229

 

التزاحم بين الواجبين الضمنيّين:

الأمر الثاني: في أنّه هل يتصوّر التزاحم المستقلّ عن التعارض بين واجبين ضمنيّين، كما يتصوّر بين الاستقلاليّين، أو لا؟

فقد يقال: إنّ الواجبين الضمنيّين حالهما حال الاستقلاليّين، حيث إنّ كلّ واحد منهما في ذاته قد تعلّق به الخطاب، من دون أيّ منافاة بينه وبين الخطاب بالآخر في ذاته، وإنّما تنشأ المشكلة من ضيق في قدرة المكلّف وعجز ـ صدفةً ـ عن الجمع بينهما، كما أنّه في الواجبين الاستقلاليّين أيضاً كانت المشكلة مشكلة الضيق في قدرة المكلّف.

وقد ذهب إلى ذلك ـ أي: إلى تصوير التزاحم، وعدم رجوعه إلى التعارض في الواجبين الضمنيّين ـ المحقّق النائينيّ(رحمه الله). وذهب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى عدم تصوير التزاحم بين واجبين ضمنيّين، ورجوعه إلى التعارض.

ونحن نذكر هنا صيغاً أربع فنّيّة لإثبات عدم تصوير التزاحم بين واجبين ضمنيّين، ثمّ نذكر شبهة يُهدف من ورائها إبطال كلّ تلك الصيغ، وإثبات تصوير التزاحم في الواجبين الضمنيّين، ثمّ ندرأ تلك الشبهة بتعميق تلك الصيغ، وبذلك ننتهي إلى القول بعدم تصوير التزاحم بين واجبين ضمنيّين وفاقاً للسيّد الاُستاذ دامت بركاته:

الصيغة الاُولى: أن يقال: إنّه بحسب الحقيقة لا يوجد إلاّ أمر واحد بمجموع الأجزاء، وإن كان ينحلّ بالتحليل العقليّ إلى أجزاء بعدد أجزاء الواجب. وهذا الأمر الواحد لا محالة يسقط بالعجز عن متعلّقه، سواءً كان ذلك بالعجز عن جميع الأجزاء، أو بالعجز عن مجموعها، باعتبار العجز عن أحدها المعيّن، أو باعتبار العجز عن أحدها غير المعيّن، أي: العجز عن الجمع بين جزءين مثلا، فإنّه على كلّ

230

تقدير قد أصبح متعلّق الأمر غير مقدور، فقد سقط الأمر.

فإن لم نكن نعلم من الخارج بتوجّه أمر آخر إلينا بعد سقوط الأمر بتمام الأجزاء، إذن لا يثبت أيّ وجوب آخر علينا. وإن علمنا من الخارج بذلك، كما في الصلاة ـ حيث إنّ الصلاة لا تترك بحال ـ فنبقى مردّدين بين أن نكون مأمورين بالمشتمل على الجزء الأوّل من الجزءين اللذين عجزنا عن الجمع بينهما، أو بالمشتمل على الجزء الثاني، أو بالجامع بينهما، وعلى كلّ تقدير لا يوجد أمران ضمنيّان يقع التزاحم بينهما، فإن فُرض أنّ دليل جزئيّة الجزء الأوّل للصلاة كان منفصلا عن دليل جزئيّة الجزء الثاني لها، وقع التعارض بينهما بعد أن عرفنا أنّ الصلاة لا تترك بحال.

الصيغة الثانية: أن يقال: إنّ الجزءين اللذين عجزنا عن أحدهما: لا يخلو الأمر في هذا الحال عن أن يكونا معاً دخيلين في ملاك الصلاة مثلا، أو أن يكون الجامع بينهما دخيلا في ملاكها، أو أن يكون أحدهما المعيّن دخيلا فيه، أو أن لا يكون شيء منهما دخيلا فيه:

فعلى الأوّل يتعيّن عدم وجوب الصلاة؛ لعدم إمكان تحصيل ملاكها. وعلى الثاني يتعيّن ثبوت الأمر بالجامع، وعلى نحو التخيير بين الفردين. وعلى الثالث يتعيّن الأمر بذاك الجزء الدخيل معيّناً. وعلى الرابع يتعيّن الأمر بما عدا الجزءين. وعلى أيّ تقدير لا يوجد هنا أمران ضمنيّان متزاحمان وفعليّتان متطاردتان.

الصيغة الثالثة: أن يقال: إنّ الأمر الضمنيّ بأحد الجزءين إن كان مشروطاً بترك الجزء الآخر ـ على ما هو المفروض الذي على أساسه تصوّرنا التزاحم مستقلاًّ عن التعارض: من أنّ الواجب يكون مشروطاً بالقدرة التي تحصل بترك الآخر ـ كان هذا الشرط شرطاً للأمر الاستقلاليّ بالأجزاء العشرة مثلا؛ لأنّ الأمر الضمنيّ بحكم ضمنيّته لا تكون مشروطيّته إلاّ في ضمن مشروطيّة الأمر الاستقلاليّ،

231

وليس له موضوع مستقلّ عن موضوع الأمر الاستقلاليّ، وإلاّ لأصبح أمراً استقلاليّاً. فإذا كان الأمر الضمنيّ الآخر أيضاً مشروطاً بترك هذا الجزء، كان معنى ذلك أيضاً أنّ الأمر الاستقلاليّ مشروط بذلك، و هذا ينتج الأمر بالأجزاء العشرة مشروطاً بترك الجزءين منها، وهذا كماترى غير معقول.

الصيغة الرابعة: أن يقال: إنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يشرط أحدهما بترك الآخر، لو أنّ المكلّف تركهما معاً أصبح كلاهما فعليّاً؛ ولهذا قال منكر الترتّب: بأنّ ذلك غير معقول؛ لعدم القدرة على الإتيان بهما معاً. وأجاب القائل بصحّة الترتّب: بأنّ كلّ واحد من الأمرين وحده ليس طلباً للجمع الذي هو غير مقدور؛ إذ لم يتعلّق إلاّ بأحدهما، والجمع بين الأمرين لا ينتج طلب الجمع؛ لأنّ أحدهما مشروط بترك الآخر.

فإذا أردنا أن نطبّق هذه الفكرة ـ أعني: فعليّة الأمرين عند الترك ـ في المقام، كان معنى ذلك أنّه لو ترك كلا الجزءين فقد أصبح كلا الأمرين فعليّاً، وبما أنّ الأمرين ضمنيّان كان معنى ذلك تعلّق أمر واحد بمجموع الجزءين، وهذا طلب للجمع بعنوانه. بينما في الأمرين الاستقلاليّين لم يكن يلزم ذلك؛ لأنّ مرجع الأمرين لم يكن إلى أمر واحد بالمجموع؛ لأنّ المفروض استقلال كلٍّ من الأمرين عن الآخر.

هذه هي الصيغ الفنّيّة الأربع لإثبات عدم إمكان التزاحم بين واجبين ضمنيّين.

إلاّ أنّ هناك شبهة تقول: بالإمكان أن نفترض فرضيّة، وهي أن يكون الأمر المتعلّق بالصلاة غير متعلّق من أوّل الأمر بالأجزاء العشرة ـ مثلا ـ بهذا العنوان، بل يكون متعلّقاً بعنوان ما هو مقدور من تلك الأجزاء العشرة، وهذا عنوان مطّاط، فحينما تكون كلّ الأجزاء مقدورة ينطبق على كلّ الأجزاء، وحينما يكون جزء معيّن منها غير مقدور ينطبق على مجموع الأجزاء الباقية، وحينما يكون أحد

232

الجزءين غير مقدور، فترك المكلّف لأحدهما يحقّق القدرة على الجزء الآخر. وبهذه الفرضيّة يمكن الإجابة على كلّ الصيغ الأربع:

أمّا الصيغة الاُولى، وهي: أنّ هناك أمراً واحد متعلّقاً بمجموع الأجزاء العشرة، وقد سقط بالعجز عن مجموعها، فلا يبقى إلاّ احتمال أمر جديد، وهو شكٌّ في أصل الجعل، وأين هذا من التزاحم الذي يعني العلم بأصل الجعل، والدوران في مرحلة الفعليّة؟

فجوابها: أنّه بناءً على تلك الفرضيّة لم يكن الأمر متعلّقاً بمجموع الأجزاء العشرة بعنوانها، حتّى يكون ساقطاً بالعجز عنها، وإنّما كان الأمر متعلّقاً بما هو المقدور منها، وهذا الأمر لا يزال باقياً، وقد وقع التزاحم في داخله بين أمرين ضمنيّين؛ حيث إنّ ترك أيّ واحد من الجزءين يحقّق القدرة على الجزء الآخر، التي بها يتّجه الأمر الضمنيّ إلى ذلك الجزء الآخر. وهذا تماماً كالواجبين المستقلّين اللذين يكون ترك كلّ واحد منهما محقّقاً للقدرة على الآخر وفعليّة الأمر به، فأصل الجعل معلوم والدوران يكون في مرحلة الفعليّة.

وأمّا الصيغة الثانية، وهي: أنّه لو كان كلّ واحد من الجزءين دخيلا في الملاك، إذن لا يمكن تحصيل الملاك. ولو كان الجامع دخيلا أو أحدهما دخيلا، فالواجب هو الجامع أو أحدهما. ولو لم يكن شيء منهما دخيلا فالواجب هو الباقي.

فالجواب على ذلك: أنّنا نختار الشقّ الأوّل، وهو أنّ كلّ واحد منهما دخيل في الملاك لكنّه مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، فدخل كلّ واحد منهما في الملاك مقيّد بعدم الانشغال بالآخر، فلا يلزم من ذلك عدم إمكان تحصيل الملاك.

وأمّا الصيغة الثالثة، وهي: أنّ شرط الوجوب الضمنيّ شرطٌ للوجوب الاستقلاليّ، فيلزم الأمر بالأجزاء العشرة مشروطاً بترك جزءين منها.

فجوابها: أنّ هذا إنّما يلزم لو فُرض ترك أحد الجزءين قيداً لوجوب الجزء

233

الآخر، لكنّ المفروض كونه قيداً للواجب؛ حيث إنّ الوجوب تعلّق بالأجزاء المقدورة، فترك أيّ واحد من الجزءين يؤدّي إلى انطباق هذا العنوان على الجزء الآخر، فيكون هو الواجب، من دون أن يكون ترك ذاك الجزء شرطاً للوجوب، كي يرجع إلى اشتراط وجوب الأجزاء العشرة به.

وأمّا الصيغة الرابعة، وهي: أنّه مع ترك كليهما يتعلّق الأمر بهما، لفعليّة كلا الشرطين، وبما أنّ كلاًّ منهما واجب ضمنيّ، فهناك أمر واحد متعلّق بهما معاً، وهذا معناه طلب الجمع بعنوانه.

فالجواب: أنّ القدرة ـ التي هي شرط في المقام ـ ليست فقط بمعنى ترك المزاحم، بل بمعنى القدرة التكوينيّة أيضاً، وهو تكويناً غير قادر على الجمع، فلم يتعلّق الأمر بهما جمعاً، وإنّما تعلّق بالمقدار المقدور الذي لا ينطبق ـ في دائرة هذين الجزءين ـ على أزيد من أحدهما.

فتحصّل بهذا أنّ التزاحم بين الواجبين الضمنيّين معقول.

إلاّ أنّ هذا نوع تزاحم لا يجري فيه شيء من مرجّحات باب التزاحم.

أمّا الترجيح بالقدرة العقليّة فلا مجال له في المقام؛ إذ لابدّ في المقام من أن تكون القدرة في كلا الجزءين شرعيّة؛ إذ لو كانت عقليّة في كليهما، بأن كان كلّ منهما غير دخيل في الملاك ـ وحتّى القدرة بمعنى عدم الانشغال بالآخر ـ لزم العجز عن تحصيل الملاك، وسقط الواجب رأساً. ولو كانت عقليّة في أحدهما دون الآخر لم يعقل الأمر بالآخر مطلقاً، أي: حتّى على تقدير ترك الجزء الأوّل؛ إذ على هذا التقدير لا يعقل حصول الملاك لفواته بترك الجزء الأوّل.

وأمّا الترجيح بالأهمّيّة فقد أثبتنا فيما مضى أنّه لا مجال له في المشروطين بالقدرة الشرعيّة، وقد عرفت أنّهما مشروطان بالقدرة الشرعيّة دفعاً للصيغة الثانية من صِيغ الإشكال على التزاحم بين الواجبين الضمنيّين.

234

وأمّا الترجيح بعدم البدل على ما له البدل، فقد عرفت أنّه يرجع بروحه إلى الترجيح بالأهمّيّة الذي لا مجال له في المقام.

وأمّا الترجيح بالتقدّم الزمانيّ: فإن قُصد بذلك تقدّم الوجوب، فمن الواضح عدم تأتّيه هنا؛ إذ الوجوبات الضمنيّة متعاصرة حتماً؛ لكونها أجزاء لوجوب واحد. وإن قُصد بذلك تقدّم الواجب، فأيضاً لا معنى للترجيح بالتقدّم مع افتراض أمرين متزاحمين؛ إذ على فرض تعيّن الإتيان بالمتقدّم لا يُعقل الأمر بالمتأخّر مطلقاً، أي: حتّى على تقدير ترك الأوّل؛ إذ على تقدير ترك الأوّل فقد فات الملاك حتماً. هذا.

والتحقيق: عدم معقوليّة التزاحم بين واجبين ضمنيّين؛ وذلك لأنّ القدرة إمّا أن يُفرض دخلها في كلّ واحد من الجزءين بنحو شرط الوجوب، أو يُفرض دخلها فيهما بنحو قيد الواجب؛ لأنّ الواجب هو المقدار المقدور، كما فُرض لدفع الإشكالات الأربعة. فإن فُرض الأوّل رجع الإشكال بكلّ الصيغ الأربع التي بيّنّاها. وإن فُرض الثاني قلنا: إنّه لا يتأتّى في المقام البيان الذي به استطعنا أن نتصوّر باب التزاحم بنحو يكون مستقلاًّ عن باب التعارض، وهو أنّ كلّ تكليف يكون مقيّداً ـ بقيد لبّيّ كالمتّصل ـ بعدم الانشغال بضدّ أهمّ أو مساو، فلا تعارض بين دليلي الحكمين؛ إذ لا إطلاق في كلّ واحد منهما لصورة الانشغال بالآخر لو كان مساوياً أو أهمّ.

أمّا في المقام فقد فُرض أنّ القيد قيد في الواجب لا في الوجوب، وهذا تصرّف في ظهور الدليلين؛ فإنّه إذا افترضنا دليلا دلّ على وجوب القيام مثلا، ودليلا آخر دلّ على وجوب القراءة، والمفروض العجز عن الجمع بينهما، وفُرض عدم تقيّد وجوب أحدهما بترك الآخر، ولكن فُرض تقيّد الواجب بذلك، فلا إشكال في أنّ هذا غير ذاك الذي اقتضاه المقيّد اللبّيّ، وإنّما هو تصرّف جديد في الدليلين، فلا محالة يقع التعارض بينهما بعد فرض العلم بعدم سقوط الصلاة ووجوب المقدار المقدور من أجزائها.

ولو سُلّم إمكان التزاحم بين الوجوبين الضمنيّين، فهو خارج عن مصبّ حاجة

235

الفقيه في مقام الاستنباط؛ وذلك لأنّ الفقيه حينما يتعامل مع دليلي الجزءين ـ لو كان لكلّ منهما دليل مستقلّ ـ فهو لا يتعامل مع ما يكون مفاده الوجوب الضمنيّ الذي هو جزء تحليليّ من الأمر بالكلّ، وإنّما الدليلان كلّ منهما يرشد إلى الجزئيّة، وحتّى لو كان بلسان الأمر فالأمر في الأجزاء والشرائط للمركّب الارتباطيّ إنّما هو إرشاد إلى الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والقاطعيّة. ولا توجد أيّ منافاة بين كون هذا جزء وذاك أيضاً جزء في عرض واحد، بالرغم من عدم القدرة على الجمع بينهما؛ إذ غاية ما يقتضيه ذلك سقوط الواجب، لا أنّ اجتماع جزئيّة هذا مع جزئيّة ذاك من المستحيلات، إذن لا مبرّر لوقوع التزاحم بينهما، فليكن هذا جزءاً وذاك جزءاً والواجب ساقطاً، فلو علمنا من الخارج بعدم سقوط الواجب وعدم جزئيّة أحدهما إجمالاً فلا محالة يقع التعارض بين الدليلين(1).

 

تطبيق قوانين التزاحم على مثال الحجّ والنذر:

الأمر الثالث: نتكلّم فيه في تطبيق قوانين باب التزاحم على مثال الحجّ والنذر، فلو نذر أو حلف قبل الاستطاعة أن يزور الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة، أو ما شابه ذلك ممّا يزاحم الحجّ فأيّهما يتقدّم؟


(1) هذا إذا كان دليل جزئيّة كلّ منهما مستقلاًّ عن الآخر. أمّا مع فرض الاتّصال وذكرهما في دليل واحد، فلا محالة يكون هذا الدليل مجملا. وأمّا لو استفيدت جزئيّة الجامع بينهما من مثل (الصلاة لا تترك بحال)، فهذا دليل آخر يؤخذ به بلا أيّ تزاحم أو تعارض. وخلاصة الكلام: أنّه لو سلّمنا وقوع التزاحم بين وجوبين ضمنيّين، فلا شغل للفقيه أصلا بالوجوبين الضمنيّين؛ لعدم تطلّب الوجوب الضمنيّ بوحده امتثالا، وإنّما له شغل بالجزئيّتين أو الشرطيّتين مثلا، ولا تزاحم بين الجزئيّتين أو الشرطيّتين، وإنّما الذي يتعقّل بين الجزئيّتين أو الشرطيّتين هو التعارض بين دليليهما.

236

الصحيح هو: تقدّم الحجّ. ونوضّح ذلك من ناحية المباني الاُصوليّة تاركين تفصيل الكلام عن الجوانب الفقهيّة للمطلب، فنقول: إنّه بالإمكان تقريب ما ذكرناه من تقدّم الحجّ بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أن نفترض أنّ القدرة في النذر عقليّة، وأن نفترض أنّ القدرة في الحجّ أيضاً عقليّة، وأن نفترض أنّ الحجّ أهمّ من النذر، أو محتمل الأهمّيّة، أو أنّ احتمال أهمّيّته أقوى. فإن تمّت هذه الفروض الثلاثة فلا إشكال في تقدّم الحجّ؛ لما مضى فيما سبق من كون الأهمّيّة واحتمال الأهمّيّة في أحد المتزاحمين المشروطين بالقدرة العقليّة من المرجّحات.

يبقى الكلام في إثبات هذه الفروض فنقول:

أمّا الفرض الأوّل: وهو افتراض أنّ القدرة في النذر عقليّة لا شرعيّة فلا يحتاج إلى برهان؛ إذ هو أسوء التقديرين بالنسبة لتقديم الحجّ، فإنّه لو فُرضت القدرة في النذر شرعيّة لكان تقديم الحجّ عليه أوضح.

وأمّا الفرض الثاني: وهو كون القدرة في الحجّ عقليّة، بمعنى عدم ثبوت دخل ترك الواجب الآخر في ملاكه، فلأنّه لا مبرّر لدعوى دخله في ملاكه إلاّ أخذ الاستطاعة في لسان الدليل، حيث قال الله تعالى: ﴿لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ بدعوى أنّ أخذ القدرة في لسان الدليل دليل على أنّها شرعيّة، إلاّ أنّ الاستطاعة لا تدلّ على أكثر من القدرة التكوينيّة، مع توسعتها لِما يُخرج العسر الشديد؛ لصدق عدم القدرة عرفاً عنده. فلو كانت القدرة دخيلة في الملاك فإنّما هي القدرة التكوينيّة بالمعنى العرفيّ الشامل لعدم العسر الشديد، لا عدم الانشغال بواجب آخر.

وقياسه بالوجدان في آية الوضوء، المحمول على ما يشمل مطلق المانع، بقرينة عطف المريض ـ على ما يقوله المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ في غير محله؛ لأنّ القرينة التي

237

ذكرها المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في آية الوضوء لو تمّت فهي غير موجودة في المقام؛ إذ لا يوجد هنا ذكر المريض في الآية.

على أنّ ذكر المريض أيضاً لا يدلّ على أكثر من إرادة معنى من عدم الوجدان ينسجم مع السفر والمرض معاً، ويكفي في ذلك فرض القدرة بمعنى يشمل عدم الحرج والضيق الشديدين اللذين قد يقترنان مع المرض، ولا وجه لحمل الوجدان في الآية على ما هو أوسع من ذلك ممّا يشمل عدم الانشغال بواجب آخر مضادّ له، أو عدم الخطاب بذلك.

هذا كلّه بغضّ النظر عن النصّ الخاصّ المفسِّر للاستطاعة في الآية بالزاد والراحلة. أمّا بالنظر إلى ذلك فمن الواضح عدم شمول الاستطاعة الدخيلة في الملاك ـ بمقتضى الآية ـ لعدم الانشغال بواجب آخر.

وأمّا الفرض الثالث: فهو المستظهر من الروايات الواردة في باب الحجّ في التشديد فيه، وكونه أحد أركان الإسلام، وكون تركه موجباً للكفر، ونحو ذلك ممّا لم يرد مثله في النذر، وهذا يوجب الجزم بأهمّيّة الحجّ أو احتمالها على الأقلّ(1).

الوجه الثاني: أنّ القدرة في النذر شرعيّة؛ لما ورد في الوجوبات التي يكون موضوعها جعل الإنسان، كالشرط والنذر واليمين والتجارة ونحو ذلك: من أنّ «شرط الله قبل شرطكم»، إذن فقد اُخذ في موضوعه أن لا ينافي شرطاً من شروط الله، بينما القدرة في الحجّ عقليّة؛ لما عرفت. والمشروط بالقدرة العقليّة مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة، على ما مضى توضيح ذلك في مرجّحات التزاحم.


(1) جاء في كتاب السيّد الهاشميّ حفظه الله: إنّ هذا الوجه للترجيح يتمّ حينما يكون طرف المزاحمة للنذر أصل الحجّ، أمّا إذا كانت طرف المزاحمة له فوريّة الحجّ فقد لا يتمّ هذا الوجه.

238

الوجه الثالث: أنّه لو تنزّلنا وفرضنا أنّ القدرة في الحجّ أيضاً شرعيّة، قلنا: إنّه قد مضى أنّ القدرة الشرعيّة لها معنيان: أحدهما عدم الانشغال بواجب آخر. والثاني عدم المانع بالمعنى الذي ينتفي بمجرّد وجود الخطاب الآخر بالضدّ حتّى لو لم ينشغل به.

والقدرة المأخوذة في الحجّ ـ بعد التسليم ـ إنّما هي القدرة بالمعنى الأوّل، فإنّه مع عدم الانشغال بواجب آخر لا ريب في صدق عنوان الاستطاعة، بينما القدرة المأخوذة في النذر هي القدرة بالمعنى الثاني، حيث قال: «شرط الله قبل شرطكم»، فمجرّد وجود شرط الله المنافي لشرط العبد يمنع عن تحقّق شرط العبد(1). وقد مضى أنّ المشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الأوّل مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثاني.

الوجه الرابع: أنّنا لو تنزّلنا أيضاً وفرضنا القدرة الشرعيّة في الحجّ بالمعنى الثاني كما في النذر، قلنا: إنّ القدرة المأخوذة في الحجّ إنّما هي بمعنى عدم وجود خطاب بالمزاحم بالفعل؛ فإنّ كلّ عنوان مأخوذ في الدليل يكون الأصل فيه حمله على الفعليّة. وأمّا القدرة المأخوذة في النذر فهي بمعنى عدم المانع اللولائيّ، لا المانع الفعليّ ـ أي: عدم وجود الخطاب بالمزاحم بغضّ النظر عن هذا


(1) ومن هنا يفتى بأنّه لو نذر زيارة عرفة ـ مثلا ـ للحسين(عليه السلام)، ثمّ استطاع للحجّ بطل نذره، فحتّى ولو ترك الحجّ عصياناً لم يجب عليه الوفاء بنذره.

إلاّ أنّ هذا عندي مشكل؛ فإنّ المتيقّن من مثل: «شرط الله قبل شرطكم»، ليس أكثر من أنّ قبليّة شرط الله أوجبت على الإنسان تقديمه على شرط نفسه المزاحم لشرط الله. أمّا لو عصى ولم يعمل بشرط الله فإنّ عدم وجود المزاحم الذي أوجبه على نفسه ـ بشرط أو نذر أو نحو ذلك ـ غير واضح من هذا النصّ.

239

الخطاب ـ وذلك استظهاراً من قوله: «شرط الله قبل شرطكم»، أي: إنّه بغضّ النظر عن شرطكم، وفي المرتبة السابقة على شرطكم، يكون شرط الله ثابتاً، فهو يمنع عن شرطكم. وقد أثبتنا فيما مضى: أنّ المشروط بعدم المانع الفعليّ مقدّم على المشروط بعدم المانع اللولائيّ.

وقد يذكر وجهان لتقديم الحجّ على النذر غير الوجوه التي نحن ذكرناها:

الوجه الأوّل: أنّ القدرة في الحجّ عقليّة، وفي النذر شرعيّة، فيقدّم الحجّ على النذر. أمّا كون القدرة في الحجّ عقليّة؛ فلبعض ما مضى منّا. وأمّا كون القدرة في النذر شرعيّة؛ فلأنّ الناذر طبعاً لا يُتعقّل نذره بأمر غير مقدور؛ فإنّ العاقل لا ينذر الإتيان بشيء غير مقدور له، إذن فالقدرة داخلة في متعلّق النذر. وإذا كان الأمر كذلك فلا محالة تكون القدرة دخيلة في الملاك؛ فإنّ وجوب العمل بالنذر إنّما هو بملاك الوفاء وكون الإنسان باقياً على عهده، وهذا يتحدّد لا محالة بحدود متعلّق النذر، فمع انتفاء القدرة لا ملاك؛ لأنّه لا نذر، فقد اتّضح بذلك كون القدرة شرعيّة.

ويرد عليه: أنّ القدرة التي نجزم بدخلها في متعلّق النذر إنّما هي القدرة التكوينيّة، وأمّا القدرة بمعنى عدم الانشغال بواجب آخر، فلا، بل قد يتعمّد الناذر إطلاق النذر لهذا الفرض برجاء إمضاء الشارع لذلك، وصيرورته عذراً له في مقام الانصراف عن ذلك الواجب الآخر. وقد مضى فيما سبق أنّ كون القدرة شرعيّة ـ بمعنى دخل مجرّد القدرة التكوينيّة في الملاك ـ لا يوجب تقدّم الواجب الآخر الذي لا يفرض دخل القدرة في ملاكه عليه.

الوجه الثاني: كأنّه يُذكر بعد التنزّل عن الوجه الأوّل، وافتراض كون القدرة في كليهما شرعيّة بنحو واحد، فيقال: إنّ وجوب الوفاء بالنذر إنّما يصبح فعليّاً حين حلول وقت العمل، بناءً على استحالة الواجب المعلّق مثلا، في حين أنّ الخروج مع الرفقة إلى الحجّ ـ مثلا ـ يجب قبل يوم عرفة، فيتقدّم على زيارة الحسين(عليه السلام) في

240

يوم عرفة بالترجيح بالتقدّم الزمنيّ(1).

ويرد عليه: أنّه إن فُرض وجوب الخروج مع الرفقة وجوباً غيريّاً شرعيّاً على حدّ وجوب مقدّمة الواجب عند وجوب ذيها، كان معنى ذلك الالتزام بالوجوب التعليقيّ في الحجّ، فإذا أمكن الوجوب التعليقيّ في الحجّ فلماذا لا يمكن في النذر؟! فلنقل في النذر أيضاً بتقدّم زمان وجوبه. وإن فرض وجوبه من باب وجوب المقدّمات المفوّتة عقلا، فهذا خلف كون الحجّ مشروطاً بالقدرة الشرعيّة؛ فإنّه إذا كانت القدرة دخيلة في الملاك، فتفويت المقدّمات المفوّتة ليس تفويتاً للملاك، بل هو إعدام لموضوعه(2)، ولا بأس بذلك، ومورد التقديم بالأسبقيّة زماناً


(1) لا يخفى أنّه قد ينعكس الأمر، فيكون العمل بالنذر متوقّفاً على مقدّمة سابقة على مقدّمات الحجّ. وقد يكونان متوقّفين على مقدّمات متقارنة، فليست نتيجة هذا الوجه تقديم الحجّ دائماً.

ثمّ الذي يبدو أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) صاغ الوجه وصاغ جوابه أيضاً على صياغة كون المراد بالترجيح بالتقدّم الزمنيّ هو الترجيح بتقدّم الوجوب زماناً.

(2) هذا الجواب كما قلنا مصوغ بصياغة فرض البحث على مبنى كون الترجيح لأسبقيّة زمان الوجوب.

ولعلّ الأولى التشقيق بالكلام على كلا الفرضين، وذلك بأن يقال: تارةً يتكلّم بناءً على الترجيح بسبق الوجوب، واُخرى يتكلّم بناءً على الترجيح بسبق زمان الواجب:

فإن بُني على الأوّل وقيل: إنّ مقدّمة الحجّ سبق وجوبها وجوبَ الوفاء بالنذر، فترجّح عليه، قلنا: خير ما يمكن أن يقال في تقريب الترجيح بأسبقيّة الوجوب، دعوى استظهار دخل القدرة في الملاك، بمعنى يشمل عدم الانشغال بإفراغ الذمّة عن وجوب سابق أو مقارن.

241


وهذا جوابه ـ بعد فرض تسليم هذا الاستظهار ـ أحد أمرين:

الأوّل: إنّ هذا الاستظهار لو تمّ، فإنّما يتمّ بلحاظ وجوب يقبل التنجّز ويُشغل الذمّة، فيقال: إنّ شغل الذمّة رافع للقدرة مثلا، أمّا وجوب المقدّمة ـ كالخروج مع الرفقة ـ الذي ليس له تنجيز ولا تعذير، فلا يرفع القدرة إلاّ بلحاظ وجوب ذيها، والمفروض أنّ وجوب ذيها مع وجوب المزاحم الآخر مقترنان.

والثاني:ما ورد في المتن من أنّه إن قُصد بوجوب مثل السير مع الرفقة الوجوب الغيريّ الشرعيّ على حدّ وجوب مقدّمة الواجب عند وجوب ذيها، كان هذا رجوعاً إلى استظهار الوجوب التعليقيّ والذي يمكن أن يقال به في النذر أيضاً، كما يقال به في الحجّ. وإن قُصد به الوجوب العقليّ للمقدّمات المفوّتة من قِبَل وجوب ذيها، فهذا خلف فرض دخل القدرة في الملاك؛ لأنّه على تقدير دخل القدرة في الملاك يجوز تفويتها بترك المقدّمات المفوّتة.

وإن بُني على الثاني وقيل: إنّ مقدّمات الحجّ واجبة ومقدّمة زماناً على زيارة عرفة مثلا، فتترجّح عليها بالتقدّم الزمنيّ، قلنا: إنّ للترجيح بسبق زمان الواجب أحد تقريبين:

التقريب الأوّل: استظهار دخل القدرة في الملاك بمعنى يشمل عدم الانشغال بواجب مقارن أو سابق، والواجب الأوّل هو الذي يكون الانشغال به انشغالا بواجب سابق على الواجب الثاني، وليس الثاني سابقاً على الأوّل ولا مقارناً له.

وإسراء ذلك إلى ما نحن فيه يكون ببيان: أنّ العبرة في الترجيح ليست بنفس عنوان تقدّم الواجب، حتّى يقال مثلا: إنّ المهمّ هو نفس الواجب النفسيّ الذي له تنجّز وتعذّر، لا المقدّمة، والواجبان النفسيّان في المقام متقارنان. وإنّما العبرة في الترجيح بأن يكون ظرف ضرورة انشغال العبد بأحد الواجبين ـ من مبدأ التنجيز والتعذير ـ قبل ظرف انشغاله بالآخر، وهذا ثابت في المقام؛ فإنّ انشغاله بمقدّمة الحجّ السابق زمناً على الزيارة، انشغالٌ

242


بامتثال واجب نفسيّ له تنجيز وتعذير سابق على زمان امتثال الآخر؛ فإنّ المقدّمة وإن لم يستمدّ تنجّزها من الأمر بها، ولكن الانشغال بها انشغالٌ بامتثال وجوب ذي المقدّمة، وشروعٌ في التحرّك من مبدأ منجّزيّة وجوب ذي المقدّمة، ويكفي هذا للترجيح، أو قل: إنّ هذا بحكم تقدّم نفس الواجب النفسيّ.

التقريب الثاني: استظهار دخل القدرة التكوينيّة في الملاك بمعنى القدرة على الواجب في زمانه، لا القدرة التكوينيّة عليه مطلقاً ولو بلحاظ القدرة على المقدّمات المفوّتة قبل زمان الواجب. فالواجب السابق يتقدّم؛ لأنّه لو أتى به فقَدَ القدرة على الواجب الثاني في زمانه، وبذلك ارتفع موضوعه.

وهذا التقريب الثاني ـ لو تمّ في نفسه ـ قد لا يصحّ تطبيقه على المقام؛ وذلك لأنّنا لو استظهرنا دخل القدرة في الملاك في الواجبين ـ بمعنى القدرة في وقت العمل ـ لم يجب خروج الرفقة، ولا سائر المقدّمات المفوّتة للحجّ، وهذا خلف.

إلاّ أن يفترض أنّ هذا الاستظهار نقبله في باب النذر، وأمّا في باب الحجّ فقد قامت الضرورة الدينيّة على وجوبه حتّى على النائين المحتاجين إلى مقدّمات مفوّتة، وهذا دليل على عدم دخل القدرة التكوينيّة في خصوص ظرف الواجب في ملاك الحجّ.

وعلى أيّ حال، فلو تمّ أحد التقريبين في ذاته، ورد على تطبيقه على المقام: أنّنا ننكر سبق مقدّمة الحجّ بنحو موجب للترجيح بسبق أحد الواجبين. وتوضيح ذلك: أنّ الانشغال بمقدّمة الحجّ إلى حين لا يورث العجز من الزيارة ـ كالخروج مع الرفقة قبل شهر مثلا، والسير إلى مدّة يمكن الرجوع إلى كربلاء ودرك زيارة عرفة ـ لا يحلّ المشكل؛ لأنّه مادامت القدرة على كلا الواجبين موجودة، فالمزاحمة باقية على حالها، ولا مبرّر لفرض ترجيح أحدهما بسبق الواجب؛ لأنّ الاشتغال بالسابق لم يسلب القدرة عن اللاحق؛ إذ

243

إنّما هو المشروطان بالقدرة الشرعيّة(1).

وقد يذكر وجهان لتقديم الوفاء بالنذر على الحجّ:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ القدرة في الحجّ شرعيّة؛ لأنّها اُخذت في لسان الدليل في قوله: ﴿لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾، ولكنّها في النذر عقليّة؛ لأنّها لم تؤخذ في لسان الدليل.والمشروط بالقدرة العقليّة يقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة.

وقد بينّا سابقاً: أنّ مجرّد عدم ذكر القدرة في لسان الدليل ليس دليلا على كونها عقليّة، وعدم دخلها في الملاك، فليكن المقصود هنا ما وضّحناه فيما سبق من أنّه حينما يقاس ما لم تؤخذ القدرة في لسان دليله بما ثبت كون القدرة فيه شرعيّة، يثبت بإطلاق دليل الأوّل لفرض الانشغال بالثاني كون قدرته عقليّة، أي: أنّ ملاكه لا ينتفي موضوعاً بالانشغال بالثاني، على بيان وتوضيح مضى.

إلاّ أنّك قد عرفت: أنّ الأمر تماماً على العكس، أي: أنّ القدرة في النذر


بالإمكان العدول ـ بحسب الفرض ـ إلى الواجب الآخر، وفي الوقت الذي تصل النوبة إلى صرف القدرة في أحدهما بالخصوص ـ الموجب لانسلاب القدرة على الآخر ـ يكون الواجبان بما لهما من مقدّمات مفوّتة متقارنين.

ولعلّ هذا هو السرّ فيما يبدو من عدول سيّدنا الاُستاذ(رحمه الله) في صياغة أصل الترجيح وإبطاله من الترجيح بتقدّم زمان الواجب إلى الترجيح بتقدّم الوجوب.

(1) أمّا المشروطان بالقدرة العقليّة فليس السابق منهما رافعاً لموضوع الآخر. وأمّا لو كان أحدهما مشروطاً بالقدرة العقليّة والآخر مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، فالمشروط بالقدرة العقليّة هو الذي يرفع موضوع الآخر، سواء تقدّم زماناً أو تأخّر، فلا أثر للترجيح بالسبق الزمنيّ.

244

شرعيّة، وأنّه لم يؤخذ في لسان دليل الحجّ عدم الواجب الآخر، أو عدم الانشغال به.

الوجه الثاني: أنّ النذر كان مقدّماً على الاستطاعة، فيقدّم عليه بالترجيح بالأسبقيّة زماناً، بناءً على أنّ القدرة في كليهما شرعيّة وبنحو احد.

ويرد عليه: أنّه على القول بالترجيح بالأسبقيّة، إنّما يرجّح ما كان وجوبه أو زمان الواجب فيه أسبق، بدعوى انصراف القدرة الشرعيّة إلى القدرة حين الوجوب أو في وقت الواجب، أمّا تقدّم السبب فلا عبرة به على كلّ حال(1).

 

 


(1) قد يُفرض أنّ وجوب الوفاء بالنذر غير المعلّق على شيء يكون ثابتاً من حين النذر بنحو الوجوب التعليقيّ، فلو صحّ هذا الفرض لم يتأتّ هذا الجواب. نعم، المهمّ أنّ أصل فرض مرجّحيّة مجرّد تقدّم الوجوب ضعيف.

245

الأوامر

الفصل السادس

 

 

أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط

 

 

 

 

 

247

 

 

 

 

 

هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط أو لا؟

وهذا العنوان يُؤمي إلى جواز أمره لو لم يعلم بانتفاء الشرط، وهذا شاهدٌ على أنّ المقصود من الأمر الذي يتكلّم في جوازه وعدم جوازه مرتبةٌ من الأمر غير المرتبة التي فُقد شرطها، وإلاّ لكفى فقدان شرطها في استحالتها، سواء علم به الآمر أو لا، إذن فمرجع البحث يكون ـ مثلا ـ إلى البحث عن أنّه: هل يجوز أمر الآمر على تقدير يعلم بانتفاء ذلك التقدير؟ فهذا التقدير ـ كما ترى ـ شرط للمجعول والفعليّة، بينما المقصود من الأمر الذي يبحث عن جوازه وعدم جوازه هو الجعل.

وتحقيق الكلام في ذلك هو: أنّه تارةً يُفرض انتفاء الشرط بنحو خارج عن قدرة المكلّف. واُخرى يُفرض انتفاؤه باختيار المكلّف:

فإن فُرض الأوّل كان توجيه الأمر إلى العبد مستهجناً عرفاً، سواءً كان انتفاء الشرط بغضّ النظر عن هذا الأمر، أو كان بسبب نفس هذا الأمر.

مثال الأوّل: أن يقول: (لو اجتمع المتضادّان فصلّ).

ومثال الثاني: أن يقول: (لو لم يُجعل الأمر بالصلاة فصلّ).

وإن فُرض الثاني فتارةً يُفرض أنّ المكلّف يُفني الشرط اختياراً بتأثير من قِبَل نفس هذا الأمر. واُخرى يُفرض أنّه يُفني الشرط اختياراً بغضّ النظر عن هذا الأمر:

مثال الأوّل: ما لو قال له: (إن أفطرت فأعتق)، فأصبح لزوم العتق عليه على

248

تقدير الإفطار رادعاً له عن الإفطار. ولا إشكال في جواز ذلك، وليس انتفاء الشرط هنا إلاّ مؤكِّداً لتأثير الأمر، لا مانعاً عنه.

ومثال الثاني: ما لو قال له: (لو أكلت العذرة فأعتق)، وهو يعلم أنّ هذا العبد سوف لن يأكل العذرة بغضّ النظر عن استتباع ذلك للعتق، وهذا النحو من الأمر لا يمكن أن يكون بداعويّة متعلّق الأمر للمولى إلى الأمر؛ إذ هو يعلم بحصول المقصود بانتفاء الشرط المُفني لملاك المتعلّق موضوعاً.

نعم، قد يكون للمولى داع آخر إلى إيجاد باعث تقديريّ، كتمكين المكلّف من قصد القربة أو غير ذلك، ومعه يجوز الأمر بذلك، وهذا ليس فيه استهجان عرفيّ، بخلاف ما لو كان انتفاء الشرط بنحو خارج عن اختياره، فإنّ الأمر عندئذ يكون مستهجناً عرفاً(1).

 


(1) وليس مستحيلا عقلا؛ لأنّ البعث نحو الجزاء على تقدير تحقّق الشرط معقول وإن لم يكن تحقّق الشرط معقولا. وهذا لا ينافي ما مضى من أنّ الأمر المشروط يرجع بروحه ـ في شروط الاتّصاف ـ إلى الأمر بالجامع بين الجزاء وعدم الشرط؛ فإنّ المقصود من ذلك كان هو رجوع الأمر بمبادئه إلى ذلك، أمّا نفس الأمر والبعث فهو متعلّق بالجزاء، وليس متعلّقاً بالجامع حتّى يقال: إنّ الجامع ضروريّ الحصول في المقام، فلا يعقل البعث نحوه. ولهذا لا يصحّ الأمر بشيء محال على تقدير شرط مقدور، رغم قدرة المكلّف على الجامع بين فعل الجزاء وترك الشرط.

نعم، الأثر الفعليّ للأمر في مطلق الشروط المقدورة هو لزوم التحرّك نحو الجامع بين الجزاء وإفناء الشرط.

249

الأوامر

الفصل السابع

 

 

تعلّق الأمر بالطبائع أو بالأفراد

 

○ تمهيد في أقسام العوارض.

○ الوجوه في تصوير المقصود من عنوان المسألة.

 

251

 

 

 

 

 

تمهيد: في أقسام العوارض:

اعلم أنّ العوارض على ستّة أقسام:

القسم الأوّل: ما يكون ظرف عروضه هو الذهن، وظرف اتّصاف الشيء به هو الذهن أيضاً. ويمثّلون لذلك بمثل النوعيّة والجنسيّة والفصليّة والكلّيّة والجزئيّة، فهي ليس لها وجودٌ خارجيّ، وإنّما وجودها وجود ذهنيّ. فظرف عروضها هو الذهن، كما أنّ ما يتّصف بها ليس هو الفرد الخارجيّ من الإنسان أو الحيوان أو الناطق مثلا، بل المفهوم الذهنيّ. إذن، فظرف الاتّصاف بها هو الذهن. فلنطلق عليها فعلا اسم العوارض الذهنيّة.

القسم الثاني: العوارض الخارجيّة، وهي ما يكون ظرف وجودها وظرف الاتّصاف بها هو الخارج، كالحرارة والبياض ممّا يكون له وجودٌ خارجيّ ويتّصف به الفرد الخارجيّ.

القسم الثالث: ما يكون ظرف عروضه هو الذهن، وظرف الاتّصاف به هو الخارج، كالإمكان والاستلزام، فظرف عروضه هو الذهن، ببرهان عدم وجود خارجيّ له كالبياض والحرارة، وإلاّ لزم التسلسل بحسب الخارج؛ إذ يقال مثلا: إنّ النار ممكن، وإمكانها واجب، ووجوب إمكانها واجب... وهكذا: إنّ النار ملازمة للحرارة، وملازمة لهذه الملازمة... وهكذا، فإذا لم يكن وجوده خارجيّاً فهو ذهنيّ.

252

وظرف الاتّصاف به هو الخارج، ببرهان اتّصاف الفرد الخارجيّ من الشيء به، فالفرد الخارجيّ من النار ـ مثلا ـ ممكن وملازم للحرارة. وهذا بخلاف ما مضى من مثل النوعيّة والفصليّة ممّا لم يكن الفرد الخارجيّ متّصفاً به. هذا ما قاله مشهور الحكماء.

والقسم الأوّل ـ وهو ما يكون ظرف عروضه وظرف الاتّصاف به ذهنيّاً ـ يسمّى بالمعقولات الثانويّة بحسب مصطلح المنطقيين. وأمّا بحسب مصطلح الحكماء فمطلق ما يكون ظرف عروضه هو الذهن يسمّى بالمعقولات الثانويّة، ولو كان ظرف اتّصافه به هو الخارج.

ونحن قد أشرنا في بعض الأبحاث السابقة إلى أنّ هذا غير معقول؛ فإنّ اتّصاف الشيء بعرض إنّما هو بلحاظ عروضه عليه، فلا يُعقل أن يكون عالم الاتّصاف به غير عالم عروضه.

كما بيّنّا أيضاً أنّ الاستلزام والإمكان إذا لم يكن موجوداً في الخارج بالبرهان، فلا يمكن أيضاً أن يقال: إنّ قوامه بفرض العقل واعتباره؛ لوضوح صدق قولنا: (العلّة تستلزم المعلول) حتّى لو لم يوجَد عقلٌ على وجه الأرض.

ومن هنا ذكرنا: أنّ الإمكان والاستلزام ونحوهما من الاُمور الخارجيّة، وظرف الاتّصاف بها وكذلك ظرف عروضها هو الخارج، لكنّها خارجيّة بنفسها لا بوجودها.

وتوضيح ذلك: أنّ كلّ أمر لا يكون للاعتبار دخلٌ في حقّانيّته نسمّيه خارجيّاً، وهو على قسمين:

فتارةً تكون حقّانيّته وخارجيّته بالوجود كالإنسان، فإنّه بما هو إنسان ليس خارجيّاً وحقّانيّاً، وإنّما هو ماهيّة نسبتها إلى الوجود والعدم على حدٍّ سواء.

واُخرى تكون حقّانيّته بذاته، من قبيل: أنّ من الحقّ استحالة اجتماع النقيضين،

253

واستلزام العلّة للمعلول، فهذه الاستحالة وكذلك هذا الاستلزام ليس للاعتبار دخلٌ في حقّانيّتها، وهي حقّ بذاتها لا بلبسها ثوب الوجود، كما في الإنسان والحيوان ونحوهما، فوعاء الخارج أوسع من وعاء الوجود، وظرف الاتّصاف والعروض معاً للإمكان والاستلزام ونحوهما إنّما هو وعاء الخارج.

وبكلمة اُخرى: ماذا يقصد بقولهم: إنّ مثل الملازمة والإمكان والاستحالة اُمور ذهنيّة؟

إن قُصد بذلك: أنّها من قبيل الاعتبارات الذهنيّة الجزافيّة، كاعتبار الإنسان طويلا يصل إلى الشمس والتي لا واقع لها إلاّ نفس واقع الاعتبار، فهذا بديهيّ البطلان؛ لبداهة الفرق بين قولنا: (الإنسان ممكن)، وقولنا: (الإنسان طويل يصل إلى الشمس)، فالأوّل يعتبر صادقاً، والثاني يعتبر كاذباً. وهذا لا يكون إلاّ باعتبار لحاظهما خارج وعاء الاعتبار، فلو كانا من سنخ واحد ومن عالم الاعتبار لم يكن فرق بينهما في الصدق والكذب، وكان كلاهما صادقاً بلحاظ وعاء الاعتبار، وكاذباً بلحاظ الخارج.

وإن قُصد بذلك: أنّنا حينما نتصوّر الإنسان ينساق ذهننا إلى أن نولّد منه الإمكان، ولا ينساق ذهننا إلى أن نولّد منه الطول، فكون الإمكان أمراً ذهنيّاً يعني: أنّه حالة عقليّة ينساق إليها الذهن البشريّ عند تصوّر الإنسان. وهذا يفسّر لنا الفرق بين إمكان الإنسان وطوله، قلنا: إنّ هذا الانسياق إمّا أن يرتبط بنكتة فسلجيّة في نطاق ذات المفكّر، أو بنكتة ترجع إلى نفس الأمر المفكَّر فيه:

والأوّل خلاف الضرورة والوجدان، وإن ادّعاه بعض الفلاسفة الاُوربّيّين بالنسبة للمقولات؛ فإنّ الضرورة والوجدان حاكم بالفرق بين هاتين القضيّتين بقطع النظر عن وجودنا في العالم. فمثلا قولنا: (مساوي المساوي مساو) كلام صحيح، وُجد في العالم مُدرك أو لا. وقولنا: (مساوي المساوي مخالف) كلامٌ باطل، وُجد في العالم مُدرك أو لا.