180

متساويين(1)؛ فلا مبرّر فيه لإطلاق كلّ واحد من الأمرين لصورة الانشغال بالآخر؛ إذ صرفه عنه إلى عِدله بلا موجب، ما دام المصروف عنه مساوياً للمصروف إليه في احتمال الأهمّيّة.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ المقيّد اللبّيّ بالدقّة يُخرج من إطلاق الأمر صورة ما إذا انشغل بضدٍّ له إحدى صفتين: الاُولى: أن يعلم بأنّه لا يقلّ أهمّيّة من المأمور به. والثانية: أن يحتمل كونه يقلّ أهمّيّة عنه، ولكن يوجد في مقابله احتمال مماثل أو أقوى لكون ذاك المأمور به هو الأقلّ أهمّيّة.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ الأهمّيّة مرجّحة بكلّ مراحلها الثلاث.

 

بقي التنبيه على أمرين:

الأمر الأوّل: إنّ الأهمّ من المتزاحمين تارة: يُفرض قيام قرينة على أنّ ملاكه مشروط بعدم الانشغال بضدٍّ واجب آخر. واُخرى: يُفرض عدم قرينة على ذلك.

فإن فُرض الثاني كان الأهمّ مقدّماً على غير الأهمّ؛ وذلك لأنّ الأمر بالأهمّ يشمل بإطلاقه فرض الانشغال بالمهمّ؛ لعدم دخول الانشغال بالمهمّ في المقيّد اللبّيّ، المُخرِج لفرض الانشغال بالأهمّ أو المساوي، وبهذا الإطلاق يثبت أنّ القدرة في الأهمّ بالقياس إلى المهمّ عقليّة. أي: أنّ ملاكه ثابت حتّى مع الانشغال بضدّه الواجب. والانشغال بالأهمّ يرفع الأمر بالمهمّ؛ لأنّ المقيّد اللبّيّ قد أخرج صورة الانشغال بمزاحم لا يقلّ أهمّيّة عن المأمور به، ثابت ملاكه حتّى عند الانشغال بالمأمور به، وقد ثبت أنّ المزاحم هنا من هذا القبيل.

وإن فُرض الأوّل، أي: أنّ قدرة الأهمّ ـ بالقياس إلى واجب آخر مزاحم له ـ


(1) إلاّ إذا كان المحتمل في أحدهما أقوى، فهو ملحق بما إذا كان الاحتمال أقوى.

181

شرعيّة، فإن قُصد بالقدرة التي هي دخيلة في الملاك: ما لا يزيد على القدرة المأخوذة في المقيّد اللبّيّ ـ أعني: عدم الانشغال بالأهمّ أو المساوي ـ فهنا أيضاً يتقدّم الأهمّ؛ لأنّ الانشغال بمزاحمه المهمّ غير مبطل للقدرة التي فرضت دخيلة في الملاك، فإطلاق الأهمّ يشمل فرض الانشغال بالمهمّ، ويثبت كون قدرته ـ بالقياس إلى المهمّ ـ عقليّة، وبالتالي يكون الانشغال بالأهمّ رافعاً لموضوع الأمر بالمهمّ؛ لتقيّده لبّاً بعدم الانشغال بواجب لا يقلّ أهمّيّة عنه فعليّ ملاكه.

وإن قُصد بالقدرة الدخيلة في الملاك: عدم الانشغال بواجب مزاحم ولو كان أقلّ أهمّيّة، فتارة: يُفرض اختصاص الدليل على كون القدرة شرعيّة بالواجب الأهمّ، وعدم وجوده في جانب الواجب المهمّ، وعندئذ يتقدّم المهمّ على الأهمّ، ولا يبقى أثر للأهمّيّة؛ لأنّ الأمر بالأهمّ لا يشمل بإطلاقه فرض الانشغال بالمهمّ؛ لأنّ الانشغال بالمهمّ يرفع ملاكه. ولكنّ الأمر بالمهمّ يشمل بإطلاقه فرض الانشغال بالأهمّ؛ لأنّ المقيّد اللبّيّ إنّما أخرج فرض الانشغال بأهمٍّ أو مساو يكون ملاكه فعليّاً حتّى مع الانشغال بالمأمور به، وقد فُرض أنّ ملاك الأهمّ ليس فعليّاً لدى الانشغال بالمهمّ.

واُخرى: يُفرض وجود دليل على أنّ القدرة ـ بمعنى عدم الانشغال بواجب مزاحم مطلقاً ـ دخيلة في الملاك في كلا الواجبين الأهمّ والمهمّ، وهذا يدخل في مورد بحث المحقّق النائينيّ(رحمه الله) حيث ذكر(قدس سره): أنّه لا أثر للأهمّيّة في المشروطين بالقدرة الشرعيّة. وهو يقصد بالقدرة الشرعيّة ما افترضناه هنا: من دخل عدم الانشغال بواجب آخر مطلقاً.

وقد ذكر في مقام البرهنة على ذلك ـ أعني: عدم تأثير الأهمّيّة في المقام ـ: أنّه فرقٌ بينما لو أحرزنا وجود ملاكين، واحتملنا أهمّيّة أحدهما، وبينما لو احتملنا وجود ملاك يكون على تقدير وجوده أهمّ، في مقابل احتمال ملاك آخر على تقدير وجوده ليس بأهمّ.

182

ففي الأوّل يكون احتمال الأهمّيّة مرجّحاً، كما هو الحال في واجبين متزاحمين مشروطين بالقدرة العقليّة مع احتمال أهمّيّة أحدهما. وأمّا في الثاني فمجرّد احتمال الملاك الأهمّ لا يعيّن شيئاً على المكلّف، ومثاله: ما لو تعارض خبران دلّ أحدهما على وجوب شيء، والآخر على حرمته، وكنّا نعلم أنّه على تقدير صدق الخبر الأوّل ليس الوجوب من الوجوبات الأعلائيّة، وعلى تقدر صدق الخبر الثاني تكون الحرمة من أقوى الحرمات، أي: أنّ ملاك الحرمة ـ على تقديرها ـ أهمّ من ملاك الوجوب على تقديره، وهذا النحو من احتمال الأهمّ ليس من المرجّحات.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّه ليس الملاك محرَزاً في مجموع العملين مع اضطرار المكلّف إلى الاقتصار على أحدهما ـ لأجل عدم القدرة على الجمع ـ حتّى يقدّم ما يحتمل أهمّيّته لو كان أحدهما محتمل الأهمّيّة، بل لم يُحرز إلاّ ملاكٌ واحد مردّد بين الملاك الأهمّ والملاك المهمّ؛ لأنّ المفروض دخل القدرة في الملاك، فحال المقام حال الخبرين المتعارضين، ولا مبرّر لترجيح احتمال الملاك الأهمّ.

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّ ملاك الأهمّ محرَز، فيرجّح لا محالة على المهمّ؛ وذلك لأنّ الأهمّ وإن كان مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، لكنّ القدرة موجودة؛ إذ لا مانع تكويناً ولا تشريعاً عن الإتيان بالأهمّ: أمّا المانع التكوينيّ فواضح؛ إذ بإمكانه أن يختار الأهمّ. وأمّا المانع التشريعيّ، فلأنّ المهمّ لا يصلح مانعاً عنه؛ إذ ليس له إطلاق لفرض الانشغال بالأهمّ حتّى يمنع عنه، وهو إنّما يمنع تشريعاً عنه لو كان له مثل هذا الإطلاق.

أقول: إن فُرض أنّ القدرة المأخوذة ـ بنحو القدرة الشرعيّة ـ في الأهمّ كانت بمعنى القدرة المأخوذة في القيد اللبّيّ، فهذا داخلٌ في فرضنا السابق الذي أثبتنا فيه تقدّم الأهمّ ببياننا الذي مضى. وهنا نفترض أنّنا نتكلّم في المشروطين بالقدرة

183

الشرعيّة بالمعنى الذي يقصده المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وهو دخل عدم الانشغال بواجب آخر في الملاك، فنقول: إنّه على مستوى البحث الدائر بين السيّد الاُستاذ واُستاذه لا يصحّ كلام السيّد الاُستاذ دامت بركاته.

وتوضيحه: أنّنا نسأل ماذا يقصد بقوله: إنّ المانع الشرعيّ غير موجود؟ هل يقصد بذلك الجزم بعدم المانع الشرعيّ عن الأهمّ، أو يقصد بذلك عدم الجزم بثبوت المانع الشرعيّ؟

فإن قصد الأوّل ـ وهو الجزم بعدم المانع الشرعيّ ـ قلنا: إنّ الدليل على عدم منع المهمّ شرعاً عن الأهمّ يكون أحد أمرين:

الأوّل: البرهان الثبوتيّ، وهو: أنّه لا يُعقل فرض كون الأمر بالمهمّ مطلقاً لصورة الانشغال بالأهمّ؛ إذ لا يخلو الحال: إمّا أنّ الأهمّيّة لها أثر في المقام، أو لا:

فإن فُرض أنّ الأهمّيّة لها أثر، فالأهمّ هو المقدّم، ومع الانشغال بالأهمّ لا معنى لثبوت الأمر بالمهمّ بالإطلاق.

وإن فُرض أنّ الأهمّيّة لا أثر لها في المقام، فغاية الأمر افتراض حال هذين الواجبين كحال المتساويين، وفي المتساويين لا يكون أحد الحكمين مطلقاً يشمل فرض الانشغال بالآخر، فعلى أيّ حال لا يُعقل إطلاقٌ في الأمر بالمهمّ لفرض الانشغال بالأهمّ حتّى يصلح مانعاً عن الأهمّ.

ويرد عليه: أنّ المولى لو استفتى الملاكين في مقام جعل الحكم، فهما حياديّان تجاه فروض ثلاثة:

1 ـ عدم جعل الإطلاق في كلّ واحد من الحكمين لصورة الانشغال بالآخر.

2 ـ جعل الإطلاق للأمر بالأهمّ فقط.

3 ـ جعل الإطلاق للأمر بالمهمّ فقط.

فإنّه على كلّ واحد من هذه التقادير الثلاثة لا يلزم فوت ملاك: فعلى الأوّل

184

العبد يشتغل بأحدهما ويحرز ملاكه، وينتفي ملاك الآخر موضوعاً. وعلى الثاني يشتغل العبد بالأهمّ ويحرز ملاكه، وينتفي ملاك المهمّ موضوعاً. وعلى الثالث يشتغل العبد بالمهمّ ويحرز ملاكه، وينتفي ملاك الأهمّ موضوعاً. إذن، فتعيين أحد الفروض الثلاثة يجب أن يكون من زاوية اُخرى خارج حدود الملاكين، وحيث إنّنا لا نملك فكرة عن ذلك، فكما نحتمل الأوّل والثاني، كذلك نحتمل الثالث، فلا برهان ثبوتيّ على عدم الإطلاق في الأمر بالمهمّ لحال الانشغال بالأهمّ حتّى يقال: إنّه لا يعقل منعه عن الأهمّ.

الثاني: البرهان الإثباتيّ، وذلك بأن يقال: إنّه وإن كان فرض إطلاق الأمر بالمهمّ لصورة الانشغال بالأهمّ ممكناً ثبوتاً، لكن بحسب الإثبات نرى أنّ القرينة الدالّة على دخل القدرة الشرعيّة في الحكم ـ أعني: عدم الانشغال بواجب آخر ـ تُخلّ لا محالة بالإطلاق، كما هو واضح. إذن، فقد أحرزنا عدم الإطلاق وعدم المانع الشرعيّ عن الأهمّ.

إلاّ أنّه يقال في مقابل هذا الكلام: إنّ القرينة كما قامت على دخل القدرة الشرعيّة في الواجب المهمّ، كذلك قامت على دخلها في الواجب الأهمّ، فكلّ واحد منهما رافع بامتثاله لموضوع الآخر.

وإن قصد الثاني ـ أي: أنّه لا جزم لنا بالمانع الشرعيّ عن الأهمّ ـ فيدخل ذلك في الشكّ في القدرة، وهو مجرى للاحتياط، فلابدّ من تقديم الأهمّ احتياطاً.

ويرد عليه:

أوّلا: أنّ المفروض دخل القدرة في الملاك، ومعه يكون الشكّ في القدرة مجرى للبراءة لا للاحتياط؛ لأنّه يصبح شكّاً في سعة دائرة الحكم بمبادئه.

وثانياً: أنّنا جازمون بالمانع الشرعيّ من كلا الطرفين؛ لأنّنا قد عرفنا بما مضى من البرهان الإثباتيّ أنّ كلّ واحد من الواجبين لا إطلاق له لفرض الانشغال

185

بالآخر؛ لأنّه قد قامت قرينة على تقيّد كلّ واحد منهما بعدم الانشغال بواجب آخر، فالانشغال بأيّ واحد منهما يرفع موضوع الآخر.

وبهذا يتّضح أنّه في المشروطين بالقدرة الشرعيّة ـ بمعنى عدم الانشغال بواجب آخر ـ لا مجال لكلام السيّد الاُستاذ من الترجيح بالأهمّيّة، لكن لا لكلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من كون ما نحن فيه من قبيل المتعارضين، وأنّه يدخل في احتمال الملاك الأهمّ، ولا أثر له، بل لأنّ كلّ واحد منهما مشروط بعدم الانشغال بالآخر، فهو غير مرتبط بفرض احتمال الملاك، فإنّنا نقطع بكلا الملاكين المشروطين، ولسنا شاكّين في ملاك، وبما أنّ كلّ واحد من الملاكين والحكمين مشروط بعدم الانشغال بالفعل الآخر، فلا محالة يكون كلّ واحد منهما وارداً على الآخر بالامتثال، فيتمّ التوارد من كلا الطرفين ولا يبقى مجال لتأثير الأهمّيّة.

الأمر الثاني: في أنّه كيف نعرف أهمّيّة أحد الواجبين من الآخر، لكي نطبّق عليه هذا المرجّح؟

قد تجلّى ممّا مضى أنّ هذا المرجّح في الحقيقة مؤتلف من جزءين: أحدهما: أن يكون ملاك أحد الواجبين على تقدير فعليّته أهمّ. والثاني: أن يكون ملاكه فعليّاً، أي: أن لا يكون الواجب مشروطاً بالقدرة الشرعيّة بمعنى عدم كون الانشغال بمطلق الواجب مانعاً عن فعليّته. وهذا الجزء الثاني يكفي لإحرازه إطلاق دليل الوجوب؛ حيث إنّ التقييد بعدم الانشغال بواجب آخر على الإطلاق يكون تقييداً بأوسع ممّا يقتضيه القيد اللبّيّ العامّ.

يبقى الكلام في الجزء الأوّل، وهو أهمّيّة الملاك على تقدير فعليّته، فنقول: إنّ هناك عدّة طرق لإثبات الأهمّيّة:

الأوّل: الإطلاق، بدعوى: أنّ إطلاق دليل حكم لصورة الانشغال بالآخر دليلٌ على أهمّيّته منه؛ إذ لا يمكن أن يتمّ إطلاق الحكم لتلك الصورة إلاّ على فرض

186

الأهمّيّة. إذن، فلو كان دليل أحد الحكمين فيه إطلاق ـ لكونه لفظيّاً ـ ودليل الآخرلم يكن فيه إطلاق ـ لكونه لبّيّاً مثلا ـ ثبتت أهمّيّة ذاك الحكم الأوّل.

إلاّ أنّ هذا الطريق باطلٌ نقضاً؛ إذ مقتضاه وقوع التعارض بين الإطلاقين حينما يكون كلّ من الدليلين مطلقاً، وهذا خلف ما افترضناه من عدم رجوع باب التزاحم إلى باب التعارض.

وحَلاًّ، ويمكن توضيح بطلانه حَلاًّ: إمّا ببيان ما مضى من أنّ التمسّك بإطلاق أحد الحكمين لصورة الانشغال بالآخر، تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة؛ لتقيّده لبّاً بعدم الانشغال بالأهمّ أو المساوي. أو ببيان أنّ الإطلاق فرع كون المولى في مقام البيان، بينما المتعارف في الموالي العرفيّة أنّه حينما يُطلق المولى حكماً، إنّما يقصد إثبات ذلك الحكم في ذاته، بغضّ النظر عن موازنته مع أحكام اُخرى بلحاظ عالم المزاحمة.

الثاني: أن يرد التصريح بأهمّيّة أحد الحكمين، كما ورد في دوران الأمر بين الصلاة في أوّل الوقت منفرداً والصلاة في آخر الوقت جماعةً: أنّ الثاني أفضل، طبعاً هذا المثال في المستحبّين، فإذا ورد شيء من هذا القبيل في أحد واجبين، ثبتت أهمّيّته من الواجب الآخر. وهذا الطريق واضح الصحّة لا إشكال فيه.

الثالث: أن يرد في أحد الواجبين التشديد في العقاب(1) على المخالفة، والتأكيد على الامتثال، بينما لم يرد مثل ذلك في مزاحمه، فبهذا يُعلم أو يُحتمل(2)ـ على الأقلّ ـ أهمّيّة الواجب الأوّل. ومثاله الحجّ مع النذر، حيث ورد في الروايات وفي الآية ـ على ما فُسّرت به فيها ـ كون تاركه كافراً، وأنّ تاركه يخيّر عند الموت بين أن يموت يهوديّاً أو نصرانيّاً أو مجوسيّاً، بينما لم يرد شيء من هذا القبيل في باب النذر. وهذا الطريق أيضاً صحيح.


(1) أو أيّ تأكيد من هذا القبيل، كبيان أنّه ممّا بُني عليه الإسلام.

(2) أو يوجب أقوائيّة الاحتمال.

187

الرابع: أن يرد خطاب ثانويّ في أحد الحكمين بلحاظ الطوارئ والأحوال، كما يقال في الصلاة مثلا: إنّ الصلاة لا تُترك بحال ـ طبعاً هذه العبارة بذاتها غير واردة، لكنّه قد ورد ما يقاربها في المعنى ـ فيُفهم من مثل هذا الخطاب أنّ الصلاة أهمّ من مزاحماتها. نعم، إنّما يُفهم من ذلك أهمّيّة جامع الصلاة، لا أهمّيّة مرتبة معيّنة منها، فجامع الصلاة ـ الشامل للصلاة الاختياريّة والصلوات الاضطراريّة بمراتبها المختلفة: من صلاة جلوسيّة واضطجاعيّة وإيمائيّة وصلوات الخوف والمطاردة على اختلاف مراتبها، حتّى تصل إلى التكبير بدلا عن كلّ ركعة، ونحو ذلك من الصلوات الاضطراريّة ـ هي التي ثبت أنّها لا تُترك بحال، وتكون أهمّ ممّا يزاحمها. وهذا الطريق أيضاً صحيح.

الخامس: أن يكون الحكمان من الأحكام الارتكازيّة العقلائيّة المفهوم نكتتها عرفاً، فتصبح لدليل الحكم دلالة التزاميّة عرفيّة على أنّه بنفس تلك النكتة. وحينئذ فبالإمكان معرفة الأهمّ حينما نعرف أهمّيّة أحد الحكمين في نكتته، حيث إنّنا مطّلعون على نكتة الحكمين. مثاله: دليل حرمة دم الإنسان ودليل حرمة ماله، فإنّهما بنكتة عرفيّة، وهي: عبارة عن التحفّظ على شؤون هذا الشخص، وعليه من الواضح أنّه إذا غرق مثلا هذا الشخص، وتوقّف إنجاؤه على سحْق زرعه، فدار الأمر بين إنجائه من الغرق والتجنّب من هلاك زرعه، كان الأوّل أهمّ. وهذا الطريق لمعرفة الأهمّ أيضاً صحيح.

 

4 ـ التقديم بالأسبقيّة زماناً:

المرجّح الرابع: هو الأسبقيّة زماناً، وتحقيق الكلام في ذلك: أنّه إذا كان الواجبان مشروطين بالقدرة العقليّة، بأن لم تكن القدرة دخيلة في الملاك، فلا موجب للترجيح بالأسبقيّة زماناً، فلو كانا متساويين في الأهمّيّة تمّ التوارد من كلا

188

الطرفين؛ إذ المقيّد اللبّيّ نسبته إليهما على حدٍّ سواء، وهو عدم الانشغال بضدٍّ مساو أو أهمّ. ولو كان أحدهما أهمّ فلا محالة هو الذي ـ بامتثاله ـ يرفع موضوع الآخر؛ لتقيّده عقلا بعدم الانشغال بضدّ مساو أو أهمّ، دون العكس.

وإذا كانا مشروطين بالقدرة الشرعيّة صحّ الترجيح بالأسبقيّة زماناً في صورتين:

الصورة الاُولى: أن يُفرض أنّ القدرة الدخيلة في ملاك الواجب كانت عبارة عن القدرة التكوينيّة على الواجب في ظرفه، لا القدرة التكوينيّة عليه مطلقاً ولو بلحاظ زمان سابق. وحينئذ فلو أتى بالواجب الأوّل لم يخسّر المولى شيئاً من الملاكين؛ فإنّ ملاك الواجب الأوّل قد حصل، وملاك الواجب الثاني قد ارتفع موضوعاً؛ لأنّه في زمانه أصبح عاجزاً تكويناً. بينما لو عكس الأمر فقد خسّر المولى ملاك الواجب الأوّل؛ لأنّه كان قادراً حينه(1).

الصورة الثانية: أن يُفرض أنّه من الدخيل في الملاك أيضاً القدرة بمعنى عدم


(1) لا يخفى: أنّ هذا الفرض يكون خارجاً عمّا نحن فيه؛ لأنّه في هذا الفرض يجوز تفويت القدرة للزمان الثاني حتّى بالانشغال بضدٍّ غير واجب في الزمان الأوّل، فوجوب الواجب الأوّل لا أثر له في المقام.

فالأولى تبديل هذا الفرض بفرض آخر، وهو: فرض أنّ القدرة الدخيلة في ملاك الواجب عبارة عن الجامع بين القدرة التكوينيّة على الواجب في ظرفه، والقدرة بلحاظ زمان سابق التي فُوّتت بغير معذّر شرعيّ، وعندئذ ففي الزمان الأوّل يصبح الواجب فعليّاً عليه؛ لأنّ الفرد الأوّل من هذا الجامع ـ وهي القدرة التكوينيّة ـ موجودة، فيكون الملاك تامّاً، فإذا صرف القدرة في الواجب الأوّل انتفى ملاك الواجب الثاني؛ لأنّه عنده لا يوجد شيء من فردي هذا الجامع، فلا هو قادرٌ قدرة تكوينيّة في وقت العمل على العمل، ولا كان قادراً بقدرة سابقة فُوّتت بغير معذّر، فإنّ صرفها كان بمعذّر.

189

الانشغال بواجب آخر مزاحم، لكن كان الدخيل عدم الانشغال بواجب مقارن أو سابق، دون المتأخّر، وهذا أمر معقول؛ فإنّ هذا ليس شأنه شأن القيد اللبّيّ الذي نسبته إلى الواجبَين على حدٍّ سواء، وإنّما هو تقييد شرعيّ أمره بيد الشارع، فقد يكون القيد هو عدم الانشغال بواجب مقارن أو سابق، دون اللاحق، فيصبح الواجب السابق بامتثاله رافعاً لموضوع الواجب اللاحق، دون العكس. هذا، والعكس أيضاً معقول، إلاّ أنّه غير عرفيّ.

هذا تمام الكلام في مرجّحات باب التزاحم.

 

الوظيفة عند فقدان المرجّح:

وأمّا بيان الوظيفة عند فقدان المرجّح لأحد المتزاحمين، فلا إشكال في أنّهما لا يتساقطان؛ لوجود الملاكين في الجملة، فلا معنى للتساقط، ويكون مخيّراً لا محالة؛ لفقد المرجّح.

وإنّما يقع الكلام في أنّ التخيير بينهما هل هو تخيير عقليّ أو شرعيّ؟ ويقصدون بالتخيير العقليّ: ثبوت خطابين كلّ منهما مشروطٌ بترك الآخر. وبالتخيير الشرعيّ: ثبوت خطاب واحد بالجامع بينهما.

وقد ذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّه إن كانت القدرة فيهما عقليّة فالتخيير عقليّ، وإن كانت شرعيّة فالتخيير شرعيّ.

أقول: تحقيق الكلام في المقام هو: أنّه إن كانت القدرة فيهما عقليّة فالتخيير بينهما عقليّ؛ إذ هذا هو مقتضى المقيّد اللبّيّ الذي يقيّد كلّ واحد من الخطابين بعدم الاشتغال بالأهمّ أو المساوي، فإنّ هذا معناه هو: كون كلّ واحد من الخطابين مشروطاً بترك الآخر، ولا مبرّر لسقوط هذين الخطابين المشروطين؛ إذ لا منافاة بينهما بعد إمكان الترتّب.

190

نعم، لو قلنا باستحالة الترتّب لوقع التعارض بين الخطابين، ودخل التزاحم في باب التعارض، وكان مقتضى القاعدة سقوطهما، وعدم ثبوت أيّ خطاب في المقام لو لم يثبت إجماعٌ أو شبهه على ثبوت خطاب في الجملة، وإلاّ جاء احتمال ثبوت الخطاب بهذا معيّناً أو بذاك معيّناً أو بأحدهما، فلتشخيص الوظيفة نرجع إلى الاُصول الحكميّة.

وإن كانت القدرة فيهما شرعيّة:

فتارة: نفترض أنّ المقصود بالقدرة الشرعيّة: دخْل عدم الانشغال بالواجب الآخر في الملاك، فالصحيح حينئذ أنّ التخيير أيضاً عقليّ، وإن ذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّ التخيّير شرعيّ، بتقريب: أنّ القدرة دخيلة في الملاك، وهو غير قادر على المجموع، فلا ملاك في المجموع، لكنّه قادرٌ على أحدهما، أي: الجامع بينهما، فيثبت الملاك في أحدهما، أي: الجامع بينهما، والخطاب يتبع الملاك، فيثبت خطابٌ واحد بالجامع بينهما، وهذا هو التخيير الشرعيّ.

أقول: مقتضى القاعدة كون التخيير عقليّاً؛ وذلك لأنّ معنى دخل القدرة في ملاك كلّ واحد منهما، ليس هو عدم ثبوت الملاك إلاّ في الجامع بينهما، وإنّما معناه كون كلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر، فهناك ملاكان مشروطان، لا ملاكٌ واحد في الجامع، والخطاب يتبع الملاك. إذن، يثبت في المقام خطابان مشروطان، وهو معنى التخيير العقليّ.

واُخرى: نفترض كون المقصود بالقدر الشرعيّة: اشتراط عدم المانع الشرعيّ عن الفعل، وحينئذ فإن قُصد بذلك عدم ما هو مانع شرعيّ عن الفعل ـ لولا الحكم بوجوب هذا الفعل ـ فمقتضى القاعدة عدم ثبوت شيء من الحكمين؛ لوجود المانع اللولائيّ، فإنّ كلّ واحد من الحكمين مانع عن الفعل الآخر لولا وجوبه بلا إشكال، فشرط أيّ واحد من الحكمين غير موجود، فيسقطان معاً لو لم يقم إجماع أو شبهه

191

على ثبوت الحكم في الجملة، وإلاّ ثبت الحكم في الجملة، ورجعنا أيضاً إلى الاُصول الحكميّة.

وإن قُصد بذلك: عدم ما هو مانع شرعيّ بالفعل، فجعل خطابين من هذا القبيل يستلزم الدور؛ إذ فعليّة كلّ واحد منهما موقوفة على عدم منع الآخر الموقوف على فعليّة الأوّل؛ إذ لولا فعليّة الأوّل لأصبح الثاني فعليّاً ومانعاً، وعليه فجعل حكمين من هذا القبيل مستحيل، فيقع التعارض بينهما.

هذا تمام الكلام في حكم التزاحم من حيث الترجيح والتخيير.

وينبغي التنبيه على اُمور:

 

استحالة الترتّب لنكتة خاصّة:

الأمر الأوّل: أنّه متى ما تقدّم أحد المتزاحمين على الآخر بأحد المرجّحات، فبشكل عامّ قد ثبت فيما سبق عدم استحالة الأمر بالآخر على نحو الترتّب ـ أي: الأمر به مشروطاً بترك الأوّل ـ إلاّ أنّه قد تتّفق استحالة هذا الترتّب لنكتة خاصّة.

والضابط الصحيح عندنا في إمكانه واستحالته لنكات خاصّة هو: أنّه يصحّ الترتّب في الواجبين المتزاحمين بشرطين:

الشرط الأوّل: أن لا يكون الواجب الآخر مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، بمعنى عدم توجّه واجب آخر مزاحم له إليه، فإن كان كذلك لم يتمّ الأمر به مترتّباً على ترك الواجب الأوّل؛ لأنّه على أيّ حال مأمور بالواجب الأوّل، فشرط الواجب الثاني غير حاصل. أمّا إذا كان مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، بمعنى عدم الاشتغال بواجب آخر، أو لم يكن مشروطاً إلاّ بالقدرة العقليّة ثبت الأمر به بنحو الترتّب، مع توفّر الشرط الثاني.

الشرط الثاني: أن لا يكون ترك امتثال الواجب الأوّل ملازماً لموافقة الثاني،

192

كما لو كان الواجبان من الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ـ لو قلنا بأنّهما من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ـ فإن كان كذلك لم يصحّ الأمر بالثاني على تقدير ترك الأوّل؛ إذ على هذا التقدير يكون الثاني ضروريّاً، فلا يعقل البعث نحوه. هذا هو الضابط الصحيح في المقام.

والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) ذكر لتحقيق الحال في المقام: أنّ التزاحم على خمسة أقسام، فيُنظر في كلّ قسم منها لكي يُرى أنّه هل يعقل الترتّب فيه أو لا؟

الأوّل: التزاحم الناشئ عن عجز المكلّف وضيق قدرته، كعجزه عن إنقاذ كلا الغريقين لضعف عضلاته مثلا.

الثاني: فرض التضادّ بين المتعلّقين، كما لو ورد: (إذا أمطرت السماء فقم). وورد: (إذا وقع الخسوف فاجلس)، فصادف أنّه أمطرت السماء وانخسف القمر في وقت واحد.

الثالث: توقّف الواجب على مقدّمة محرّمة، كتوقّف إنقاذ الغريق على اجتياز أرض مغصوبة، فيقع التزاحم بين الواجب وترك الحرام.

الرابع: التلازم صدفةً بين واجب وحرام، لا بمعنى التوقّف كما في الفرض السابق، بل بأن يكونا متلازمين عرَضيّين، كما لو وجب استقبال القبلة وحرم استدبار الجدي، فاتّفق التلازم بينهما بلحاظ بعض البلاد.

الخامس: مورد اجتماع الأمر والنهي مع عدم المندوحة، بناءً على جواز اجتماعهما عند تعدّد العنوان، وإلاّ وقع التعارض(1).


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 320 ـ 321 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 284 ـ 285 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

193

هذه هي الأقسام الخمسة للتزاحم التي ذكرها المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وقبل أن نشرع في تفصيل الكلام في الموارد التي يقول المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فيها بعدم إمكان الترتّب نذكر ملاحظتين حول ما ذكره من أقسام التزاحم:

الملاحظة الاُولى: ملاحظة عامّة ترجع إلى كلّ هذه الأقسام الخمسة، وهي: أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)قد قيّد كلّ واحد من هذه الأقسام الخمسة ـ تصريحاً أو تلويحاً ـ بأن يكون التزاحم اتّفاقيّاً، فمثلا يقيّد التزاحم الناشئ من عجز المكلّف عن الجمع بكون العجز اتّفاقيّاً، والناشئ من تضادّ المتعلّقين بكون التضادّ اتفاقيّاً، والناشئ من التلازم بين الواجب والحرام بكون التلازم اتّفاقيّاً... وهكذا، بنكتة: أنّه لو كان التزاحم دائميّاً رجع إلى التعارض.

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّه إذا كان التزاحم دائميّاً:

فإن كان الواجبان ضدّين لا ثالث لهما فمن الواضح وقوع التعارض بين ذات الحكمين؛ إذ لا يُعقل ثبوتهما، لا مطلقاً ولا مشروطاً: أمّا مطلقاً، فواضح؛ إذ يؤدّي إلى طلب الجمع بين الضدّين. وأمّا مشروطاً؛ فلأنّ الأمر بأحدهما مشروطاً بترك الآخر لا مجال له؛ إذ مع ترك الآخر يكون هذا ضروريّاً، فلا معنى للأمر به.

وأمّا إذا كانا ضدّين لهما ثالث، فلا ينبغي الإشكال في أنّه لا يوجد تعارض بين ذات الحكمين بغضّ النظر عن إطلاقهما؛ إذ من المعقول الأمر بكلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر؛ إذ ترك أحدهما ليس مساوقاً للإتيان بالآخر، فيُعقل الأمر به، فيقع الكلام في أنّه هل يقع تعارضٌ بين إطلاقهما أو لا؟

فقد يقال: إنّه لا يوجد بينهما تعارض حتّى بلحاظ الإطلاق؛ وذلك لأنّ كلّ واحد منهما مقيّد لا محالة بالمقيّد اللبّيّ، وهو عدم الانشغال بالمساوي أو الأهمّ، فلا يتحقّق في كلٍّ منهما إطلاق لصورة الانشغال بالآخر حتّى يلزم التعارض. وهذا المقيّد اللبّيّ هو الذي أثبتنا على أساسه عدم دخول باب التزاحم في باب التعارض.

194

إلاّ أنّ الصحيح وقوع التعارض بين الحكمين بلحاظ الإطلاق، فإذا قال مثلا: (قم عند طلوع الفجر)، وقال أيضاً: (اجلس عند طلوع الفجر)، كانا متعارضين بلحاظ الإطلاق؛ حيث إنّ إطلاق كلّ واحد منهما يشمل فرض الانشغال بالآخر، ولا يمنع عن هذا الإطلاق تقيّد كلّ واحد منهما بعدم الانشغال بالأهمّ أو المساوي.

وتوضيح ذلك: أنّ عدم جواز التمسّك بإطلاق الأمر لفرض الانشغال بواجب آخر، وإثبات كونه أهمّ منه كان له ـ على ما سبق ـ تقريبان:

أحدهما: عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، وأنّ المقام من هذا القبيل حينما نحتمل كون ما اشتغل به لا يقلّ أهمّيّة عن المأمور به، كما هو المفروض.

والثاني: أنّ المولى العرفيّ ـ عادة ـ ليس في أمره بشيء بصدد المقارنة بين الواجبات المتزاحمة، وبيان أهمّيّة بعضها عن بعض.

وهذا التقريب الثاني لا يأتي في المقام؛ فإنّه إنّما يتمّ ما قلناه ـ من أنّ المولى العرفيّ ليس بصدد المقارنة وإحراز الأهمّيّة ـ بلحاظ ما يزاحمه صدفةً. أمّا بلحاظ ما يزاحمه دائماً فعادة المولى يحسب حسابه ويلحظه في بيانه، فحينما أمر بالقيام ـ مثلا ـ مع علمه بكون الجلوس مضادّاً له دائماً، كان هذا دالاًّ على أنّ القيام أهمّ من الجلوس في نظر المولى، وكذلك العكس.

وبمثل هذا البيان أيضاً نُبطل التقريب الأوّل في المقام؛ فإنّ المولى حينما يكون هو بصدد إحراز قيد، لا معنى لتقييد جعله بذلك القيد. والمولى بلحاظ المزاحمات الدائميّة يكون هو بصدد إحراز أهمّيّة المأمور به عنه، فليس الأمر مقيّداً بعدم الانشغال بها.

الملاحظة الثانية: أنّه كان بالإمكان إدراج القسم الأوّل والثاني من الأقسام

195

الخمسة في قسم واحد؛ لأنّ عنوان القسم الأوّل ـ وهو عجز المكلّف وضيق قدرته عن الجمع بين الواجبين ـ ينطبق على الثاني، ولا نكتة فنّيّة يمكن أن تُذكر للفرق بينهما من حيث الحكم بإمكان الترتّب وعدمه.

ولعلّ النكتة في إفراز المحقّق النائينيّ(رحمه الله) أحدهما عن الآخر هي: أنّ القسم الأوّل هو الذي ينقسم إلى متزاحمين طوليّين زماناً ومتزاحمين عرضيّين، بينما في القسم الثاني ـ وهو التزاحم بملاك التضادّ ـ لا يتصوّر الطوليّة زماناً؛ إذ الضدّان يكونان في عرض واحد، حيث إنّ أحدهما بديل الآخر في الوجود في نفس ظرفه، وهو(رحمه الله) يرى أنّ الترتّب في الطوليّين زماناً غير معقول، فحيث إنّ هذا لا يتصوّر في القسم الثاني ويتصوّر في الأوّل أفرز أحدهما عن الآخر، وإلاّ فلا فرق واقعيّ بينهما(1).

وبعد ذلك نشرع في ذكر الموارد التي ذكرها المحقّق النائينيّ(رحمه الله) لعدم إمكان الترتّب فيها، مع مورد آخر ذكره ولكن اختار فيه إمكان الترتّب. وهي على قسمين: فبعضها يجري في كلّ الأقسام الخمسة للتزاحم، وبعضها يختصّ ببعض تلك الأقسام:

المورد الأوّل: ما إذا كان المرجوح مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، فحينئذ لا ملاك


(1) لا يخفى: أنّ الشيخ النائينيّ(رحمه الله) ـ بحسب ما ورد في فوائد الاُصول للشيخ الكاظميّ(رحمه الله) ـ خصّ القسم الأوّل ـ وهو فرض ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين الواجبين ـ بفرض الطوليّة الزمنيّة بين الواجبين. أمّا لو كانا في زمان واحد فهو داخل ـ في تقسيمه هذا ـ في القسم الثاني، وهو فرض التضادّ بين المتعلّقين.

نعم، في أجود التقريرات لم يصرّح بهذه النكتة حينما ذكر الأقسام، لكنّها مقصودة حتماً؛ بدليل أنّه حينما بدأ بالحديث عن القسم الأوّل لم يصبّ الحديث إلاّ على فرض الطوليّين زمناً. راجع الكتاب، ص 318 ـ 320.

196

فيه عند المزاحمة حتّى يتمّ فيه الترتّب(1).

ولا أدري ماذا فهم السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من ذلك فأورد عليه: بأنّ هذا دور؛ لأنّ الملاك نستكشفه من الأمر، فلو كان الأمر الترتّبيّ نستكشفه في فرض إحراز الملاك ـ بغضّ النظر عن الأمر ـ للزم الدور، ولبطل الترتّب في كلّ الموارد؛ إذ لا علم لنا فيها بالملاك بغضّ النظر عن الأمر(2).

أقول: إنّ هذا الإشكال لا يمكننا مساعدته، كما أنّ إطلاق كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) غير صحيح. والتحقيق ما ذكرناه من أنّ القدرة الدخيلة في الملاك: تارة تُفسَّر بمعنى عدم وجود المانع الشرعيّ، واُخرى تُفسَّر بمعنى عدم الانشغال بالواجب الآخر:

فلو اُريد القدرة بالمعنى الأوّل، فطبعاً لا معنى للقول بالترتّب، لا لعدم إحراز الملاك في المرتبة السابقة على إحراز الأمر الترتّبيّ، حتّى يلزم الدور، بل لأنّ الترتّب بحاجة إلى دليل، ودليله هو ورود الأمر بالمهمّ، والمفروض أنّ الأمر بالمهمّ مشروط بالقدرة بعدم مانع شرعيّ، والمانع الشرعيّ موجود، فلم يثبت أمر بالمهمّ؛ لانتفاء موضوعه، فما معنى الترتّب؟ ولعلّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ينظر لبّاً إلى هذا القسم.

ولو اُريد القدرة بالمعنى الثاني، فشرط الأمر إنّما هو عدم الانشغال بالواجب


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 367 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وراجع أجود التقريرات، ج 1، ص 309 ـ 310 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، ج 3، ص 98 بحسب طبعة مطبعة النجف في النجف الأشرف.

197

الآخر، وهو حاصل عند ترك المزاحم الراجح، فيثبت الأمر ويتمّ الترتّب، وبالأمر نستكشف الملاك. ولعلّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ينظر لبّاً إلى هذا القسم، هذا.

وقد يُطبّق هذا القانون المدّعى في المقام ـ أعني: عدم ثبوت الأمر الترتّبيّ في المشروط بالقدرة الشرعيّة ـ على بعض موارد سقوط وجوب الوضوء، فيقال بأنّ الوضوء إذن يبطل في المقام.

ولا بأس بالتكلّم هنا في جملة من موارد سقوط وجوب الوضوء، فنقول:

الأوّل: ما لو كان الوضوء مزاحماً بواجب أهمّ، كما لو وجب صرف الماء في حفظ نفس محترمة، فيسقط الوضوء وينتقل إلى التيمّم. وقد ذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله) والمشهور: أنّه لو توضّأ كان باطلا؛ لأنّ الوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة(1).

إلاّ أنّ التحقيق صحّة الوضوء، وتوضيح ذلك: أنّ ما يُذكر لإثبات كون القدرة في الوضوء شرعيّة عبارة عن مجموع مقدّمتين:

الاُولى: أنّ قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ يدلّ على أنّ موضوع التيمّم عدم وجدان الماء، وبما أنّ التفصيل يقطع الشركة يدلّ على أنّ موضوع الوضوء هو وجدان الماء.

الثانية: أنّ المقصود بوجدان الماء ليس هو تيسّر ذات الماء، بل هو تيسّر الوضوء بالماء، بقرينة ذكر المريض كما ذكر المسافر في قوله: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 367 ـ 368 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 309 ـ 310 بحسب الطبعة الماضية.

198

عَلَى سَفَر﴾(1)، فمن الواضح أنّ السفر وإن كان قد يسبّب عدم تيسّر الماء، لكن المرض لا يسبّب عدم تيسّر الماء، وإنّما يسبّب عدم تيسّر الوضوء.

فتحصّل ـ من مجموع المقدّمتين ـ: أنّ عدم تيسّر الوضوء اُخذ في موضوع التيمّم، وبالتالي تيسّر الوضوء اُخذ في موضوع الحكم بالوضوء، وهذا معناه أخذ القدرة في موضوع الحكم، فتكون القدرة شرعيّة إذن، فعند مزاحمة الوضوء مع ما هو أهمّ لا يبقى ملاكٌ للوضوء، فيبطل الوضوء.

ويرد على ذلك:

أوّلا: أنّ أخذ القدرة الشرعيّة في موضوع الوضوء لم يُعلم، ومجرّد أخذ عدم القدرة في موضوع التيمّم لا يدلّ على ذلك، فإنّ غاية ما يدلّ عليه هي أخذ القدرة في موضوع خطاب الوضوء؛ لأنّ التفصيل قاطعٌ للشركة. أمّا كونها دخيلة في الملاك فهذا أمرٌ زائد لا يقتضيه كون التفصيل قاطعاً للشركة.

نعم، لو ذُكرت القدرة في لسان دليل الوضوء، لأمكن القول بأنّ هذا قرينة على دخلها في الملاك، من باب كون الأصل هو التأسيس لا التأكيد، أمّا مجرّد ذكر عدم القدرة في دليل بديل الوضوء، فلا نكتة لدلالته على أكثر ممّا يدلّ عليه العقل من اشتراط القدرة في موضوع الخطاب.


(1) لا يخفى: أنّ من المحتمل ـ أو المرجَّح ـ كون قيد عدم الوجدان راجعاً إلى الفروض الثلاثة الأخيرة المذكورة في قوله: ﴿عَلَى سَفَر أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء﴾ دون الفرض الأوّل المذكور في قوله: ﴿إِن كُنتُم مَّرْضَى﴾، فالأولى: تبديل هذه المقدّمة الثانية ببيان: أنّ عدم المرض ـ الشامل بإطلاقه للمرض الذي لم يصل إلى حدّ حرمة الوضوء الضارّ بسببه ـ بما أنّه ليس قيداً عقليّاً للحكم بالوضوء، فأصبح القاسم المشترك المأخوذ في الموضوع في كلّ الفروض الأربعة قيداً أوسع من القيد العقليّ، إذن فهمنا أنّ هذا القيد هو قيدٌ شرعيٌّ ودخيل في الملاك.

199

وثانياً: أنّه حتّى بناءً على أخذ القدرة الشرعيّة في موضوع الحكم بالوضوء، لا نسلّم كون القدرة ـ بمعنى عدم توجّه المانع الشرعيّ ـ مأخوذة في موضوعه؛ إذ غاية ما يقتضيه قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ هي اشتراط عدم تيسّر الوضوء في التيمّم، ولو بلحاظ الانشغال بالأهمّ، فيكون موضوع الحكم بالوضوء تيسّر الوضوء بمعنى يشمل عدم الانشغال بالأهمّ. أمّا مجرّد وجود حكم بالأهمّ يعصيه المكلّف، فهذا لا يوجب صدق قوله: ﴿لَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ بمعنى: لَم تتمكّنوا من الوضوء. وقد ذكرنا فيما سبق: أنّ القدرة الشرعيّة إذا كانت بمعنى عدم الاشتغال بالأهمّ أو المساوي، لا بمعنى عدم المانع الشرعيّ لم يوجب أخذها في موضوع الحكم بطلان الترتّب.

وثالثاً: لو سلّمنا أنّ وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة، بمعنى عدم المانع الشرعيّ، بدعوى: أنّ هذا هو المستفاد من آية ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ قلنا: إنّ الوضوء كما أنّه مأمورٌ به بأمر وجوبيّ مقدّميّ، كذلك هو مأمورٌ به بأمر استحبابيّ نفسيّ، ولا دليل على أخذ القدرة الشرعيّة بذاك المعنى في استحبابه؛ إذ دليل الأمر الاستحبابيّ يكون من قبيل قوله: «الوضوء على الوضوء نور على نور» أو قوله: ﴿يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ممّا لم يؤخذ في لسانه قيد عدم الوجدان. فليتمّ في المقام الأمر الترتّبيّ الاستحبابيّ وبه يصحّ الوضوء.

هذا كلّه إذا كان عصيان الأهمّ يتمّ بنفس الوضوء. أمّا إذا كان الوضوء في طول معصية الأهمّ زماناً، كما لو صبّ الماء على العضو، فاستحال حفظ النفس المحترمة به، فأرجع الماء بيده إلى أعلى بنيّة الوضوء، فلا إشكال في صحّته، وهو خارج عن محلّ البحث كما هو واضح.

الثاني: ما لو كان الوضوء حراماً لكونه غصباً للماء مثلا، أو مضرّاً بضرر موجب للحرمة، وفي ذلك لا يصحّ الترتّب؛ لأنّ الوضوء بذاته أصبح حراماً، فلا يعقل أن

200

يكون في نفس الوقت مأموراً به، بناءً على عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي لمجرّد تعدّد العنوان. أمّا بناءً على إمكانه فيدخل في القسم الخامس من التزاحم.

وأمّا إذا لم تصل الحال إلى مرتبة الضرر المحرّم، وإنّما كان الوضوء حرجيّاً، فارتفع الوجوب بدليل نفي الحرج، فالوضوء صحيح؛ للأمر الاستحبابيّ، فإنّ الأمر الاستحبابيّ لا يرتفع بالحرج؛ إذ لا حرج في الاستحباب(1).

 


(1) لقائل أن يقول: إنّ دليل نفي الحرج وإن كان لا يحكم على الأحكام الاستحبابيّة، لكن نفس الآية الكريمة في المقام تدلّ على تعيّن التيمّم، قال الله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾ ـ س 4 النساء، الآية: 43، وس 5 المائدة، الآية: 6 ـ فالآية الشريفة في كلتا السورتين أمرت المرضى بالتيمّم، وظاهر الأمر هو الوجوب التعيينيّ.

وكذلك الحال بلحاظ الروايات من قبيل: صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن الرضا(عليه السلام) «في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يكون يخاف على نفسه البرد، فقال: لا يغتسل، يتيمّم» ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 348 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 7 ـ وصحيحة داود بن سرحان عن أبي عبدالله(عليه السلام) «في الرجل تصيبه الجنابة وبه جروح أو قروح أو يخاف على نفسه من البرد، فقال: لا يغتسل ويتيمّم». وسائل الشيعة، ج 3، ص 348 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 8.

فهذه الأوامر ـ سواء القرآنيّة أو الروائيّة ـ بالتيمّم ظاهرة ككلّ أمر آخر في التعيينيّة، فتدلّ على بطلان الوضوء، فليس السبب في الحكم ببطلان الوضوء عدم ثبوت الأمر به، حتّى تنحلّ المشكلة عن طريق التمسّك بدليل الاستحباب النفسيّ للوضوء، وإنّما السبب في ذلك ظهور آيات التيمّم والروايات في وجوبه التعيينيّ.

ويمكن حلّ هذا الإشكال بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ الأمر بالتيمّم في المقام لا يدلّ على الوجوب التعيينيّ؛ لأنّ


201


تعيينيّته وردت في مقام توهّم الحظر، فلا يدلّ على أكثر من جواز الانتقال من الطهارة المائيّة إلى التيمّم، أمّا وجوب الانتقال فلا.

إلاّ أنّه يمكن النقض على ذلك بآية الصوم، قال الله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ...﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 184 ـ ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ...﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 185 ـ وقد ذكر الفقهاء: أنّ المرض الذي يضرّ بسببه الصوم مبطلٌ للصوم، في حين أنّه بالإمكان أن يقال هنا أيضاً: إنّ الأمر بعدّة من أيّام اُخر وإن كان بحسب طبعه ظاهراً في التعيين، لكنّه واردٌ في مورد نفي توهمّ الحظر، فلا يدلّ على أكثر من رفع الوجوب التعيينيّ، فمن لم يكن ضرر الصوم بالنسبة له بالغاً مرتبة الحرمة، يكون مخيّراً بين أن يصوم شهر رمضان، أو يصوم عدّة من أيّام اُخر.

قد تقول: إنّ الفرق بين الموردين هو أنّه في باب الوضوء وجدنا دليلا يدلّ على استحباب الوضوء في نفسه، فإذا سقط الوجوب الغيريّ للوضوء ـ الذي يضرّ بسبب المرض ضرراً غير محرّم ـ تمسّكنا بدليل الاستحباب الذي لا تحكم عليه قاعدة نفي العسر والحرج؛ لكونها امتنانيّة، ولا امتنان في نفي الاستحباب. ولكن في باب صوم شهر رمضان، بعد أن ثبت سقوط وجوبه التعيينيّ ـ بصريح الآيتين ـ لم يردنا دليلٌ على أمر آخر به تخييراً مثلا، أو استحباباً.

ولكنّا نقول:

أوّلا: إنّ هذا لازمه كون المرض غير البالغ ضرره حدّ الحرمة، يكون شرطاً في صحّة صوم شهر رمضان، ولا يكون شرطاً في صحّة الصوم المستحبّ، ولا أظنّ قائلا بذلك.

وثانياً: حتّى بالنسبة لصوم شهر رمضان نستطيع أن نقول: لو لم تدلّ الآية على أكثر من نفي الوجوب التعيينيّ، كفانا ذلك في تجويز الصوم رغم عدم دليل اجتهاديّ على

202


الوجوب التخييريّ؛ وذلك لأنّ الاحتمال البدويّ للوجوب التخييريّ يكفينا في الرجوع إلى أصالة عدم تعيين عدّة من أيّام اُخر، بناءً على ما نقّحناه في علم الاُصول من جريان أصالة عدم التعيين لدى دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وبالإمكان أن يقال: إنّ فرق مسألة الصوم عن مسألة الوضوء هو أنّ موثّقة سماعة دلّتنا في مسألة الصوم على أنّ ترك الصوم لدى المرض عزيمة لا رخصة، تماماً كترك الصوم لدى السفر. فقد ورد في موثّقة سماعة قال: «سألته ما حدّ المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار كما يجب عليه في السفر: ﴿وَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر﴾؟ قال: هو مؤتمن عليه، مفوّض إليه، فإن وجد ضعفاً فليفطر، وإن وجد قوّة فليصمه، كان المرض ما كان» ـ وسائل الشيعة، ج 11، ص 220 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت،ب 20 ممّن يصحّ منه الصوم، ح 4 ـ فترى أنّ السائل كان يعتقد أنّ الإفطار لدى المرض كالإفطار لدى السفر، والإمام(عليه السلام) سكت عنه، وهذا إقرار له عليه، ولم يرد شيء من هذا القبيل في باب الوضوء.

بل نستطيع أن نقول: إنّ نفس الآية الشريفة في باب الصوم ـ بوحدة السياق بين المرض والسفر، بضميمة علمنا بأنّ ترك الصوم في السفر عزيمة لا رخصة ـ تدلّ على أنّ تركه في المرض أيضاً عزيمة لا رخصة، في حين أنّه لا توجد قرينة من هذا القبيل في باب الوضوء.

إلاّ أنّه رغم كلّ هذا نقول: إنّ حمل آية الوضوء على كونها في مقام نفي توهّم الحظر بعيد جدّاً؛ فإنّ قاعدة حمل الأمر في مورد توهّم الحظر على نفي الحظر ـ دون الوجوب ـ إنّما تكون عرفيّة لدى ورود ذات الأمر بالشيء في مورد توهّم حظره من قبيل: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ ـ س 5 المائدة، الآية: 2 ـ ﴿عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ

203


عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 187 ـ ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 187 ـ وما إلى ذلك، ولا تكون عرفيّة في حمل الأمر على الأمر التخييريّ في مورد توهّم تعيينيّة الأمر الأوّل، بعد إحراز أنّ الأمر الثاني أيضاً في ذاته لإنشاء الوجوب، لا للإباحة ونفي الحظر.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ أصل كون الأمر بالتيمّم لإيجاب التيمّم ممّا لا شكّ فيه، وإنّما الكلام في كونه واجباً تعيينيّاً أو تخييريّاً، والمرجع عندئذ إنّما هو ظهور الأمر في التعيين، فهذا الوجه الأوّل لحلّ الإشكال لا يرجع إلى محصّل، ولا زلنا نقول: إنّ ظاهر الآية كون التيمّم واجباً تعيينيّاً.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ شمول المرض في الآية الشريفة لما يضرّ معه الصوم ضرراً غير محرّم لم يثبت، وتوضيح ذلك: أنّ المرض في الآية غير باق على إطلاقه يقيناً؛ وذلك بمقيّد ارتكازيّ كالمتّصل؛ لوضوح أنّ المرض لو لم يكن يضرّ معه الوضوء، لم يُحتمل ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ إبطاله للوضوء أو إسقاطه عن الوجوب، فلابدّ من أخذ قيد في المقام، وهذا القيد كما يناسب أن يكون عبارة عن قيد مضرّيّة الوضوء، كذلك يناسب أن يكون عبارة عن قيد حرمته؛ لأنّ حرمته تسلب القدرة الشرعيّة من المكلّف على الوضوء.

ولا معيِّن في المقام للقيد الأوّل على الثاني، والإطلاق لا يثبت الأوّل في مقابل الثاني؛ لأنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة إنّما ينفي القيد الجديد المحتمل، ولا يعيّن القيد المحذوف المردّد بين مفهوم واسع ومفهوم ضيّق في المفهوم الواسع.

وعليه فالآية الشريفة لم تدلّ على أكثر من الانتقال إلى التيمّم في مورد كون الوضوء

204


موجباً لتحمّل ضرر محرّم، وهي مجملة في مورد الضرر الطفيف الذي يجوز ارتكابه، وإنّما الدليل على سقوط الوضوء في مورد الضرر الحرجيّ هي قاعدة نفي الحرج، وهي إنّما تسقط الوجوب المقدّميّ للوضوء، ولا تسقط استحبابه النفسيّ، فيبقى الوضوء مستحبّاً نفسيّاً تجوز الصلاة به، كما تجوز الصلاة بالتيمّم.

ولا يخفى: أنّ هذا الوجه أيضاً يمكن توجيه النقض عليه بآية الصوم، فيقال: إنّ لازم هذا الكلام أن يقال بنفس التقريب في آية الصوم، فيقال: لم يُعرف شمول المرض في آية الصوم ـ بعد وضوح عدم إرادة الإطلاق منه؛ لبداهة عدم منع المرض الذي لا يضرّ معه الصوم عن وجوبه أو صحّته ـ للمرض الذي يكون تحمّل الضرر معه حرجيّاً وغير محرّم، فيكون دليل نفي وجوب الصوم معه عبارة عن قاعدة نفي الحرج، وهي تنفي الوجوب ونبقى نثبت التخيير بين صوم شهر رمضان وعدّة من أيّام اُخر، ولو بأصالة التخيير لدى الدوران بينه وبين التعيين، وأيضاً نبقى نتمسّك في غير شهر رمضان بأدلّة استحباب الصوم.

والحلّ: أنّ المناسب للتقدير ـ سواءً في آية الوضوء أو آية الصوم ـ إنّما هو مطلق الإضرار، لا حرمة الوضوء أو الصوم؛ فإنّ حرمة الوضوء أو الصوم لدى شدّة الضرر لم تكن واضحة عند نزول الآية، حتّى يفترض كون فقدان القدرة الشرعيّة لدى شدّة الضرر، هو الموجب لمناسبة تقدير قيد الحرمة، وصرف الآية إلى بيان مجرّد البديل عن الوضوء وهو التيمّم، أو عن صوم شهر رمضان وهو صوم عدّة من أيّام اُخر، بل نفس الآيتين هما بصدد بيان سقوط الوضوء أو الصوم وبيان البديل، فالمناسب العرفيّ إنّما هو تقدير قيد الإضرار ولو على مستوى الحرج، دون الحرمة.

هذا مضافاً إلى أنّه لو فُرض إجمال الآية في كون المقصود الضرر الواصل إلى حرمة