملاك الأهمّيّة أو المساواة غير محتمل؛ لفرض القطع بأهمّيّة الإزالة. ووروده عليه بكون الصلاة رافعة لملاك الإزالة منفيٌّ بإطلاق الأمر بالإزالة لحال الانشغال بالصلاة؛ لوضوح أنّه بعد الجزم بعدم كون ملاك الصلاة أهمّ أو مساوياً، لا معنى للتشكيك في إطلاق الأمر بالإزالة لحال الانشغال بالصلاة، لمجرّد احتمال عدم ثبوت ملاك لها في هذه الحال، بل الإطلاق يتمّ ويكون بنفسه هو الكاشف للملاك والكفيل بإثباته.

والأمر بالإزالة ـ التي هي الأهمّ بحسب الفرض ـ واردٌ بالامتثال على الأمر بالصلاة؛ وذلك لأنّ الأمر بالصلاة مقيّد ـ ككلّ أمر ـ بعدم الانشغال بمزاحم له صفتان: الاُولى: أنّه أهمّ أو مساو، والثانية: فعليّة ملاكه حتّى مع الانشغال بالصلاة، وكلتا الصفتين ثابتتان في الإزالة، أمّا الاُولى ـ وهي الأهمّيّة أو المساواة ـ فثبوتها

173

هو المفروض؛ للقطع بأهمّيّة الإزالة. وأمّا الثانية ـ وهي فعليّة ملاكه حتّى مع الانشغال بالصلاة ـ فلما عرفت الآن في تقريب عدم ورود الأمر بالصلاة على الأمر بالإزالة: من أنّ مقتضى إطلاق الأمر بالإزالة هو ثبوته وثبوت ملاكه عند الانشغال بالصلاة(1).

 

احتمال أهمّيّة أحد الحكمين:

وأمّا المرحلة الثانية: فحينما نحتمل أهمّيّة الإزالة ـ مثلا ـ عن الصلاة بمقدار


(1) حاصل الإشكال هو: أنّه كما يقتضي إطلاق الأمر بالإزالة ـ التي عرفنا أنّها أهمّ ـ لفرض الانشغال بالصلاة وعدمه، تقدّم الإزالة على الصلاة، كذلك يقتضي إطلاق الأمر بالصلاة ـ التي هي المهمّ بحسب الفرض ـ لفرض الانشغال بالإزالة وعدمه، تقدّم الصلاة على الإزالة؛ فإنّ تقدّم الصلاة على الإزالة لا يختصّ بفرض كون الصلاة أهمّ، حتّى يبطل هذا الإطلاق بفرض علمنا بأنّ الإزالة أهمّ أو مساو، بل يمكن تقدّم الصلاة على الإزالة رغم عدم كونها أهمّ من الإزالة، بنكتة كون الانشغال بالصلاة رافعاً لملاك الإزالة دون العكس، أي: أن تكون القدرة في الإزالة ـ التي هي أهمّ ـ شرعيّة بالقياس إلى الصلاة، فلإبطال الإطلاق الثاني احتجنا إلى أن نعرف من الخارج أنّ قدرة الأهمّ عقليّة، وإلاّ فأيّ مبرّر لتقديم إطلاق الأمر بالإزالة على إطلاق الأمر بالصلاة؟!

وحاصل الجواب هو: أنّ إطلاق الأهمّ ـ وهي الإزالة مثلا ـ يرفع موضوع إطلاق المهمّ؛ لأن المهمّ مقيّد على أيّ حال بعدم الانشغال بواجب موصوف بوصفين: أحدهما: أن يكون أهمّ أو مساوياً، والثاني: أن يكون ملاكه فعليّاً في فرض الانشغال بالمهمّ، والأوّل ثابت في الإزالة بالفرض، والثاني ثابت فيها بإطلاق دليلها لفرض الانشغال بالمهمّ، فيتقيّد إطلاق المهمّ لا محالة بفرض عدم الانشغال بالإزالة، في حين أنّ إطلاق المهمّ لا يرفع موضوع إطلاق الأهمّ، فإطلاق الأهمّ وارد على إطلاق المهمّ، دون العكس.

174

مُلزِم، ولا نحتمل أهمّيّة الصلاة، قُدّمت الإزالة على الصلاة. ويمكن تقريب الترجيح بذلك بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: ما ينساق من كلمات مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وهو: أنّ كلّ واحد من الأمرين يقتضي إطلاقه ثبوته حتّى عند الانشغال بالآخر، إلاّ أنّ الأمر بالصلاة قد قُيّد بصورة عدم الانشغال بالإزالة حتماً؛ إذ مع الانشغال بالإزالة هو مشغول بالأهمّ أو المساوي، ومعه لا أمر بالصلاة. وأمّا الأمر بالإزالة فهو أيضاً مقيّد بعدم الانشغال بالصلاة لو كانا متساويين، وغير مقيّد به لو كانت الصلاة أقلّ أهمّيّة، وحيث إنّنا لا نعرف ذلك، إذن لا نعرف تقيّد هذا الإطلاق، فنتمسّك بأصالة الإطلاق في الأمر بالإزالة.

وهذا التقريب ما لم تُضمّ إليه نكتة زائدة يرد عليه: أنّ هذا تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص؛ لخروج صورة الانشغال بالمساوي حتماً، فنقول:

أوّلا: إنّه لئن جاز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في مثل المقام ـ لكون المخصّص لبّيّاً مثلا ـ رجع باب التزاحم(1) إلى باب التعارض، وهو خلف مفروض الكلام.

وثانياً: إنّ التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إن جاز، فإنّما يجوز في المخصّص المنفصل، بينما المخصّص في المقام لبّيّ كالمتّصل(2).

 


(1) فيختصّ الترتّب والترجيح بما إذا علمنا ـ من الخارج ـ بعدم إرادة الإطلاق من أحدهما بالخصوص صدفةً، فيكون ذاك الإطلاق ساقطاً عن الحجّيّة.

(2) قد يقال: إنّ هذا الإشكال إنّما يمنع عن التمسّك بالإطلاق في الأمر بالإزالة، لعنوان فرض الانشغال بالأهمّ أو المساوي؛ لأنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة

175

الوجه الثاني: التمسّك بأصالة الاشتغال بتقريب: أنّه لو اشتغل بالإزالة حصل له القطع بسقوط الأمر بالصلاة عنه؛ لأنّ الإزالة إمّا أهمّ، فيجب تقديمها، أو مساو، فهو مخيّر تخييراً عقليّاً بينهما، بينما لو اشتغل بالصلاة لم يحصل له القطع بسقوط الأمر بالإزالة فتجري أصالة الاشتغال.

ويرد عليه: أنّ الشكّ في سقوط الأمر إنّما يكون مجرى لقاعدة الاشتغال إذا كان شكّاً في الفراغ بعد العلم بدخول الأمر في العهدة، أمّا في المقام فالشكّ ناشئ من احتمال تقيّد الأمر بالإزالة بقيد غير منطبق على من انشغل بالصلاة، فهذا شكّ في سعة الأمر وضيقه، وهو موردٌ للبراءة لا الاشتغال.

 


للمتّصل؛ إذ ما يُدرينا لعلّ الصلاة مساوية للإزالة. ولكن يبقى مجال واسع للتمسك بالإطلاق في الأمر بالإزالة لعنوان فرض الانشغال بالصلاة، وكان المانع عن التمسّك بهذا الإطلاق هو العلم الإجماليّ كالمتّصل بأنّ أحد الواجبين المتزاحمين أهمّ أو مساو، فسقط إطلاق كلا الدليلين، ولم يرجع باب التزاحم إلى باب التعارض، وهذا المانع في المقام مرتفع؛ لأنّ هذا العلم الإجماليّ انحلّ بالعلم التفصيليّ بأنّ الإزالة أهمّ من الصلاة أو مساو لها بحسب الفرض، فسقط إطلاق الأمر بالصلاة لفرض الانشغال بالإزالة، وبقي إطلاق الأمر بالإزالة لفرض الانشغال بالصلاة سالماً، وبذلك تمّ الترجيح باحتمال الأهمّيّة في المقام، وتثبت بهذا الإطلاق أهمّيّة الإزالة عن الصلاة.

ولكنّ الواقع أنّ وجود العلم الإجماليّ ـ كالمتّصل عادةً في كلّ متزاحمين ـ بأنّ أحدهما أهمّ أو مساو للآخر، رغم عدم إشارة المولى إلى ذلك يكون قرينة كالمتّصل على أنّ المولى ـ في مقام بيان واجباته ـ ليس بصدد بيان القيد الناتج من وجود المزاحم، وهو قيد عدم الانشغال بالفعل الفلانيّ. وانحلال هذا العلم الإجماليّ صدفةً في مورد مّا لا يثبت كون المولى في مقام البيان في ذاك المورد، ولا يوجب تماميّة الإطلاق.

176

الوجه الثالث: التمسّك أيضاً بأصالة الاشتغال بتقريب: أنّ مورد البراءة إنّما هو فرض الشكّ في الحكم بمبادئه. أمّا مع العلم بالملاك المُلزِم، واحتمال أنّ المولى رخّص في الخلاف لأجل الاضطرار من باب التزاحم مع ملاك الآخر، فتجري أصالة الاشتغال لا البراءة.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ كلا الملاكين مُحرَزان، وأحدهما ـ وهو ملاك الصلاة ـ نعلم بترخيص المولى في تركه على تقدير الانشغال بالإزالة، لأجل المزاحمة، ولكنّ الآخر ـ وهو ملاك الإزالة ـ لا نعلم بترخيص المولى في تركه على تقدير الانشغال بالصلاة، فلابدّ من الاحتياط.

ويرد عليه: أنّ هذا الكلام وإن كان صحيحاً كبرويّاً، ولكن في المقام لا كاشف عن ثبوت الملاك في الإزالة ـ على تقدير الانشغال بالصلاة ـ إلاّ إطلاق الأمر المفروض عدم ثبوته؛ لكون التمسّك به تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، وبهذا أبطلنا الوجه الأوّل.

والتحقيق هو: تماميّة الوجه الأوّل بعد إضافة نكتة إليه، وتوضيح ذلك: أنّ المخصّص اللبّيّ لو كان قد أخرج صورة الانشغال بضدٍّ لا يقلّ أهمّيّة عنه واقعاً، لتمّ ما قلناه: من أنّ التمسّك في المقام بإطلاق دليل الإزالة لصورة الانشغال بالصلاة، تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

ولكنّ الواقع أنّ هذا المخصّص لابدّ من إجراء تعديل عليه، وهذا التعديل الآن نبيّنه بصياغة ـ وإن كنّا سوف نُجري عليها تعديلا آخر في المرحلة الثالثة ـ وهي: أنّ الخارج بالمخصّص اللبّيّ من كلّ أمر ليس هو فرض الانشغال بضدٍّ لا يقلّ أهمّيّة عنه واقعاً، بل فرض الانشغال بضدٍّ يُعلم أنّه لا يقلّ أهمّيّة عنه؛ لأنّ الدليل على هذا التخصيص اللبّيّ كان عبارة عن أنّه مع الانشغال بذلك لو أمر المولى بالمزاحم، لكي يأتي المكلّف به منضمّاً إلى ما لا يقلّ أهمّيّة عنه، فهو غير قادر

177

على ذلك. ولو أمر به لكي يصرف العبد من ذاك إليه، فلا مبرّر لذلك، وهذا لا يقتضي التقييد بأزيد ممّا ذكرناه.

وتوضيح ذلك: أنّ المولى لو كان يمارس هذا التقييد بنحو القضيّة الخارجيّة، لقيّد الحكم بفرض عدم الانشغال بواقع ما لا يقلّ أهمّيّة عنه، فيقول: يا عبادي لا تجب عليكم الصلاة مثلا حينما تمنعكم عنها الإزالة، أو الفعل الفلاني، أو الفعل الفلاني. وعليه يكون المولى ناظراً في تقييده إلى كلّ ما لا يقلّ أهمّيّة عن المأمور به واقعاً؛ إذ هو بإمكانه أن يشخّص ذلك.

ولكن حيث إنّ المولى يمارس تقييداته بنحو القضيّة الحقيقيّة، فهو يتعامل في تقييداته مع العناوين لا مع الأفراد.

وحينئذ فالقدر المتيقّن هو: أنّ المولى قد قيّد أمره بعنوان فرض عدم الانشغال بضدٍّ يُعلم بأنّه لا يقلّ أهمّيّة عنه، أمّا فرض الانشغال بضدٍّ يُحتمل عقلائيّاً كونه أقلّ أهمّيّة عنه، أي: لا ندري أنّه هل هو مساو للمأمور به، أو أقلّ أهمّيّة عنه، فمن المعقول شمول إطلاق الأمر له؛ إذ لا يأتي هنا برهان: أنّه هل أراد بهذا الأمر أن يضمّ العبد ذلك إلى ما يزاحمه، أو أراد به صرف العبد عمّا يزاحمه؟ إذ نقول في الجواب: لعلّه أراد صرف العبد عمّا يزاحمه، بداعي أنّ هذا الصرف يحتمل كونه نافعاً للمولى؛ إذ لو كان ما يزاحمه واقعاً أقلّ أهمّيّة من المأمور به، فهذا الصرف نافع له. نعم، لو كان مساوياً له لم يكن فيه نفع، ولكنّ المولى حينما يتعامل مع هذا العنوان كقضيّة حقيقيّة، لا يمكنه أن يشخّص أنّه هل هو في الواقع أقلّ أهمّيّة من المأمور به، أو لا، فمن المعقول أن يأخذ بجانب الاحتياط، فيصرف العبد عنه إلى المأمور به.

إذن، فالبرهان اللبّيّ على التقييد غير موجود. ومن الواضح أنّ علم العبد واحتماله لقلّة الأهمّيّة وعدمها، لا يخلو من أماريّة على الواقع، إذن فمن الطبيعيّ

178

افتراض شمول إطلاق الحكم لفرض الانشغال بما لا يدري العبد أنّه هل هو مساو للمأمور به، أو أقلّ أهمّيّة عنه.

وعليه فنقول في المقام: إنّه لو انشغل بالإزالة فإطلاق الأمر بالصلاة ساقط يقيناً؛ لأنّ الإزالة ممّا يعلم بأنّه لا يقلّ أهمّيّة عن الصلاة، ولكن لو انشغل بالصلاة فالمقيّد اللبّيّ ـ الذي قام عليه البرهان ـ لا يقتضي سقوط إطلاق الأمر بالإزالة؛ لأنّه لم يعلم كون الصلاة ممّا لا يقلّ أهمّيّة عن الإزالة، فنتمسّك بإطلاق الأمر بالإزالة، لا من باب التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص، بل من باب أنّ هذا الفرض غير داخل في المخصّص اللبّيّ رأساً؛ لما عرفت من ضيق دائرته واختصاصه بفرض العلم(1) بأنّه لا يقلّ أهمّيّة عن المأمور به.

 

احتمال أهمّيّة كلّ واحد من الحكمين مع كون الاحتمال في أحدهما أكبر:

وأمّا المرحلة الثالثة: فحينما نحتمل الأهمّيّة في كلّ من الصلاة والإزالة ـ مثلاً ـ المتزاحمين، مع كون احتمال الأهمّيّة في الإزالة أكبر، كان هذا ترجيحاً للإزالة على الصلاة.

وللبرهنة على ذلك نتسلسل في نفس التسلسل التفكيريّ الذي نهجناه في المرحلة الاُولى والثانية. ولنبدأ ممّا انتهينا إليه في المرحلة الثانية، فنقول: قد وصلنا في المرحلة الثانية إلى هذه الصياغة لتقييد الواجبات بالمقيّد اللبّيّ، وهي: أنّ كلّ واجب يكون وجوبه مقيّداً بعدم الانشغال بمزاحم يُعلم أنّه لا يقلّ أهمّيّة عنه، ولا يُحتمل كونه أقلّ أهمّيّة عنه.


(1) الظاهر: أنّ المقصود خصوص العلم المطابق للواقع؛ لأنّه القدر المتيقّن من التقييد.

179

وهنا نقوم بتحليل لاحتمال كون المزاحم أقلّ أهمّيّة من ذلك الواجب، فنقول: إنّ احتمال كونه أقلّ أهمّيّة، تارة: يكون من دون احتمال مقابل في الطرف الآخر بكونه أقلّ أهمّيّة عنه. واُخرى: يكون مع احتمال ذلك في الطرف الآخر أيضاً، إلاّ أنّ أقلّيّة الطرف الآخر في الأهمّيّة أضعف. وثالثة: يكون مع احتمال ذلك في الطرف الآخر بنحو مساو لاحتماله في هذا الطرف، أي: نحتمل في كلّ واحد من الطرفين الأهمّيّة بقدر احتمالنا في الآخر.

أمّا الفرض الأوّل: وهو ما لو كان احتمال الأقلّيّة في الأهمّيّة مخصوصاً بأحد الطرفين، فهو الذي كان مورد كلامنا في المرحلة الثانية، ونقول فيه: إنّ ما لا يُحتمل كونه أقلّ أهمّيّة، يكون امتثاله مانعاً عن فعليّة ما يحتمل كونه أقلّ؛ لأنّه لا مبرّر لإطلاق دليل الواجب لفرض الانشغال بما يعلم بأهمّيّته أو مساواته. وأمّا ما يُحتمل كونه أقلّ أهمّيّة، فمن العقلائيّ فرض بقاء الإطلاق في الآخر لصورة الانشغال به، صَرفاً للعبد ممّا يحتمل أقلّيّته في الأهمّيّة إلى ما لا يحتمل فيه ذلك، فنتمسّك بإطلاق الأمر فيه.

وأمّا الفرض الثاني: وهو ما لو كان احتمال الأقلّيّة في الأهمّيّة موجوداً في كلا الطرفين، إلاّ أنّه في أحد الطرفين أقوى، وفي الآخر أضعف، فما كان احتمال أقلّيّته في الأهمّيّة أضعف منه في الآخر، كان من العقلائيّ فرض كون الأمر به مطلقاً يشمل صورة الانشغال بالآخر، صرفاً للعبد عمّا يقوى احتمال أقلّيّة الأهمّيّة فيه إلى ما يضعف احتمال ذلك فيه. ولم يكن من العقلائيّ فرض كون الأمر بما كان احتمال أقلّيّته في الأهمّيّة أقوى منه في الآخر مطلقاً يشمل صورة الانشغال بالآخر؛ إذ لا مبرّر لصرف العبد عمّا يضعف احتمال قلّة أهمّيّته إلى ما يقوى احتمال قلّة أهمّيّته. وبهذا يثبت أنّ أقوائيّة احتمال الأهمّيّة من المرجّحات.

وأمّا الفرض الثالث: وهو ما لو كان احتمال الأقلّيّة في الأهمّيّة في كلا الطرفين