205


التحمّل أو مطلق الضرر الحرجيّ، فإطلاق الروايات في المقام ـ كالصحيحتين الماضيتين ـ واضح.

الوجه الثالث: أن يقال: إنّه وإن كان مقتضى إطلاق الآية كون وجوب التيمّم تعيينيّاً، لكن ورد في الروايات ما هو ظاهرٌ في كون وجوبه وجوباً تخييريّاً، من قبيل: صحيحة محمّد بن مسلم «قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن الرجل تكون به القرح والجراحة يجنب؟ قال: لا بأس بأن لا يغتسل، يتيمّم» ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 347 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 5 ـ وفي نقل الصدوق: «لا بأس بأن يتيمّم ولا يغتسل» ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 348 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 11 ـ وذلك بدعوى أنّ كلمة «لا بأس» تدلّ على التخيير.

إلاّ أنّ الشأن في أنّ كلمة «لا بأس» هل تدلّ حقّاً على التخيير، أو غاية ما تؤثّر هي المنع عن ظهور العبارة في التعيين؟ فإن كان الثاني فهذا لا يقف أمام ظهور الآية في التعيين. ويؤيّد عدم إرادة الرواية التخيير: أنّ السؤال فيها ليس مخصوصاً بفرض كون المرض مؤدّياً إلى الضرر الحرجيّ، بل يشمل بإطلاقه فرض وصوله إلى درجة الحرمة، والتي لا تخيير معها حتماً.

الوجه الرابع: أن يقال: إنّه وقع التعارض بين إطلاق الآية الدالّ على كون وجوب التيمّم المقدّميّ وجوباً تعيينيّاً، وإطلاق دليل استحباب الوضوء الدالّ على استحبابه حتّى ولو كان حرجيّاً، وبعد فرض التساقط نبقى شاكّين في كون التيمّم واجباً تخييريّاً أو تعيينيّاً، فنرجع إلى أصالة التخيير.

وهذا الوجه أيضاً يصعب الاعتماد عليه: إمّا لأنّ التعارض بين إطلاقي الكتاب والخبر يوجب سقوط الخبر؛ لدخوله في المخالف للكتاب الذي يجب ضربه عرض الحائط، وإمّا

206


لأنّ الأمر بالتيمّم الدالّ بإطلاقه على التعيين، كما ورد في الكتاب ورد في الأخبار أيضاً كما مضى، فيدخل الباب في تعارض الخبرين، ويكون الترجيح مع ما وافق الكتاب، وهو الخبر الذي دلّ على تعيين التيمّم.

هذا كلّه بعد تسليم الاستحباب الذاتيّ للوضوء بعنوان الوضوء.

إلاّ أنّه يمكن أن يقال: إنّ الاستحباب ليس للوضوء بعنوان الوضوء، وإنّما للطهارة الحدثيّة التي قد تتجسّد في الوضوء، واُخرى في الغسل، وثالثةً في التيمّم، وتجسّد الطهارة في الوضوء فيما نحن فيه أوّل الكلام، وإثبات جواز الوضوء بدليل الاستحباب الذاتيّ للطهارة لا يكون إلاّ من قبيل إثبات الصغرى بالكبرى.

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّه قد يستدلّ على الاستحباب النفسيّ للوضوء بمرسلة الديلميّ في الإرشاد «قال: قال النبيّ(صلى الله عليه وآله): يقول الله تعالى: من أحدث ولم يتوضّأ فقد جفاني، ومن أحدث وتوضّأ ولم يصلّ ركعتين فقد جفاني، ومن أحدث وتوضّأ وصلّى ركعتين ودعاني، ولم اُجبه فيما سألني من أمر دينه ودنياه فقد جفوته، ولست بربٍّ جاف» وسائل الشيعة، ج 1، ص 382 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 11 من الوضوء، ح 2.

ومرسلة الفقيه: «الوضوء على الوضوء نور على نور» المصدر نفسه، ص 377، ب 8 من تلك الأبواب، ح 8.

ورواية محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) «قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهّروا» المصدر نفسه، ح 10، ص 378، وكذلك ورد في حديث الأربعمأة في وسائل الشيعة، ج 1، ص 247 من تلك الطبعة، ب 1 من نواقص الوضوء، ح 6.

ورواية المفضّل بن عمر عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «من جدّد وضوءه لغير حدث(وفي نسخة: لغير صلاة) جدّد الله توبته من غير استغفار» وسائل الشيعة، ج 1، ص 377،

207


ب 8 من الوضوء، ح 7 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

وهذه الروايات كلّها ضعيفة السند.

وهناك روايات اُخرى دلّت على استحباب تجديد الوضوء للصلاة ـ راجع الوسائل، ج 1 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 8 من الوضوء ـ فلا يعرف منها استحباب الوضوء مستقلاًّ عن الصلاة، إلاّ أنّ هذا أيضاً قد يكفينا؛ لأنّه لو ثبت استحباب الوضوء للصلاة زائداً على الوجوب المقدّميّ، فدليل نفي الحرج لا ينفيه؛ لعدم حكومته على الأحكام الاستحبابيّة.

وما يمكن أن يكون منها تامّاً سنداً ما عن سماعة بن مهران «قال: قال أبو الحسن موسى(عليه السلام): من توضّأ للمغرب كان وضوؤه ذلك كفّارةً لما مضى من ذنوبه في نهاره ما خلا الكبائر. ومن توضّأ لصلاة الصبح كان وضوؤه ذلك كفّارةً لما مضى من ذنوبه في ليلته ما خلا الكبائر» ـ المصدر الماضي، ص 316 ـ 317، ح 4 ـ وإنّما عبّرنا بإمكان تماميّة سنده ولم نجزم بذلك؛ لأنّه ورد في سنده ـ بحسب ما هو مذكور في الوسائل ـ جرّاح الحذّاء، ولكن ذكر المعلّق تحت الخطّ: «في المصدر: صباح». فإن اعتمدنا على ما في المصدر ـ بحسب ما ذكره هذا المعلّق ـ تمّ سنده. وإن لم نعتمد على ذلك ـ لأنّ نقل صاحب الوسائل قد يشهد لاختلاف نسخ المصدر، وهو ثواب الأعمال، فلعلّ النسخة التي وصلت إلى صاحب الوسائل كان فيها جرّاح الحذّاء ـ إذن لا تثبت تماميّة السند.

وعلى أيّة حال فهذه الطائفة من الروايات غير تامّة دلالةً على المقصود؛ وذلك لأنّها إنّما وردت في تجديد الوضوء، فالشرائط التي تكون دخيلة في صحّة أصل الوضوء تؤخذ فيها مفروضة الوجود.

نعم، لو شككنا في شرط جديد في الوضوء التجديديّ، ككون الماء حارّاً أو بارداً أو غير ذلك، رفعنا احتمال دخله بإطلاق هذه الروايات. أمّا لو شككنا في دخل شرط من

208


الشروط في أصل الوضوء، كما لو احتملنا شرطيّة عدم إضراره بالإنسان، فلا يمكن نفي احتمال دخله بإطلاق هذه الروايات؛ لأنّها إنّما تكون في مقام بيان رفع مشكلة التجديد، أو قُل: دفع احتمال أنّ التجديد باطل؛ لأنّه على وضوء فلا حاجة إلى تجديده، وليست في مقام بيان شرائط أصل الوضوء.

وهناك طائفة ثالثة قد يستدلّ بها على المقصود، وهي الروايات التي يتخيّل أنّها تدلّ على أنّ الوضوء طهور، فيقال: إنّنا نضمّ ذلك إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 222 ـ ونحوها آية: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ ـ سورة 9 التوبة، الآية: 108 ـ فنُثبت بذلك استحباب الوضوء النفسيّ.

قد تقول: إنّ الآية تنظر إلى الطهارة الخبثيّة ـ كما هي مورد نزولها على ما ورد في الروايات. راجع وسائل الشيعة، ج 1 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 34 من أحكام الخلوة ـ دون الطهارة الحدثيّة.

وقد يقال في الجواب: إنّ إطلاق الآية يشمل الطهارة الحدثيّة، والمورد لا يخصّص الوارد. راجع التنقيح، ج 4 من الطهارة، ص 514.

وقد تقول: إنّ الطهارة الحقيقيّة هي الطهارة الخبثيّة، أمّا الطهارة الحدثيّة فهي تعبّديّة بحت، وإدخالها تحت إطلاق الآية بحاجة إلى دليل خاصّ.

ويمكن الجواب عن ذلك بوجهين:

1 ـ إنّ الطهارة عن الحدث طهارة بحسب الحقيقة الشرعيّة، وليست حقيقة متشرّعيّة فحسب. فقرآن الشريعة يحمل على هذا المصطلح، ولو فُرض أنّ الناس في زمان نزول الآية لم يكونوا بعدُ فاهمين لهذه الحقيقة الشرعيّة.

209


2 ـ إنّ دليل طهارة الوضوء ـ سواءً فُرض تنزيلا أو اعتباراً ـ يُفهم منه نظره إلى آثار الطهارة، ومن آثارها: أنّ الله يحبّ المتطهّر، فيثبت هذا الأثر لهذه الطهارة.

أمّا ما هي الروايات التي دلّت على كون الوضوء طهارة؟ فمن قبيل: صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام): «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، ولا صلاة إلاّ بطهور»ـ وسائل الشيعة، ج 1، ص 372 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 4 من الوضوء، ح 1 ـ وصحيحة زرارة أيضاً عن أبي جعفر(عليه السلام): «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» ـ المصدر نفسه، ص 372، ب 3 من تلك الأبواب، ح 8 ـ ومرسلة الصدوق عن الصادق(عليه السلام): «الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلثٌ طهور، وثلثٌ ركوع، وثلثٌ سجود» ـ المصدر نفسه، ص 366، ب 1 من تلك الأبواب، ح 8 ـ ونحوها من الروايات. راجع نفس المصدر والباب.

وكأنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لدى استشهاده في التنقيح ـ ج 4 من الطهارة، ص 513 ـ 515 ـ بهذه الروايات على كون الوضوء طهوراً، وتطبيق آية: ﴿يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ عليه، أحسّ بنقطة قد تؤخذ كضعف على هذا الاستدلال؛ إذ كيف نُثبت أنّ المقصود بالطهارة نفس الوضوء والطهارة المائيّة في مقابل التيمّم؟! فذكر عبارتين كلّ منهما يصلح أن يكون وجهاً مستقلاًّ لملء هذا الفراغ ورفع هذا الضعف، فأثبت تارةً: أنّ الطهارة اسم للعمل، فتنطبق الآية على ذات الوضوء، لا للنتيجة التي يُفترض ترتّبها تارةً على الوضوء، واُخرى على التيمّم. وذكر اُخرى: أنّ قوله تعالى: ﴿يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ واردٌ في الاستنجاء بالماء، فبعد أن نتعدّى منه ـ بالإطلاق ـ إلى الطهارة الحدثيّة، نراه ناظراً إلى خصوص الطهارة المائيّة دون الترابيّة، فهو يدلّ على استحباب خصوص الوضوء ويكون أجنبيّاً عن التيمّم.

210


إلاّ أنّ كلّ هذا البحث من قِبَل السيّد الخوئيّ(رحمه الله) يبدو غريباً، فإنّه لم يضع يده على النقطة الحقيقيّة للضعف ولم يعالجها:

أمّا قوله: إنّ الطهور اسم للعمل لا للنتيجة، فجوابه: أنّه ليست نقطة الضعف في هذا الاستدلال مرتبطة بكون الطهارة هل هي اسم للعمل أو للنتيجة، وإنّما نقطة الضعف: أنّ الطهارة ـ سواءً كانت اسماً للعمل أو للنتيجة ـ ليست في الطهارة الحدثيّة إلاّ أمراً تعبّديّاً بحتاً، ومشروطاً بشروط لو فُقد أحدها لم تحصل الطهارة ولو توضّأ ألف مرّة. فلو احتملنا كون عدم الضرر شرطاً من شروط الوضوء، كان معنى ذلك احتمال أنّ الوضوء مع الضرر لا يكون طهارة، أو لا يحقّق الطهارة، فكيف نستطيع أن نُثبت استحبابه بقوله: ﴿يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، وهل هذا إلاّ تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ؟!

وأمّا قوله: إنّ الآية نزلت في الطهارة المائيّة، فأيضاً يكون بعيداً عن نقطة الضعف الموجودة في الاستدلال، فالآية وإن كانت ناظرةً إلى الطهارة المائيّة ولا علاقة لها بالطهارة الترابيّة، ولكن نقطة الإشكال هي أنّ كون الوضوء طهارة ليس أمراً تكوينيّاً حقيقيّاً ـ كالطهارة الخبثيّة ـ بل أمرٌ تعبّديٌّ اعتباريٌّ مشروط بشروط، لو فُقد أيّ واحد من تلك الشروط سقط الوضوء عن كونه طهارة مائيّة. فإذا احتملنا أن يكون من تلك الشروط عدم الضرر، فكيف نستطيع أن نرفع الشكّ بالآية الشريفة، وهل هذا إلاّ تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ؟!

والمهمّ عندنا من كلّ ما مضى هو دلالة آية التيمّم على تعيّن التيمّم؛ لأنّ الأمر به ظاهر في التعيين. أمّا الإشكال بعدم ثبوت الاستحباب الذاتيّ للوضوء فليس مهمّاً؛ لأنّه لولا دلالة الآية على تعيّن التيمّم لم نكن بحاجة إلى الاستحباب الذاتيّ للوضوء؛ لما مضى من أنّه مع فرض عدم دلالة الآية على تعينّ التيمّم، نبقى مردّدين بين تعيين التيمّم والتخيير

211

الثالث: ما لو توقّف الوضوء على مقدّمة محرّمة، كما لو كان الماء في إناء مغصوب، فكان الوضوء متوقّفاً على التصرّف في الإناء بالاغتراف منه. والكلام في الوضوء بالاغتراف من الإناء، لا بالارتماس في الإناء، وإلاّ لكان نفس الوضوء تصرّفاً في مال الغير وحراماً ودخل في المورد الثاني.

كما أنّ الكلام إنّما هو فيما لو اغترف من الإناء بالتدريج لوضوئه، أمّا لو أخذ من الإناء ما يكفي لتمام الوضوء، ثمّ توضّأ به فلا إشكال في أنّ هذا الوضوء واجب وصحيح وواجدٌ للقدرة بكلّ معانيها، فالكلام إنّما هو في الاغتراف التدريجيّ بأن يغترف غرفةً ويغسل به وجهه، وغرفةً اُخرى ويغسل به يده اليمنى، وهكذا.

والمشهور فصّلوا بينما لو وُجد عنده ماء آخر، أو انحصر الماء بهذا الفرد:

فعلى الثاني يبطل الوضوء؛ لأنّه مشروط بالقدرة الشرعيّة المنتفية في المقام؛ لتوقّفه على المقدّمة المحرّمة، وهي التصرّف الغصبيّ في الإناء بالاغتراف.

وعلى الأوّل يصحّ الوضوء؛ لأنّ القدرة الشرعيّة على الجامع موجودة، غاية


بين التيمّم والوضوء، ومعه نجري أصالة التخيير، ولا يهمّنا أن لا يثبت استحباب الوضوء الذاتيّ.

وأيضاً لو ثبت أنّ كلمة «لا بأس» فيما مضى من صحيحة محمّد بن مسلم ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 347 و348 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 5 و 11 ـ تدلّ على التخيير لم نحتج إلى إثبات استحباب الوضوء.

وعلى أيّ حال فقد تلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّ إثبات صحّة الوضوء ـ حينما يكون مضرّاً ضرراً حرجيّاً ولم يكن محرّماً ـ في غاية الإشكال. ولا أقلّ معها من الاحتياط الوجوبيّ بالتيمّم وعدم كفاية الوضوء.

212

الأمر أنّه هو يختار بسوء اختياره الفرد المتوقّف على الحرام.

وذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في المقام: أنّ هذا الكلام غير صحيح قائلا: إنّ الوجدان الشرعيّ ليس في دخله بأشدّ من الوجدان التكوينيّ، وكما أنّه في القدرة التكوينيّة لا يلزم ثبوت القدرة التامّة من أوّل الأمر، بل تكفي القدرة التدريجيّة، كما لو كان عنده ثلج لا يمكنه تذويبه دفعة واحدة، فينتظر إلى أن يذوب منه مقدار، فيغسل به وجهه، ثمّ يغترف مقداراً آخر يذوب منه، فيغسل به يده اليمنى، وهكذا.

كذلك في المقام، يكفي حصول القدرة الشرعيّة بالتدريج، فإنّه حينما يغترف غرفة من الماء يصبح قادراً شرعاً على التصرّف في هذا الماء بغسل وجهه، وإن فعل حراماً بالاغتراف. ثمّ باغترافه الغرفة الثانية يصبح قادراً شرعاً على غسل يده اليمنى... وهكذا، وهذا كاف في كون الوضوء مأموراً به وصحيحاً(1).

أقول: إنّ حقيقة المطلب ما قلناه: من التفصيل بينما لو كانت القدرة الشرعيّة ـ المفروض دخلها في الحكم ـ بمعنى عدم الانشغال بالمزاحم، أو بمعنى عدم المانع شرعاً، فإذا كان بالمعنى الأوّل صحّ الوضوء، أمّا إذا كان بالمعنى الثاني لم يصحّ الوضوء، ولا يمكن قياس هذه القدرة الشرعيّة بالقدرة التكوينيّة.

وتوضيح ذلك: أنّ القدرة التكوينيّة حينما تكون دخيلة في الحكم بمجرّد حكم العقل، فالعقل لا يحكم بأكثر من اشتراط القدرة على كلّ جزء من العمل حينه؛ فإنّ مدرك ذلك هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز مثلا، ومن الواضح عدم القبح حينما تحصل القدرة التدريجيّة على الأجزاء وفق ترتيب الأجزاء.

وحينما يُفرض أخذها في لسان الدليل لم يُفهم من ذلك أيضاً اشتراط أكثر من


(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 3، ص 189 ـ 194.

213

ذلك؛ لوضوح أنّ أكثر من ذلك ـ وهو ثبوت القدرة على كلّ الأجزاء دفعة واحدة ـ أمر مستحيل؛ فإنّ(1) الوضوء فعل تدريجيٌّ يستحيل الإتيان بكلّ أجزائه دفعة واحدة، والفعل الذي يكون كذلك لا محالة تكون القدرة عليه أيضاً تدريجيّة، فوضوح ذلك وارتكازيّته يجعل ظاهر دليل التقييد بالقدرة هو التقييد بهذه القدرة التكوينيّة.

وعليه ففي مثال الثلج الذي يذوب بالتدريج لا إشكال في وجوب الوضوء وصحّته، حتّى لو فُرض عدم إمكان جمع الماء ثمّ الوضوء مع درك الصلاة في الوقت، بأن كان الوقت ضيّقاً، أو لم يكن يمكن جمع الماء، أي: لو لم يكن يستهلك بالتدريج في الوضوء كان يتلف، فيجب الوضوء بالتدريج به لو أمكن بلا إشكال.

وأمّا القدرة الشرعيّة بمعنى عدم وجود مانع شرعيّ وحكم مزاحم، فلو اُخذت في لسان الدليل فظاهر الدليل اشتراط ثبوت هذه القدرة دفعة واحدة؛ فإنّ الأصل في القيد المأخوذ في لسان الدليل هو كونه قيداً مقارناً، فلو قيّد الأمر بالوضوء ـ أو بأيّ شيء آخر ـ بعدم المانع الشرعيّ، كان معنى ذلك أنّ عدم المانع الشرعيّ شرط مقارن لذلك الأمر.

وعليه فنقول: لو اغترف غرفة من هذا الإناء، المفروض عدم إمكان التوضّئ الكامل بها، فبماذا يؤمر؟ هل بغسل الوجه أو بتمام الوضوء؟ فإن فُرض الأوّل، أي: أنّه يؤمر بغسل الوجه فهو غير صحيح؛ بداهة أنّ الأمر بغسل الوجه أمر ضمنيّ لا يكون إلاّ في ضمن الأمر بتمام الوضوء. وإن فُرض الثاني، أي: أنّه يؤمر بتمام الوضوء فهو أيضاً غير صحيح؛ لأنّه مشروط بعدم المانع الشرعيّ، بينما المانع


(1) ولو اُخذ مثل الوجدان التكوينيّ للماء في الموضوع فالمتبادر عرفاً أنّه إنّما اُخذ ذلك كمقدّمة لفرض تحقّق القدرة.

214

الشرعيّ لا زال موجوداً؛ إذ هذا المقدار من الماء الذي اغترفه لا يمكن الوضوء الكامل به بحسب الفرض، فإذا أراد أن يتوضّأ احتاج إلى اغتراف آخر من الإناء، والمفروض أنّه ممنوع شرعاً، فالشرط غير موجود، فيبطل الوضوء.

هذا تمام الكلام في المورد الأوّل، وهو نسبته إلى كلّ ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من الأقسام الخمسة للتزاحم على حدّ سواء.

المورد الثاني ـ من الموارد التي يقول المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فيها بعدم صحّة الترتّب ـ: هو ما لو كان الواجب الأهمّ متأخّراً زماناً عن مزاحمه المهمّ، وكانا مشروطين بالقدرة العقليّة، أمّا لو كانا مشروطين بالقدرة الشرعيّة فالمقدّم زماناً هو الذي يتقدّم عند المحقّق النائينيّ(رحمه الله). ولو كان أحدهما مشروطاً بالقدرة العقليّة والآخر مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، فالمشروط بالقدرة العقليّة هو الذي يتقدّم في نظر المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، ولا يصحّ الأمر الترتّبيّ حينئذ بالمشروط بالقدرة الشرعيّة عنده؛ لدخوله في المورد الأوّل من موارد عدم صحّة الأمر الترتّبيّ. إذن، فتصوير هذا المورد ـ بنحو يكون مورداً مستقلاًّ ـ عبارة عمّا لو كان كلا الواجبين مشروطاً بالقدرة العقليّة، فيرى(رحمه الله) في هذا الفرض أنّ المهمّ المقدّم زماناً لا يكون مأموراً به بالأمر الترتّبيّ، في فرض تركه للأهمّ المتأخّر.

والوجه في ذلك: أنّ تصوير الأمر الترتّبيّ في المقام لا يخلو من إحدى صور أربع:

الصورة الاُولى: أن يُفرض أنّ الأمر بالمقدّم المهمّ مشروط بترك الأهمّ المتأخّر، وهو(رحمه الله) أورد على ذلك بأمرين: أحدهما: أنّ هذا يؤدّي إلى الالتزام بالشرط المتأخّر، وهو مستحيل. والثاني: أنّ المزاحم للأمر بالمهمّ ليس فقط الأمر بالأهمّ المتأخّر، بل هناك مزاحم آخر مقارن له، وهو وجوب حفظ القدرة للواجب الأهمّ، ومجرّد التقييد بترك الأهمّ في وقته لا يحلّ هذا التزاحم.

215

الصورة الثانية: أن يفرض أنّ الأمر بالمقدّم المهمّ مشروط بتعقّب ترك الأهمّ، وعنوان اشتراط التعقّب هو الذي يتشبّث المحقّق النائينيّ(رحمه الله) به أحياناً لدفع مشكلة الشرط المتأخّر.

وأورد على ذلك بأمرين:

أحدهما: الأمر الثاني الذي أورده على الصورة الاُولى، وهو أنّ هذا لا يحلّ مشكلة التزاحم مع وجوب حفظ القدرة للأهمّ.

والثاني: أنّ فرض شرط التعقّب يحتاج إلى دليل خاصّ، كما يقال مثلا في بيع الفضوليّ ـ لو ورد دليل خاصّ على الكشف ـ: بأنّ الشرط هو تعقّب الإجازة، ولا دليل خاصّ في المقام.

الصورة الثالثة: أن يُفرض أنّ الأمر بالمقدّم المهمّ مشروطٌ بترك حفظ القدرة للأهمّ.

وأورد على ذلك بأنّ ترك حفظ القدرة للأهمّ: إمّا يكون بالانشغال بهذا المزاحم له المهمّ، أو بالانشغال بضدٍّ ثالث.

أمّا الأوّل فلا يُعقل أن يكون محقّقاً لشرط الأمر بالمهمّ؛ إذ معنى ذلك هو الأمر بالمهمّ بشرط تحقّقه، والأمر بشيء بشرط تحقّقه غير صحيح؛ فإنّه طلبٌ للحاصل.

وأمّا الثاني فأيضاً غير معقول؛ لأنّ ذلك الشيء الثالث يمنعه عن هذا المهمّ أيضاً، كما يمنعه عن الأهمّ، فكيف يُعقل تعليق الأمر بالمهمّ عليه؟! وليس هذا إلاّ طلب المحال(1).


(1) وأضاف الشيخ النائينيّ(رحمه الله) على ما في التقريرين: أنّه ولو فُرض تعليق الأمر بالمهمّ على الجامع بين الضدّين، أعني: نفس المهمّ والضدّ الثالث، لزم كلا المحذورين، أي: طلب الحاصل وطلب المحال.

216

الصورة الرابعة: أن يُفرض أنّ الأمر بالمهمّ مشروطٌ بالعزم على الترك.

وهذا قد فرغ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من بطلانه؛ لبنائه على أنّ الأمر الترتّبيّ يجب أن يكون مشروطاً بترك الأهمّ، لا بالعزم على الترك.

فإذا بطلت كلّ الصور الأربع بطل الترتّب في المقام(1).

أقول: الصحيح أنّ كلّ هذه الصُوَر الأربعة معقولة.

أمّا الصورة الاُولى، وهي الخطاب بالمهمّ المتقدّم، مقيّداً بترك الأهمّ المتأخّر، فقد عرفت أنّه أورد عليها إشكالين:

الأوّل: استحالة الشرط المتأخّر.

والجواب هو: عدم استحالة الشرط المتأخّر على ما نقّحناه في محلّه، على الخصوص إذا كان الشرط من قبيل ما نحن فيه، ووجه الخصوصيّة أنّه لو كان الشرط من الشروط الدخيلة في الملاك فقد يقال: إنّ المتأخّر إذا كان مؤثّراً في ملاك المتقدّم، كان معنى ذلك تأثير المتأخّر في أمر تكوينيّ متقدّم، وهو مستحيل.

ولكنّ الشرط في المقام وهو ترك الواجب المتأخّر في وقته ليس دخيلا في الملاك ومؤثّراً في هذا الأمر التكوينيّ، وإنّما هو دخيل في صحّة الأمر؛ حيث إنّ العقل لا يحكم بقبح توجيه هذه الحصّة من الأمر، أي: الأمر المقيّد بترك الأهمّ في وقته.

والثاني: وجود مزاحم آخر للأمر وهو وجوب حفظ القدرة للأهمّ.

والجواب: أنّ وجوب حفظ القدرة إن قلنا بكونه وجوباً عقليّاً ـ من باب وجوب الامتثال ـ فمن الواضح جدّاً أنّه ليس فيه ملاك وراء ملاك امتثال الأمر


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 380 ـ 382، وأجود التقريرات، ج 1، ص 318 ـ 320.

217

بالأهمّ، والمفروض أنّه قد قُيّد الأمر بالمهمّ بترك الأهمّ، ففرض أنّ هذا الأمر بالمهمّ يوجب فوت حفظ القدرة لا يضرّ؛ إذ ضمّ فوت القدرة إلى فوت الأهمّ لا يوجب زيادة في الخسارة.

ولكنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ على ما أذكر ـ يقول: بأنّ وجوب حفظ القدرة يكون على طبقه خطابٌ شرعيّ، إلاّ أنّه مع ذلك لا إشكال في أنّ هذا الخطاب ليس لأجل ملاك مستقلّ في حفظ القدرة، بل هو خطابٌ طريقيّ، فأيضاً نقول: إنّ الأمر بالمهمّ لا يوجب ترك الأهمّ؛ لأنّ المفروض تقيّده بفرض ترك الأهمّ، ولا يوجب إلاّ انضمام تفويت القدرة إلى ترك الأهمّ، وهذا لا توجد فيه خسارة(1).

وأمّا الصورة الثانية، وهي فرض الأمر بالمهمّ مشروطاً بتعقّب ترك الأهمّ، تمشّياً مع ما يراه المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّ تبديل الاشتراط بالشيء المتأخّر إلى الاشتراط بتعقّبه، يدفع إشكال الشرط المتأخّر، فقد عرفت: أنّه أورد عليها إشكالين:

أحدهما: الإشكال الثاني على الصورة الاُولى، وقد عرفت جوابه.

والثاني: أنّ شرط التعقّب بحاجة إلى دليل خاصّ. ويرد عليه: أنّه لا حاجة في مثل المقام إلى دليل خاصّ؛ إذ يكفيه إطلاق دليل الأمر بالمهمّ، الذي لا مخصّص له عدا حكم العقل بالقبح ـ مثلا ـ المخصوص بغير فرض التعقّب بترك الأهمّ.

وأمّا الصورة الثالثة، وهي فرض الأمر بالمهمّ مشروطاً بمخالفة وجوب حفظ


(1) وبكلمة اُخرى: إنّ وجوب حفظ القدرة ليست له محرّكيّة، وإنّما المحرّكيّة لوجوب ذاك الواجب الذي تُحفظ القدرة له، فالترتّب على ترك ذاك الواجب يكفي لرفع المحذور.

218

القدرة، فقد عرفت أنّه أورد عليها: أنّ مخالفة حفظ القدرة إن كانت بالإتيان بالمهمّ، فالأمر به طلبٌ للحاصل. وإن كانت بعمل آخر يضادّه فالأمر به طلب للمحال.

ويرد عليه ـ بغضّ النظر عن أنّه قد يكون العمل الآخر مزاحماً للأهمّ وغير مضادّ للمهمّ ـ: أنّ معصية الأمر بحفظ القدرة أمرٌ سلبيّ، أعني: عدم حفظ القدرة، وهو أمرٌ ملازم للجامع بين الإتيان بالمهمّ، والإتيان بذلك الضدّ الثالث، ولا ضير في أن يأمر المولى بأحد الملزومين على تقدير الإتيان بلازم الأعمّ. وبكلمة اُخرى: لا بأس بأن يقول المولى: لو أتيت بما يلازم هذا الجامع فأت بالفرد الفلانيّ من أفراد هذا الجامع؛ فإنّ هذا ليس طلباً للحاصل ولا طلباً للمحال.

بل لو افترضنا أنّ مخالفة الأمر بحفظ القدرة، ليست أمراً ملازماً للجامع بين فعل المهمّ وفعل الضدّ الثالث، بل هي عين ذلك الجامع، قلنا أيضاً: إنّه لا يلزم من الأمر بأحد الفردين مشروطاً بالجامع طلب الحاصل ولا طلب المحال؛ لأنّ القيد إنّما هو الجامع بحدّه الجامعيّ، ولا تسري القيديّة من الجامع إلى أفراده.

نعم، لو قلنا بأنّ مخالفة الأمر بحفظ القدرة تكون عبارة عن الإتيان بهذا الجامع، وقد افترضنا وجوب حفظ القدرة شرعاً ـ إمّا غيريّاً أو نفسيّاً طريقيّاً ـ إذن، فهذا الجامع يكون حراماً، والحرمة تسري إلى كلا فرديه، فيصبح فعل المهمّ حراماً، فلا يعقل الترتّب.

إلاّ أنّ هذا مجرّد فرض غير مطابق للواقع؛ فإنّ مخالفة الأمر بحفظ القدرة(1)


(1) لا يخفى أنّ حفظ القدرة أمر انتزاعيّ، يُنتزع من عدم التعجيز، سنخ انتزاع التفويت من عدم الفعل. إذن، فالتعجيز يكون حراماً. فيقع الكلام في أنّه هل يكون صرف

219


القدرة في المهمّ المتقدّم تعجيزاً عن الأهمّ المتأخّر؟

والجواب: نعم. وتوضيح ذلك: أنّ الأهمّ والمهمّ لو كانا متعاصرين لما كان صرف القدرة في أحدهما تعجيزاً عن الآخر؛ لأنّ زمن التعجيز ـ أي: زمن صرف القدرة في الضدّ الآخر ـ هو زمن القدرة، والعجز يأتي بعده مباشرة، أي: يأتي في زمان قد فات وقت كلا الضدّين، فلا يبقى معنى للتعجيز أصلا.

على أنّه لو فُرض استناد ترك أحد الضدّين إلى فعل الضدّ الآخر؛ لكونه مفوّتاً للقدرة على الضدّ المتروك، وتوقّف فعل أحد الضدّين على ترك الآخر؛ لأنّه تركٌ للمفوّت، لزم الدور.

أمّا لو لم يكونا متعاصرين، فمن الواضح أنّ القدرة حينما تضيق عن الجمع بين عملين طوليّين زماناً، يكون صرفها في الأوّل مفوّتاً للقدرة على الثاني ومعجّزاً عنه، ولا يلزم من ذلك شيء من المحذورين، لا محذور عدم تصوّر معنى للتعجيز، ولا محذور الدور:

أمّا الأوّل، فلأنّ العجز يتحقّق في الزمان الثاني، وهو زمان العمل الثاني.

وأمّا الثاني، فلأنّ إشكال الدور تارة: يُقصد تطبيقه على الضدّين الطوليّين بأن يقال: لو كان فعل الأوّل مفوّتاً للثاني، وكان في نفس الوقت متوقّفاً على الثاني لزم الدور.

وجوابه: أنّ التوقّف هنا من طرف واحد؛ فإنّ صرف القدرة في المتقدّم تعجيزٌ عن المتأخّر، ولا يعقل العكس، بأن يكون صرف القدرة في المتأخّر تعجيزاً عن المتقدّم، فلا دور.

واُخرى: يُقصد تطبيقه على الضدّ الأوّل مع حفظ القدرة للضدّ الثاني، فيقال: إنّ الضدّ الأوّل مع حفظ القدرة ضدّان عرضيّان، ولو كان كلّ واحد منهما متوقّفاً على ترك الآخر لزم الدور.

220

ـ كما قلنا ـ أمرٌ عدميّ ملازم لهذا الجامع، وليس عين هذا الجامع، والملازمة تكون بنكتة كونهما معلولين لشيء واحد، لا بنكتة كون فعل المهمّ ـ مثلا ـ علّة لفوات القدرة، حتّى يقال أيضاً بحرمة فعل المهمّ بناءً على حرمة علّة الحرام.

وأمّا الصورة الرابعة، وهي فرض الأمر بالمهمّ مشروطاً بالعزم على ترك الأهمّ، فقد عرفت أنّه أشكل عليه بعدم صحّة الترتّب بالتقيّد بالعزم على ترك الأهمّ، بل يجب أن يكون متقيّداً بالترك، لا بالعزم عليه.

إلاّ أنّنا قد بنينا على أنّه لا بأس بتقييد الأمر بالمهمّ بالعزم على ترك الأهمّ، فهنا بالإمكان: الأمر بالمهمّ مشروطاً بالعزم على ترك حفظ القدرة مثلا.

المورد الثالث: هو ما إذا توقّف فعل الواجب على الحرام، وتقدّم على الحرام بالأهمّيّة، كما لو توقّف إنقاذ الغريق على المشي في الأرض المغصوبة. وقد اختار


والجواب: أنّ الدور إنّما يلزم لو قلنا بأنّ نفس التضادّ نكتة لتوقّف أحدهما على الآخر، فيقال: إنّ هذه النكتة مشتركة بينهما، فيلزم التوقّف من كلا الطرفين، وهذا يوجب الدور. لكنّ التوقّف في المقام ليس بنكتة التضادّ بين الضدّ الأوّل وحفظ القدرة، وإنّما هو بنكتة ضيق القدرة عن الجمع بين الضدّ الأوّل والضدّ الثاني الطوليّ، فيكون صرف القدرة في الأوّل تعجيزاً عن الثاني لا محالة، ونفياً لحفظ القدرة. وهذه النكتة إنّما تقتضي توقّف حفظ القدرة على ترك الضدّ الأوّل، ولا تقتضي توقّف الضدّ الأوّل على ترك حفظ القدرة حتّى يلزم الدور.

فالمهمّ في حلّ المشكل في المقام إنّما هو: أنّ الواجب الأوّل يعلّق وجوبه على ترك الواجب الثاني، ولا محرّكيّة ذاتيّة لوجوب حفظ القدرة بقطع النظر عن وجوب الثاني، حتّى تمنع عن الواجب الأوّل رغم فرض ترك الثاني، وإنّما المهمّ محرّكيّة وجوب الواجب الثاني، وقد فرض حلّ إشكالها بالترتّب بينهما.

221

المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في هذا المورد إمكان الترتّب(1).

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّنا إمّا أن نقول بعدم وجوب مقدّمة الواجب أصلا، أو نقول بوجوبها مع اختصاص وجوبها أو إمكان اختصاصه بالموصلة، أو نقول بوجوبها مع عدم إمكان اختصاص وجوبها بالموصلة:

فإن قلنا بعدم وجوب مقدّمة الواجب، إذن لا يوجد في المقام إلاّ حكمان: أحدهما وجوب ذي المقدّمة الأهمّ، والثاني حرمة المقدّمة المهمّ. وحرمة المقدّمة لا تشمل المقدّمة الموصلة حتماً؛ لأنّ هذه الحرمة تزاحم بالأهمّ، وهو وجوب ذي المقدّمة، فيكون الانشغال بالأهمّ رافعاً لحرمتها لا محالة. ولا ينبغي الإشكال في حرمة المقدّمة غير الموصلة في الجملة؛ لعدم أداء حرمتها إلى فوت مزاحم أهمّ.

يبقى الكلام في أنّه هل يؤخذ قيد عدم الإيصال قيداً في الحرمة، فيتمّ الحكم الترتّبيّ، فكأنّ المولى يقول: لو تركت ذا المقدّمة الأهمّ فالمقدّمة محرّمة عليك، أو يؤخذ قيداً في الحرام، أي: أنّ المقدّمة غير الموصلة حرام بالفعل حرمةً في عرض وجوب ذي المقدّمة، لا مترتّبةً على ترك ذي المقدّمة، فهذه ليست حرمة ترتّبيّة؟

الصحيح هو الثاني، لا لاستحالة الترتّب هنا(2) في نفسه، بل لأنّه لا داعي إلى


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 383 ـ 391 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 320 ـ 326.

(2) الترتّب في روح الحكم وواقعه غير معقول في باب المحرّمات؛ فإنّ الحرمة ـ ولو فُرضت في صياغتها الإنشائيّة مشروطة ـ هي في روحها حرمة منجّزة للحصّة.

توضيح ذلك: أنّه مضى في الأبحاث السابقة أنّ الأمر المشروط في روحه أمرٌ بالجامع بين المأمور به وعدم الشرط، فكذلك نقول هنا: إنّ النهي المشروط يكون في روحه نهياً

222

أخذ قيد الترتّب في المقام؛ فإنّ مجرّد أخذ عدم الإيصال قيداً في الحرام يرفع محذور التزاحم، ولو اُخذ ذلك قيداً في الحرمة، فبالتالي يُقيَّد الحرام به أيضاً؛ لأنّ قيد الحكم يقيّد المتعلّق أيضاً لا محالة. إذن، فالمتيقّن هو تقيّد الحرام بعدم الإيصال، أمّا احتمال تقيّد الحرمة به فينفى بإطلاق الهيئة. هذا.

وفرض حرمة المقدّمة غير الموصلة ـ بنحو إرجاع القيد إلى المتعلّق ـ يمتاز عن فرض الحكم الترتّبيّ بأنّه يمكن امتثالها في عرض امتثال ذي المقدّمة، وذلك


عن الجمع بين المنهيّ عنه والشرط، وهذا عبارة اُخرى عن نهي تنجيزيٍّ عن المجموع. أو قل: عن الحصّة المقيّدة بالشرط.

وكان في باب الأمر يختلف الأمر بالجامع بين المأمور به وعدم الشرط في روحه، عن الأمر بالحصّة المقيّدة بالشرط، من ناحية أنّ الأمر بالجامع لا يتطلّب منه أن يوجِد الشرط ثمّ المأمور به، بل بإمكانه أن يترك الشرط فيترك الجزاء.

وهذا بخلاف ما لو اُمر بالحصّة المقيّدة بالشرط، فإنّ هذا يتطلّب منه أن يوجد الشرط ويوجد الجزاء.

وأمّا في جانب النهي، فحيث إنّه رجع في روحه إلى النهي عن الجمع بين المنهيّ عنه والجزاء، والحصّة المقيّدة تسبّب هذا الجمع، فلا محالة تكون الحصّة المقيّدة مبغوضة بالفعل، من دون أن يبقى أيّ فرق واقعيّ في روح الأمر بين جعل الشرط قيداً للمادّة أو للهيئة. نعم، في عالم الإنشاء يمكن فرض تقييد الهيئة وفرض إطلاقها، إلاّ أنّه لا قيمة لذلك في واقع الأمر، ولا تجري أيضاً مقدّمات الحكمة لإثبات إطلاق من هذا القبيل.

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّه في باب المحرّمات يرجع دائماً شرط الاتّصاف بالملاك، إلى فعليّة اتّصاف الحصّة بالملاك. أو قل: فعليّة اتّصاف مجموع الحرام والشرط بالملاك، كما أنّ شرط اتّصاف الواجب بالملاك يرجع دائماً إلى فعليّة اتّصاف الجامع بين الجزاء وعدم الشرط بالملاك.

223

بأن يأتي بالمقدّمة وبذيها، فيكون قد امتثل ذا المقدّمة، وامتثل في نفس الوقت حرمة المقدّمة غير الموصلة؛ إذ قد ترك غير الموصل. فإشكال المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) على الأمر الترتّبيّ بأنّه يلزم منه في فرض ترك الأهمّ، الأمر بالضدّين مع عدم قدرة المكلّف على امتثالهما معاً، لو تمّ هناك لا يرد على هذا الحكم.

وإن قلنا بوجوب مقدّمة الواجب مع إمكان اختصاص الوجوب بالموصلة، فأيضاً يكون الكلام نفس الكلام؛ إذ بالإمكان حرمة المقدّمة غير الموصلة في عرض وجوب ذي المقدّمة؛ إذ لا هي مفوّتة للأهمّ، ولا هي معارضة بوجوب المقدّمة؛ لإمكان اختصاصها بالموصل، وهذه الحرمة أيضاً تمتاز بنفس الامتياز الماضي، لإمكان امتثال كلا الحكمين جمعاً.

وأمّا إن قلنا بوجوب مقدّمة الواجب، وقلنا في نفس الوقت بمقالة المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من عدم إمكان تخصيص الوجوب بالموصل، فلا يمكن فرض حرمة المقدّمة غير الموصلة مع فرض وجوب المقدّمة، سواءً فرضناها حرمة ترتّبيّة أو حرمة عرضيّة، بأن كان عدم الإيصال قيداً في الحرام لا في الحرمة، فإنّه على أيّ حال يلزم اجتماع الوجوب والحرمة على مصبّ واحد، وهذا مرجعه إلى باب التعارض، ولا معنى للترتّب فيه.

ولا يمكن أن يقال ـ لتصحيح الترتّب ـ بأنّ وجوب المقدّمة في عرض وجوب ذيها؛ لأنّهما مشتقّان من ملاك واحد، والحكم الترتّبيّ بحرمة المقدّمة يكون في مرتبة متأخّرة من الأمر بذي المقدّمة؛ لكونه مترتّباً على مخالفته بحسب الفرض، فهو في مرتبة متأخّرة عن وجوب المقدّمة أيضاً، فلا تنافي بينهما(1).


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 386 ـ 389 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 324 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

224

فإنّه يرد عليه:

أوّلا: النقاش في الصغرى؛ إذ لئن صحّ أنّ وجوب المقدّمة في عرض وجوب ذيها، وأنّ الأمر الترتّبيّ في مرتبة متأخّرة من الأمر الآخر الذي ترتّب هذا على مخالفته، فهذا لا ينتج أنّ الحكم بحرمة المقدّمة في مرتبة متأخّرة عن الحكم بوجوبها؛ إذ ليس كلّ ما كان متأخّراً رتبةً عن أحد العرضيّين فهو متأخّر عن الآخر.

وثانياً: النقاش في الكبرى؛ لما مضى من أنّ مجرّد تعدّد الرتبة لا يرفع محذور اجتماع الضدّين.

المورد الرابع: ما إذا وقع التلازم بين الواجب والحرام، وعندئذ إن كان التلازم بين معصية أحدهما وامتثال الآخر ثابتاً من الطرفين، أي: كما أنّ امتثال أحدهما يستلزم عصيان الآخر، كذلك عصيان أحدهما يستلزم امتثال الآخر، فلا محالة يبطل الترتّب؛ لأنّه عند معصية أحدهما يكون امتثال الآخر ضروريّاً، فلا معنى للأمر به(1).

وهذا راجع إلى فقدان الشرط الثاني من الشرطين اللذين ذكرناهما لإمكانيّة الترتّب.

أمّا إذا لم يكن التلازم من الطرفين فالترتّب معقول، ولكن لا داعي له؛ لما مضى في المورد الثالث من إمكان إرجاع القيد إلى الحرام وكفاية ذلك في حلّ الإشكال.

فتحقيق الكلام في كلّ موارد تزاحم الواجب مع الحرام ـ سواءً كان على


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 392 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 392 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

225

أساس مقدّميّة الحرام للواجب، أو على أساس التلازم بينهما ـ هو: أنّه لا توجد هنا حرمة مترتّبة على ترك الواجب، بل هناك حرمة فعليّة لتلك الحصّة من الحرام المقترنة بترك الواجب.

ولا يقال: إنّه لا مبرّر للالتزام بالحرمة الفعليّة؛ فإنّه إن قُصد بذلك أنّ ترك الواجب من شروط اتّصاف الفعل بالمفسدة، وشرط الاتّصاف يجب أن يكون قيداً للحكم لا للمتعلّق، فهو غير صحيح؛ فإنّ مفسدة الحرام ثابتة على كلّ حال، ولم تكن مشروطة بترك الواجب، وإن قدّمنا عليه الواجب بالأهمّيّة.

وإن قُصد بذلك أنّه لابدّ من تقيّد الحرمة بفرض ترك الواجب دفعاً للتزاحم، فهذا أيضاً غير صحيح؛ فإنّه يكفي في دفع التزاحم تقييد الحرام به؛ إذ بإمكانه حينئذ أن يمتثل كلا الحكمين، بأن يفعل الواجب ويترك الحرام المقترن بترك الواجب. بينما لم يكن يُعقل ذلك في الواجبين؛ فإنّه لو قيّد الواجب المهمّ بترك الأهمّ لا وجوبه، كان هذا تأكيداً للتزاحم لا علاجاً له؛ إذ يكون ذلك طلباً لترك الأهمّ، بينما هو يطلب فعل الأهمّ.

وإن قُصد بذلك أنّه كما يمكن علاج التزاحم بتقييد الحرام، كذلك يمكن علاجه بتقييد الحرمة، فلا معيّن للأوّل، قلنا: يوجد هنا معيِّن إثباتيّ له مطلقاً، ومعيِّن ثبوتيّ على تقدير القول باستحالة الترتّب:

أمّا المعيّن الإثباتيّ فهو إنّ قيد الحرمة قيدٌ للحرام لا محالة؛ إذ لا يعقل تقيّد الحرمة بفرض ترك الواجب ـ مثلا ـ مع أن يكون الحرام في نفس الوقت شاملا للحصّة المقترنة بفعل الواجب. إذن، فتقييد الحرام متيقّن، وتقييد الحرمة مشكوك يُنفى احتماله بالإطلاق.

وأمّا المعيّن الثبوتيّ بناءً على استحالة الترتّب فهو: إنّ برهان الاستحالة يبطل الحرمة الترتّبيّة في المقام، ولا يبطل فرض حرمة الحصّة المقترنة بترك الواجب؛

226

لإمكان الجمع بينهما وبين الأمر بالواجب في الامتثال، فبراهين المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)لإبطال الترتّب في الواجبين لا تأتي في المقام.

ومن هنا ذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله) محاولة في الواجبين، بإرجاع الأمر بالمهمّ إلى حرمة الترك، أو بتعبيره(رحمه الله) إلى سدّ باب العدم، حتّى يمكن التبعيض، فيفرض تحريم الترك المقترن بترك الأهمّ، أو وجوب سدّ هذا الباب من العدم، من دون أن يرد عليه إشكال الترتّب(1).

إلاّ أنّ هذا في الواجبين وإن كان معقولا، لكنّه بحسب الإثبات لا يساعد عليه ظاهر الدليل؛ إذ هو لم يدلّ إلاّ على الأمر بفعل المهمّ الذي ـ بحسب الفرض ـ لا يمكن أن يجتمع مع الأمر بالأهمّ.

المورد الخامس: مورد اجتماع الأمر والنهي بعنوانين مع عدم المندوحة، بناءً على إمكان اجتماعهما، أمّا بناءً على الاستحالة فهو راجع إلى التعارض.

وتحقيق الحال في ذلك: أنّ جواز اجتماع الأمر والنهي يبتني على أحد مبنيين:


(1) راجع المقالات، ج 1 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ص 343 ـ 344، ونهاية الأفكار، ج 1 ـ 2 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، ص 367 ـ 373 إلاّ أنّ هذا التفسير لكلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله)لا ينسجم مع عبائره. وقد مضى منّا ـ في تعليق لنا على بحث الجهة الثامنة من جهات البحث في الترتّب ـ بيانٌ آخر لما يقوله الشيخ العراقيّ(رحمه الله)، وذاك البيان الآخر هو صريح المقالات بل ونهاية الأفكار، ما عدا جملة وردت متكررّة في نهاية الأفكار توهم التفسير الذي ذكره اُستاذنا(رحمه الله) هنا، ومفاد تلك الجملة هو: توصيف الإيجاب الناقص بالذي لا يقتضي إلاّ المنع عن بعض أنحاء تروكه، وهو الترك في حال ترك الآخر، وهذه الجملة وإن كانت توهم هذا المعنى، ولكنّها حينما تجعل ضمن باقي عبائره يعرف أنّ المقصود ما ذكرناه في الجهة الثامنة من بحث الترتّب، لا ما ذكره اُستاذنا(رحمه الله) هنا، فراجع.

227

الأوّل: أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد الوجود الخارجيّ.

والثاني: أنّ تعدّد العنوان يكفي في رفع غائلة اجتماع الضدّين، بالرغم من وحدة الفرد الخارجيّ؛ وذلك لأنّ الأحكام تقف على العناوين ولا تسري إلى الأفراد.

فإن بنينا على المبنى الأوّل كان هذا من تلازم الواجب والحرام الذي مضى الكلام فيه في المورد الرابع، وليست فيه نكتة جديدة يمتاز بها عن سائر موارد تلازم الواجب والحرام. وإن بنينا على المبنى الثاني انفتح هنا باب جديد لامتناع الترتّب بالأمر بالواجب على تقدير الإتيان بالحرام، وذلك بأحد تقريبين:

التقريب الأوّل: أن يقال بما نقلناه عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في المورد الثاني: من أنّ معصية الحكم المترتّب عليه إمّا أن تكون بامتثال الحكم المترتّب، أو بفعل آخر يضادّه، فغصبه للمكان مثلا: إمّا يكون بالصلاة، أو بفعل آخر يضادّ الصلاة، فعلى الأوّل لا معنى للأمر بالصلاة؛ لأنّها مفروضة الحصول، وعلى الثاني أيضاً لا معنى للأمر بالصلاة؛ لأنّها ممتنعة على هذا التقدير(1).

ولكن قد عرفت عدم صحّة ذلك؛ فإنّ الأمر بالصلاة إنّما يتقيّد بالجامع بين الصلاة وغيرها، والتقيّد بالجامع لا يوجب التقيّد بالخصوصيّات، فلا هو مقيّد بالصلاة حتّى يلزم طلب الحاصل، ولا بما يضادّ الصلاة حتّى يلزم طلب المحال.

التقريب الثاني: أن يقال بأنّ الجامع بين الصلاة وغير الصلاة هو جزء من الصلاة، فهي طبعاً مركّبة من الجامع وخصوصيّته الصلاتيّة، وحيث إنّه مفروض الحصول ـ لتقيّد الأمر به ـ إذن، لا يقع تحت الطلب. وعليه فالأمر بالصلاة المقيّد


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، الطبعة الماضية، ص 326 ـ 327، وفوائد الاُصول، ج 1، الطبعة الماضية، ص 392.

228

بالجامع ينصرف إلى الخصوصيّة فقط، بينما هذا خلاف ظاهر الأمر بالصلاة؛ فإنّ ظاهره هو الأمر بالجامع المتخصّص لا بالخصوصيّة، فالترتّب مع الحفاظ على ما هو المستفاد من دليل الأمر بالصلاة غير معقول؛ إذ لو اُبقي الجامع تحت الطلب فمع تقييد الأمر بحصول الجامع يلزم طلب الحاصل، ومع عدم تقييده يلزم طلب الجمع بين الصلاة وترك الغصب، وهو محال بحسب الفرض، ولو لم نُبق الجامع تحت الطلب كان هذا أمراً آخر غير ما دلّ عليه دليل الأمر بالصلاة.

ويرد عليه:

أوّلا: أنّ الأمر بالجامع الثابت عند الأمر بالصلاة، إنّما هو أمر ضمنيّ، والأمر الضمنيّ تحصيله ضمنيّ، وحصول الجامع الذي قُيِّد به الأمر هو حصولٌ استقلاليّ، وتعلّق التحصيل الضمنيّ بالمتحصّل الاستقلاليّ ليس مستحيلا، وإنّما المستحيل تعلّق التحصيل الاستقلاليّ بالمتحصّل الاستقلاليّ، أو تعلّق التحصيل الضمنيّ بالمتحصّل الضمنيّ.

وثانياً: أنّ ما يفهمه العرف من الأمر بالصلاة ليس هو خصوص طلب الجامع المتخصّص، بل ينسجم مع طلب الخصوصيّة أيضاً، فإنّه عند طلب الخصوصيّة يكون الخطاب بالجامع المتخصّص أمراً عرفيّاً أيضاً، فعدم معقوليّة الأمر بالجامع المتخصّص ـ سواءً فُرضت لأجل استحالة طلب الحاصل، أو لأجل لغويّته ـ لا تأتي في المقام؛ لانسجامه عرفاً مع فرض كون المطلوب الواقعيّ هو الخصوصيّة.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّه لا يشترط في إمكان الترتّب عدا شرطين:

أحدهما: عدم كون المترتّب المهمّ مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، بمعنى عدم توجّه خطاب مزاحم إليه.

والثاني: عدم كون ترك الأهمّ مستلزماً لفعل المهمّ.

نعم، اتّضح ممّا مضى منّا ـ في المورد الثالث والرابع ـ أنّنا لا نقول في موارد تزاحم الواجب مع الحرام بالترتّب، لا للاستحالة، بل لعدم مبرّر له.

229

 

التزاحم بين الواجبين الضمنيّين:

الأمر الثاني: في أنّه هل يتصوّر التزاحم المستقلّ عن التعارض بين واجبين ضمنيّين، كما يتصوّر بين الاستقلاليّين، أو لا؟

فقد يقال: إنّ الواجبين الضمنيّين حالهما حال الاستقلاليّين، حيث إنّ كلّ واحد منهما في ذاته قد تعلّق به الخطاب، من دون أيّ منافاة بينه وبين الخطاب بالآخر في ذاته، وإنّما تنشأ المشكلة من ضيق في قدرة المكلّف وعجز ـ صدفةً ـ عن الجمع بينهما، كما أنّه في الواجبين الاستقلاليّين أيضاً كانت المشكلة مشكلة الضيق في قدرة المكلّف.

وقد ذهب إلى ذلك ـ أي: إلى تصوير التزاحم، وعدم رجوعه إلى التعارض في الواجبين الضمنيّين ـ المحقّق النائينيّ(رحمه الله). وذهب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى عدم تصوير التزاحم بين واجبين ضمنيّين، ورجوعه إلى التعارض.

ونحن نذكر هنا صيغاً أربع فنّيّة لإثبات عدم تصوير التزاحم بين واجبين ضمنيّين، ثمّ نذكر شبهة يُهدف من ورائها إبطال كلّ تلك الصيغ، وإثبات تصوير التزاحم في الواجبين الضمنيّين، ثمّ ندرأ تلك الشبهة بتعميق تلك الصيغ، وبذلك ننتهي إلى القول بعدم تصوير التزاحم بين واجبين ضمنيّين وفاقاً للسيّد الاُستاذ دامت بركاته:

الصيغة الاُولى: أن يقال: إنّه بحسب الحقيقة لا يوجد إلاّ أمر واحد بمجموع الأجزاء، وإن كان ينحلّ بالتحليل العقليّ إلى أجزاء بعدد أجزاء الواجب. وهذا الأمر الواحد لا محالة يسقط بالعجز عن متعلّقه، سواءً كان ذلك بالعجز عن جميع الأجزاء، أو بالعجز عن مجموعها، باعتبار العجز عن أحدها المعيّن، أو باعتبار العجز عن أحدها غير المعيّن، أي: العجز عن الجمع بين جزءين مثلا، فإنّه على كلّ