402

المسلك الرابع: أن يقال: إنّ تعلّق الأمر بالطبيعة أو الأفراد مرجعه إلى أصالة الماهيّة أو الوجود، فعلى أصالة الماهيّة يتعلّق الأمر بالماهيّة، وعلى أصالة الوجود يتعلّق الأمر بالوجود، وبناءً على هذا قد يتوهّم ابتناء مسألتنا على تلك المسألة، فيقال: لو كان متعلّقاً بالفرد ـ أي: الوجود ـ لم يجز الاجتماع؛ لوحدة الوجود، ولو كان متعلّقاً بالطبيعة ـ أي: الماهيّة ـ جاز الاجتماع؛ لتعدّد الماهيّة.

وهذا غير صحيح، فإنّه إذا تكثّرت الماهيّة تكثّر الوجود لا محالة فيستحيل وجود واحد له ماهيّتان، فليس الخلاف في أصالة الماهيّة أو الوجود خلافاً في تعدّد هذا الكائن أو وحدته، وإنّما الخلاف في أنّه ما هو الأصل بعد الفراغ عن أنّه لا يمكن أن تتعدّد الماهيّة ويتّحد الوجود.

 

هل يشترط في موضوع المسألة فرض ثبوت الملاكين في المجمع؟

التنبيه الخامس: هل يشترط في موضوع هذه المسألة فرض ثبوت الملاكين في المجمع أو لا؟

يقع الكلام في هذا التنبيه في عدّة مقامات:

 

الكلام في أصل الاشتراط:

المقام الأوّل: في أصل هذا الاشتراط. ذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في الكفاية: أنّ هذه المسألة مشروطة بذاك، ففي فرض وجدان المجمع لكلا الملاكين ينفتح الكلام في أنّه هل يمكن أن يؤثّرا معاً أو لا، فعلى القول بالجواز يلتزم بكلا الحكمين، وعلى الامتناع يدخل في باب التزاحم؛ لوجود كلا المقتضيين دون التعارض. أمّا مع عدم اجتماع الملاكين فلا موضوع للبحث عن اجتماع الأمر والنهي، وسواء قلنا بالجواز أو الامتناع يقع التعارض بين دليل (صلّ)

403

و(لا تغصب)، فإنّ أحد الحكمين بلا ملاك، فلا يعقل ثبوتهما معاً، ولا يعقل التزاحم، فإنّه فرع تماميّة المقتضيين(1).

وقد اعترض على ذلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(2) والسيّد الاُستاذ دام ظلّه(3) بأنّ المسألة لا تكون مرتبطة بمسألة تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، فكيف يكون شرط هذه المسألة ثبوت الملاكين في المجمع، فبناءً على ما ذهب إليه الأشعريّ من إنكار الحسن والقبح الذاتيّين يجوز الحكم بلا مصلحة ـ لعدم قبح في ذلك ـ ومع هذا يأتي النزاع في أنّ الأمر والنهي هل يجتمعان أو لا؛ فإنّ مسألة جواز الاجتماع ترجع إلى أنّ اجتماع الأمر والنهي هل يلزم منه اجتماع ضدّين في مورد واحد أو لا؟ وهذا يتأتّى حتّى مع فرض عدم المصلحة، والأشعريّ لا ينكر العقل النظريّ ولو أنكر العقل العمليّ.

وفي الحقيقة: إنّ مراد صاحب الكفاية لو كان هو ما فهمه المحقّق النائينيّ والسيّد الاُستاذ فهو من غرائب الكفاية، فإنّ عدم ارتباط المسألة بالقول بتبعيّة الأحكام للمصالح في غاية الوضوح، ولكن مراد صاحب الكفاية في المقام من الملاك إنّما هو الغرض من الحكم، سواء كان الغرض هو المصالح أو هو التشهّي والجزاف، فهو يقول: إنّ شرط مسألة الاجتماع وجود غرضين أمّا أنّهما هل هما عبارة عن المصالح والمفاسد أو عبارة عن التشهّي والتحكّم فهذا مطلبٌ آخر لا يرتبط بالمقام.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 245 ـ 246 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعاليق المشكينيّ(رحمه الله).

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 346 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(3) راجع المحاضرات، ج 4، ص 203 ـ 205 بحسب طبعة دار الهادي للمطبوعات بقم.

404

ولعلّ الدافع النفسيّ لصاحب الكفاية إلى الجنوح إلى شرط من هذا القبيل هو دفع أحد الإشكالين على المشهور:

الأوّل: أنّه قد يقال: عجباً، وقع النزاع في هذه المسألة في عنوانين بينهما عموم من وجه، فمنهم من قال بجواز اجتماع الأمر والنهي، ومنهم من قال بالامتناع، بينما اتّفقوا في مسألة التعارض على وقوع التعارض بين دليلين يكون بين موضوعهما عموم من وجه؟! فكأنّما أراد صاحب الكفاية أن يجمع بين الكلامين، فذكر أنّه مع اجتماع الملاكين يدخل الأمر في مسألة الاجتماع، ومع عدمه يدخل في موضوع التعارض.

مع أنّ هذا الإشكال لا يتوقّف دفعه على مثل هذا التجشّم، بل يمكن دفعه بوجوه اُخرى، فمثلا يمكن أن يقال بأنّ العموم من وجه قد يكون من ناحية المتعلّق مثل (صلّ) و(لا تغصب)، فيدخل في بحث الاجتماع، وقد يكون من ناحية الموضوع مثل (أكرم العالم) و(لا تكرم الفاسق)، فيكون خارجاً عن بحث الاجتماع؛ لأنّ الحمل حمل ذو هو لا حمل هو هو.

الثاني: أنّ الأصحاب ـ حتّى القائلين بالامتناع ـ أفتوا بصحّة الصلاة عند الجهل بالغصب، مع أنّه على الجواز ينبغي القول بالصحّة مطلقاً، وعلى الامتناع ووقوع التعارض وتقديم جانب النهي ينبغي القول بالبطلان مطلقاً، فكأنّ صاحب الكفاية يقول: إنّه مع ثبوت الملاكين لا يقع التعارض وإنّما يقع التزاحم، وبعد تقدّم ملاك النهي لو صلّى مع العلم بالغصب كان معصية ولا يمكن التقرّب بالمعصية، ولو صلّى مع الجهل أمكن التقرّب والمقتضي وهو الملاك موجود فتصحّ الصلاة. نعم، لو كان الباب باب التعارض فلا نحرز الملاك ولا يمكن القول بالصحّة.

إلاّ أنّ هذا المقدار لا يكفي في مقام دفع الإشكال بناءً على مبنى نفس المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّه إنّما نحرز الملاكين بنفس دليل الأمر والنهي، وحينئذ إذا قيل

405

بالامتناع فلا يبقى أمر حتّى نحرز به الملاك فكيف نحكم بالصحّة؟!

وعلى أيّ حال فيمكن أن يستدلّ على شرطيّة ثبوت الملاكين في المجموع في موضوع بحث الاجتماع بأحد تقريبين وكلاهما واضح البطلان:

التقريب الأوّل: أن يقال بأنّ البحث في هذه المسألة بحث عن امتناع اجتماع الأمر والنهي وإمكانه، ومن الواضح أنّه مع عدم الملاكين لا غبار على الامتناع ولا معنى للبحث عن الاجتماع والإمكان؛ إذ كيف يحتمل ثبوت الحكم بلا ملاك؟!

والجواب: أنّ هذا خلط بين الامتناع بالذات والامتناع بالغير، فإنّ ما هو محلّ البحث في هذه المسألة إنّما هو الامتناع بالذات وأنّه هل يكون اجتماع الأمر والنهي من اجتماع الضدّين أولا، وأمّا الامتناع الواضح عند عدم الملاكين فهو امتناع بالغير، والمنبّه لهذا أنّه قد يكون ما هو المختار في هذه المسألة وهو الجواز من مبادئ إثبات كلا الملاكين على ما يعترف به نفس صاحب الكفاية، وهذا يعني أنّه في المرتبة السابقة على إحراز الملاكين يوجد معنى للقول بالجواز لكي نستفيد منه برهاناً على إثبات الملاكين.

التقريب الثاني: أن يقال بأنّ البحث في المقام وإن كان من حيثيّة الامتناع بالذات، إلاّ أنّ الثمرة المرجوّة لهذا البحث ـ وهي ثبوت كلا الحكمين على فرض الجواز ـ لا يترقّب وجودها إلاّ مع ثبوت الملاكين، إذن فالمسألة بلحاظ ترتّب الأثر مشروطة بهذا الشرط.

والجواب: أنّ الثمرة غير مربوطة بهذا الشرط، بل مجرّد احتمال وجود كلا الملاكين يكفي لترتّب الثمرة، وذلك بالتمسّك بدليل الأمر والنهي(1)، هذا.


(1) كأنّ المقصود أنّ من ثمار جواز الاجتماع نفس اكتشاف وجود الملاكين، فلا معنى لاشتراط ثبوت الملاكين في صيرورة البحث ذا ثمرة.

406

مع أنّه ليس كلّ ما يكون دخيلا في ترتّب الثمرة يجب أن يؤخذ قيداً في موضوع المسألة؛ إذ يكفي أن تكون المسألة في نفسها دخيلة في الثمرة، فمثلا مسألة ظهور صيغة (افعل) في الوجوب ثمرتها إثبات الوجوب، مع أنّ من شرائط ترتّب الثمرة عدم المعارض، فهل يكون عدم المعارض قيداً في موضوع المسألة؟!

فالصحيح: أنّ هذه المسألة غير منوطة بافتراض الملاكين في المجمع بل نفس القول بالجواز من مبادئ إثبات كلا الملاكين.

 

طُرق إحراز الملاكين في المجمع:

المقام الثاني: في أنّه هل يمكن إحراز الملاكين في المجمع أو لا؟

لا إشكال في إحرازهما لو دلّ على ذلك دليل خاصّ، أو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي فدلّ نفس الأمر والنهي بالالتزام على الملاكين، أو كان الدليلان دالّين على الحكم الاقتضائيّ لا الفعليّ. أمّا في غير هذه الحالات الثلاث فقد ذكر صاحب الكفاية أنّه لا يمكن إحراز الملاكين؛ إذ بعد القول بالامتناع يقع التكاذب بين (صلّ) و(لا تغصب)، ولا يبقى دليل على ثبوت المناطين، وهذا بخلاف الحالات الثلاث التي يثبت فيها الملاكان ويتزاحمان على الامتناع ولا يتزاحمان على الجواز.

إلاّ أنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) ذكر في غير هذه الحالات الثلاث لإثبات كلا الملاكين في المجمع طريقين:

الطريق الأوّل: هو التمسّك بالدلالة الالتزاميّة لدليلي الأمر والنهي عند سقوط المطابقيّة(1).


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 302 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

407

وهذا مبنيّ على مبنى لا نقبله، ولو قبلناه إذن فلماذا يختصّ بالمقام، ولماذا لا يجري في مثل (صلّ) و(لا تصلّ)؟ فهنا أيضاً يجب أن يقال بإحراز المناطين وثبوت المحبوبيّة والمبغوضيّة الشأنيّتين، مع أنّه لا يلتزم به أحد.

وكأنّ المحقّق العراقيّ الذي حاول سلوك نفس هذا الطريق(1) أراد أن يدفع النقض بمثل (صلّ) و(لا تصلّ)، فذكر أنّه في مثل (صلّ) و(لا تصلّ) يكون كلّ من الطلبين ـ أي: طلب الفعل وطلب الترك ـ دالاًّ على النهي عن الضدّ العامّ لمتعلّقه، وهذا النهي دالٌّ على نفي الملاك في ذلك الضدّ العامّ، فيقع التعارض حتّى بلحاظ الدلالة على الملاك، فهذا بابه باب التعارض البحت.

هذا في عنوان واحد، وأمّا في عنوانين بينهما عموم من وجه كـ (صلّ) و(لا تغصب) فإمّا أن يفرض أنّهما متغايران بتمامها، أو أنّهما مشتركان في جزء ومتغايران في جزء آخر، كأن تكون الصلاة عبارة عن الحركة العباديّة والغصب عبارة عن الحركة الغصبيّة، فاشتركتا في الحركة، أمّا مع التغاير فمن الواضح أنّ أحد الطلبين لا ينفي الملاك في العنوان الآخر، وأمّا مع الاشتراك فالأمر بالصلاة ـ مثلا ـ يدلّ على نفي مبادئ الطلب في نقيض المجموع من الحركة والعباديّة، وهذا لا ينافي أن يكون في ترك المجموع من الحركة والغصبيّة مبادئ الطلب، فالأصل في موارد العموم من وجه هو التزاحم الملاكيّ، ولهذا ميّز الفقهاء بين مورد الاجتماع ومورد التعارض وذكروا أنّ الأوّل من باب التزاحم دون الثاني(2).


(1) راجع المقالات، ج 1، ص 370 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، ونهاية الأفكار، ج 1 و 2، ص 439 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع المقالات، ج 1، ص 372 ـ 373 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، ونهاية الأفكار، ج 1 و 2، ص 440 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

408

ويرد عليه:

أوّلا: الإشكال المبنائيّ بمنع حجّيّة الدلالة الالتزاميّة بعد سقوط المطابقيّة.

وثانياً: أنّ النهي عن الضدّ العامّ المستفاد من الطلب لا يدلّ على نفي الملاك في الضدّ كي يعارض الدلالة الالتزاميّة للأمر بالضدّ على الملاك؛ إذ يكفي لهذا النهي مغلوبيّة ملاك الضدّ العامّ ـ أي: النقيض ـ في مقابل ملاك نقيضه(1).

وثالثاً: لو سلّمنا عدم تبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة وسلّمنا أنّ النهي عن النقيض يدلّ على نفي الملاك في النقيض، قلنا: إنّ اللازم لكلامه(رحمه الله) إدخال المطلق والمقيّد حينما يكون المطلق أمراً والمقيّد نهياً، من قبيل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) في باب التزاحم؛ لأنّ (صلّ) إنّما دلّ على نفي الملاك في ترك الصلاة،


(1) وقع في نهاية الأفكار الالتفات إلى هذا الإشكال، فرفض أصل هذا الوجه للتفريق بين مثل (صلّ) و(لا تغصب) وبين مثل (صلّ) و(لا تصلّ) وأبدله بوجه أغرب من هذا الوجه لا يناسب الشيخ العراقيّ(رحمه الله)، ولعلّه من خطأ المقرّر، وهو: أنّه مع تعدّد العنوان كـ(الصلاة) و(الغصب) ليس منع العقل من الجمع بين الأمر والنهي واضحاً بدواً كي يكسر ذلك ظهور (صلّ) في الإطلاق، وإنّما هذا أمر يتّضح بعد التدقيق في مادّة الاجتماع، فإذا بقي ظهور الإطلاق في (صلّ) محفوظاً رغم سقوط حجّيّته نتمسّك بدلالته الالتزاميّة لإثبات الملاك؛ لأنّها لا تتّبع المطابقيّة في الحجّيّة وإنّما تتّبعها في الوجود فحسب، وهذا بخلاف ما لو اتّحد العنوان كما في مثل (أكرم العالم) و(لا تكرم الهاشميّ)، فإنّ العنوان في كليهما هو الإكرام، والمنع من الجمع بين الأمر والنهي مع وحدة العنوان واضح بدواً لدى العقل، وهذا يكسر أصل الظهور في الفعليّة فتنتفي أصل الدلالة المطابقيّة، وبانتفائها تنتفي الالتزاميّة.

وهذا كما ترى غريب؛ فإنّ الكلام ليس فيما إذا اتّصل النهي بالأمر، وإنّما الكلام في الأمر والنهي المنفصل أحدهما عن الآخر، ومعه يتمّ الظهور في ذاته.

409

وهذا لا ينافي ما يدلّ عليه (لا تصلّ في الحمّام) من أنّ ترك الصلاة في الحمّام مورد للمبادئ؛ فإنّ كون ترك المجموع فيه الملاك لا ينافي كون ترك هذا الجزء ليس فيه الملاك، فإنّ ترك هذا الجزء ليس جزءاً لترك المجموع حتّى يكون فيه الملاك ضمناً وإنّما هو فرد له، ولا يوجد تناف بين ثبوت الملاك في الكلّيّ بنحو صرف الوجود وبين عدم الملاك في فرده(1). نعم، لو كان النهي هو المطلق كما لو قال: (لا تصلّ)، وقال: (صلّ في المسجد) وقع التعارض؛ لأنّ (لا تصلّ) دلّ على نفي المبادئ في الصلاة، بينما دلّ (صلّ في المسجد) على ثبوت المبادئ في الصلاة ولو ضمناً.

الطريق الثاني: التمسّك بإطلاق المادّة لا بالمعنى الميرزائيّ من أنّ المادّة لها محمولان: الحكم والملاك، وقد قيّدت بلحاظ المحمول الأوّل فنتمسّك بإطلاقها بلحاظ المحمول الثاني، بل بمعنى أنّه إذا لم يمكن إطلاق الهيئة لحالة من الحالات عقلا كحالة العجز أو النسيان أو وجود حكم متضادّ قلنا: إنّ الوجوب الذي هو مفاد الهيئة خاصّ بغير هذه الحالة، ولكن هل هذا الوجوب الخاصّ بغير هذه الحالة تعلّق بذات الصلاة أو تعلّق بالصلاة مع عدم هذه الحالة؟ طبعاً مقتضى الإطلاق هو


(1) لعلّ نظره(رحمه الله) إلى الفرد الذي يكون وجوده مستبطناً لفرض وجود فرد آخر كما هو الحال في المقام، فإنّ ترك الصلاة يستبطن فرض ترك قيد كونها في الحمّام، أمّا في غير هذه الصورة فمن الواضح أنّه لو كان صِرف الوجود ذا مصلحة فالفرد مشتمل على تلك المصلحة؛ لأنّه ينطبق عليه صرف الوجود، هذا إن قصد بالملاك المصلحة، وإن قصد به المحبوبيّة فقد تقدّم منه أنّ محبوبيّة صرف الوجود تلازم محبوبيّة كلّ حصّة على تقدير عدم الحصص الاُخرى، فتوجيه كلامه(رحمه الله) هنا هو ما قلناه: من أنّ النظر إنّما هو إلى فرد يكون تحقّقه مستبطناً لفرض تحقّق فرد آخر، فلا يلزم ثبوت الملاك فيه، لا بمعنى المصلحة ولا بمعنى الحبّ.

410

تعلّقه بذات الصلاة، لا بمعنى أنّ الصلاة واجبة حتّى عند تحقّق هذه الحالة، بل بمعنى أنّه عند عدم هذه الحالة يكون الواجب ذات الصلاة بلا أيّ قيد آخر، وهذا يعني أنّ ذات الصلاة هي ذات ملاك بلا قيد تلك الحالة، إذن فهي ذات ملاك حتّى في غير تلك الحالة وإن لم تكن واجبة في تلك الحالة(1).

ويرد عليه:

أوّلا: أنّ هذا لو تمّ فإنّما يتمّ في الموانع العقليّة التي توجب تقييد الوجوب مثل مانع العجز، ولا يتمّ في محلّ الكلام، فإنّه إذا افترضنا وجود المندوحة فلا موجب لتقييد الوجوب حتّى على الامتناع وإنّما يتقيّد الواجب بالحصّة المباحة.

وثانياً: لو سلّمنا أنّ المقام كالموانع العقليّة الموجبة لتقييد الوجوب قلنا: قد مضى منّا أنّ القيود الدخيلة في المصلحة على قسمين: أحدهما ما هو دخيل في اتّصاف الفعل بالملاك، وهذا ينفيه إطلاق الهيئة. والثاني ما هو دخيل في ترتّب الملاك خارجاً على الفعل، وهذا ينفيه إطلاق المادّة. ففي المقام لو كان المقصود من نفي دخل عدم تلك الحالة في الملاك نفي دخله في ترتّب المصلحة فهذا لا كلام فيه، فإنّه ليس المدّعى في الموانع العقليّة أنّ عدم العجز ـ مثلا ـ دخيل في ترتّب المصلحة على الفعل، وإنّما المدّعى أنّه دخيل في الاتّصاف، ولو كان المقصود نفي دخله في الاتّصاف فهذا إنّما ينفى بإطلاق الهيئة المفروض عدمه دون إطلاق المادّة.

وعلى أيّ حال فالصحيح أنّه لا يمكن إثبات وجدان المجمع لكلا الملاكين بناءً على الامتناع، فالتزاحم الملاكيّ ليس هو مقتضى القاعدة لا في باب التعارض ولا في باب الاجتماع.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 302 ـ 303.

411

 

هل تجري أحكام التزاحم في التزاحم الملاكيّ أو تطبّق عليه قوانين التعارض؟

المقام الثالث: لو افترضنا أنّنا استطعنا في موارد اجتماع الأمر والنهي أن نثبت وجود الملاكين في المجمع فقد صار هناك تزاحم بين الملاكين، فيقع الكلام في المقام الثالث، وهو: أنّ التزاحم الملاكيّ هل تجري فيه أحكام باب التزاحم الحقيقيّ الذي تقدّم وكان قسيماً لباب التعارض، أو أنّه تطبّق عليه قوانين باب التعارض؟

وهناك فروق حقيقيّة بين هذا التزاحم الملاكيّ وبين التزاحم الحقيقيّ، وهذه الفروق سبّبت أن نتساءل أنّ هذه الفروق مفرّقة بحسب الأحكام أو لا؟ وهذه الفروق يمكن تلخيصها فيما يلي:

أوّلا: أنّ المنافات في التزاحم الحقيقيّ ـ الذي فرغنا عنه في باب الضدّ ـ لم يكن بين الجعلين وكان بين الفعليّتين، بينما في التزاحم الملاكيّ يكون التنافي بحسب عالم الجعل لا الفعليّة فحسب، فلا يمكن ثبوت كلا الجعلين على موضوع واحد.

ثانياً: مادام التنافي في التزاحم الحقيقيّ بين الجعلين غير موجود فلا تكاذب بين الدليلين؛ لأنّ مفاد الدليل هو الجعل لا الفعليّة، بينما هنا يحصل التكاذب بين الدليلين للتنافي بين الجعلين.

ثالثاً: أنّه مادام الجعلان ثابتين في التزاحم الحقيقيّ بدليلهما فلا حاجة إلى أن يُعمل المولى عنايته لحلّ التنافي، وإنّما على العقل أن يشخّص ما هي الوظيفة العمليّة في المقام. وهذا بخلاف التزاحم الملاكيّ؛ إذ ليست المشكلة مشكلة أنّ المكلّف ماذا يصنع، بل هي مشكلة أنّ المولى على طبق أيّ الملاكين يجعل، فالمولى هو الذي يجب أن يعالج الموقف.

412

فعلى ضوء هذه الفوارق لابدّ أن نرى أنّ أيّاً من أحكام باب التعارض أو التزاحم يمكن تطبيقه هنا؟

قد ذهبت مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) نظراً إلى الفرق الثاني إلى أنّه تطبّق قواعد باب التعارض دون التزاحم.

أقول: ونحن نتكلّم هنا بلحاظ كلّ واحد واحد من مرجّحات باب التزاحم لكي نرى هل تأتي في التزاحم الملاكيّ أو لا، فنقول: إنّ مرجّحات باب التزاحم كانت عبارة عمّا يلي:

1 ـ الترجيح بالأهمّيّة القطعيّة.

2 ـ الترجيح باحتمال الأهمّيّة.

3 ـ الترجيح بأقوائيّة احتمال الأهمّيّة.

4 ـ ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل.

5 - ترجيح المقيّد بالقدرة العقليّة على المقيّد بالقدرة الشرعيّة(1).

فلنلحظ كلّ واحد من هذه المرجّحات تباعاً كي نرى مدى جريانها في التزاحم الملاكيّ فنقول:

 

أوّلا: الترجيح بالأهمّيّة القطعيّة:

لو علمنا بأهمّيّة ملاك الصلاة ـ مثلا ـ من ملاك مزاحمها ففي التزاحم الحقيقيّ لا إشكال في تقديم الأهمّ.

وفي التعارض البحت ـ أي: الذي لم نكشف فيه عن وجود الملاكين ـ


(1) أمّا الترجيح بالتقدّم الزمنيّ فلا موضوع له هنا؛ إذ لا يوجد تكليفان في زمانين مختلفين.

413

لا إشكال في أنّه لا أثر للعلم بأهمّيّة ملاك الصلاة على تقدير وجوده من ملاك متعلّق الدليل المعارض على تقدير وجوده؛ لأنّ هذا التقدير لم يحرز، فإنّنا وإن كنّا نعلم بالقضيّة الشرطيّة ـ أي: الأهمّيّة على تقدير الوجود ـ ولكنّ الشرط لا نعلم به.

وأمّا في التزاحم الملاكيّ فتوجد صورتان:

الصورة الاُولى: أن نعلم من الخارج بثبوت ملاك الصلاة ـ مثلا ـ بدليل لا يقاومه دليل المزاحم، وقد فرضنا علمنا بأهمّيّته على تقدير وجوده، وهنا لا إشكال في لزوم العمل على طبق الأهمّ؛ لأنّ المقتضي موجود بحسب الفرض، والمانع مفقود لمغلوبيّة ملاك المزاحم.

الصورة الثانية: أن يكون دليلنا على وجود ملاك الصلاة مثل إطلاق المادّة أو الدلالة الالتزاميّة لا العلم الخارجيّ، فدليل (صلّ) هو الذي دلّ على ثبوت ملاك الصلاة، ودلّ بدلالة التزاميّة على أنّ ملاكها أهمّ من ملاك حرمة الغصب؛ لعلمنا بأنّه على تقدير ثبوته أهمّ. وأمّا دليل (لا تغصب) فقد دلّ على حرمة الغصب، ومن الواضح أنّ هذه الحرمة لا تجامع أهمّيّة ملاك الصلاة، فيدلّ بالالتزام على عدم أهمّيّة ملاك الصلاة، فيصبح دالاًّ ـ بعلمنا بالملازمة بين ثبوت ملاك الصلاة وأهمّيّته ـ على نفي ملاك الصلاة، فأصبح طرفاً للمعارضة مع دليل الصلاة حتّى بلحاظ الملاك ويطبَّق على ذلك قانون التعارض البحت.

 

ثانياً: الترجيح باحتمال الأهمّيّة:

لو احتملنا الأهمّيّة في أحد الملاكين دون الآخر بأن علمنا أنّ ملاك الصلاة ـ مثلا ـ لو كان فهو أهمّ أو مساو فالدليل على ثبوت ملاك الصلاة لو كان من الداخل ـ أي: أنّ نفس الأمر بالصلاة كان دليلنا على ثبوت ملاك الصلاة ـ فدليل (لا تغصب) يعارضه؛ لأنّه يدلّ على حرمة الغصب وبالتالي على أنّه ليس ملاك

414

الصلاة أهمّ أو مساوياً؛ إذ مع أهمّيّة أو تساوي ملاك الصلاة لا معنى لحرمة الغصب، ولعلمنا بأنّه لو ثبت ملاك الصلاة لكان أهمّ أو مساوياً يدلّ على نفي ملاك الصلاة، فلابدّ من تطبيق قوانين باب التعارض، ولا معنى هنا للترجيح باحتمال الأهمّيّة بعد أن كان أصل الملاك غير معلوم.

أمّا لو كان دليلنا على ثبوت ملاك الصلاة دليلا خارجيّاً لا يقاومه دليل (لا تغصب) فقد يقال: إنّه أيضاً لا مجال للترجيح باحتمال الأهمّيّة؛ وذلك لأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في أصل التكليف؛ إذ لو كانت مصلحة الفعل أكثر من مفسدته فيكون الفعل محبوباً واجباً، ولو كانت متساوية للمفسدة فلا محبوبيّة فعليّة ولا مبغوضيّة كذلك، فلا وجوب ولا حرمة، فيكون الشكّ في الوجوب بنحو الشبهة الحكميّة خطاباً وملاكاً، بمعنى أنّه حتّى الملاك الفعليّ غير محرز. نعم، المحرز إنّما هو الملاك الشأنيّ، وأين هذا ممّا نقوله في التزاحم الحقيقيّ من الترجيح باحتمال الأهمّيّة من باب أنّ الانشغال به يرفع موضوع الحكم الآخر؛ لأنّ موضوعه هو عدم الانشغال بالأهمّ أو محتمل الأهمّيّة، بينما لا يرفع الانشغال بالآخر موضوع هذا، فيلزم العصيان بالتفصيل المتقدّم. هذا.

ولكنّ التحقيق أنّه إذا كان ملاك الصلاة ثابتاً بدليل خارجيّ لا يقاومه دليل حرمة الغصب، فنحن نعلم بكذب دليل حرمة الغصب؛ لأنّ ملاك الصلاة ثابت بحسب الفرض، وهو إمّا أهمّ أو مساو، وعلى كلا التقديرين لا مجال لتحريم الغصب. وأمّا دليل الأمر بالصلاة فلا نعلم بكذبه فنأخذ به.

 

ثالثاً: الترجيح بأقوائيّة احتمال الأهمّيّة:

لو كان احتمال الأهمّيّة في كلا الطرفين موجوداً إلاّ أنّه في أحد الطرفين أكبر فهنا لا مجال للترجيح بأكبريّة احتمال الأهمّيّة، سواءً كان الدليل على ملاك الصلاة

415

من الداخل أو من الخارج، فإنّه على كلا التقديرين يكون دليل (لا تغصب) نافياً لا لأصل ملاك الصلاة بل لمساواته وأهمّيّته، ولا علم بكذب (لا تغصب) ولا إحراز للحكم خطاباً ولا ملاكاً.

 

رابعاً: ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل:

لو كان للواجب بدل عرضيّ كما في باب الصلاة والغصب مع وجود المندوحة، فأحد المرجّحات في باب التزاحم هو تقديم ما ليس له بدل على ما له البدل، وهذا يطبّق في المقام لو علم بوجود ملاك ما ليس له بدل من الخارج وذلك بالقطع الوجدانيّ؛ لأنّ المقتضي موجود وهو ملاك حرمة الغصب والمانع مفقود؛ فإنّ ما يتصوّر كونه مانعاً هو مصلحة الصلاة وهذه لا تمنع؛ لأنّها لا اقتضاء لها تجاه هذا الفرد بالخصوص؛ إذ بالإمكان الصلاة في مكان آخر.

أمّا لو كان الملاك محرزاً بنفس إطلاق الدليل فسوف يقع التكاذب بنحو لا يثبت أصل الملاك؛ لأنّ الإطلاق البدليّ لدليل (صلّ) يشمل الصلاة في المكان المغصوب، وهو لا يلائم مع أصل ثبوت الملاك لحرمة الغصب؛ إذ لو كانت مفسدة في الغصب لما كان يقتضي ملاك الصلاة جعل وجوبها مطلقاً يشمل الصلاة في المكان المغصوب؛ إذ كان بالإمكان تحصيل ملاك الصلاة بالصلاة في مكان آخر، إذن فالإطلاق البدليّ لدليل وجوب الصلاة ينفي بالالتزام أصل مفسدة الغصب في المجمع، فيكون التعارض تعارضاً بحتاً.

 

خامساً: ترجيح المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة:

وهذا حاله حال الترجيح بالأهمّيّة، أي: إنّه لو كانت الصلاة هي المشروطة بالقدرة العقليّة على تقدير ثبوت ملاكها فلو كان دليل ثبوت ملاكها عبارة عن إطلاق (صلّ) وقع طرفاً للمعارضة لإطلاق (لا تغصب). ولو كان ملاكها قد ثبت

416

بدليل خارجيّ لا يقاومه دليل المزاحم تقدّم على دليل حرمة الغصب.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّه لو علم بالملاك من الخارج وأنّه أهمّ أو بحكم الأهمّ ـ كأن يكون مشروطاً بالقدرة العقليّة في مقابل المشروط بالقدرة الشرعيّة، أو يكون تعيينيّاً في مقابل البدليّة ـ تقدّم على الآخر باعتبار العلم ببطلان ملاك الآخر. وأمّا لو لم يُعلم بثبوت الملاك من الخارج وكان إحرازه من الداخل ـ أي: من إطلاق المادّة أو الدلالة الالتزاميّة ـ أو احتملنا الأهمّيّة في كلّ واحد من الطرفين وقع التعارض لا محالة.

الآن نريد أن نتكلّم بعد فرض وقوع التعارض بين الدليلين ـ ولو بأن نختار مبنى المشهور القائل بأنّ التزاحم الملاكيّ لا يلحق بالتزاحم الحقيقيّ ـ في أنّ إحراز الملاكين هل له أثر بالنسبة للخطوات الثلاث التي تتّخذ بشأن المتعارضين أو لا؟

والخطوات الثلاث عبارة عن أنّه: أوّلا يحاول الجمع بينهما جمعاً عرفيّاً، وثانياً بعد العجز عن ذلك يفتّش عن الترجيح السنديّ لو كان التعارض بنحو التباين لا العموم من وجه، وثالثاً يقال بالتساقط، فنقول:

أمّا الجمع العرفيّ فيظهر من صاحب الكفاية أنّ كون الملاك محرزاً في مادّة التعارض هو بنفسه يمهّد لجمع عرفيّ، فإنّه إذا أحرزنا الملاكين وكان أحدهما أقوى حملنا دليل الحكم الآخر على الحكم الاقتضائيّ الشأنيّ ودليل ذي الملاك الأقوى على الحكم الفعليّ(1)، وهذا جمع عرفيّ في فرض إحراز الأهمّيّة، وإذا سلّمنا بعرفيّة هذا الجمع لا تصل النوبة إلى الخطوتين الأخيرتين.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 242 و 273 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

417

وتعليقنا على ذلك: أنّنا نتساءل هل يُعمل هذا الجمع العرفيّ إذا كان الملاك محرزاً من الخارج، أو يعمله إذا كان محرزاً من الداخل؟

ففي الفرض الأوّل لا معنى للجمع العرفيّ، فإنّ الجمع العرفيّ فرع التعارض وهنا لا تعارض؛ للعلم التفصيليّ بكذب ما هو غير أهمّ.

وفي الفرض الثاني نقول هنا صورتان: فتارة يفرض التعارض بنحو العموم من وجه مثل (أكرم الهاشميّ) و(لا تكرم الفاسق) وكنّا نعلم من الخارج أنّ الملاك في الوجوب متى ما ثبت فهو أقوى من ملاك الحرمة. واُخرى يفرض التعارض بنحو التباين مثل (صلّ) و(لا تصلّ).

أمّا في الصورة الاُولى فهنا كما يمكن الجمع بين الدليلين بالتحفّظ على إطلاق كلّ منهما لمادّة الاجتماع مع حمل (لا تكرم الفاسق) على الشأنيّة، كذلك يمكن تقييد هذا أو ذاك بإخراج مادّة الاجتماع عن إطلاقه، ولا موجب عرفاً لأولويّة أحد هذين التصرّفين على الآخر ونسبة العرف إلى كلّ من التصرّفين على حدّ سواء، والتعارض محذور يرفع بكلّ من التصرّفين والتأويلين.

وأمّا في الصورة الثانية فهنا حلّ التعارض لا يمكن أن يكون بالتقييد، فإنّهما واردان في موضوع واحد، لكن مع هذا لا نقبل الجمع العرفيّ بالحمل على الاقتضاء، فإنّ الحمل على الاقتضاء معناه أنّه حكم اقتضائيّ لولائيّ وأنّه لولا مصلحة غالبة لكانت الحرمة ثابتة، وهذا بحسب النظر العرفيّ ليس جمعاً وإنّما هو إلغاء.

وأمّا الترجيح السنديّ بعد فرض العجز عن الجمع العرفيّ فهل يجري ذلك في المقام بلا تأثّر بمعرفة اجتماع الملاكين أو لا؟

توضيح الكلام في ذلك: أنّ التعارض لو كان بنحو العموم من وجه فلا تجري المرجّحات السنديّة حتّى لو لم يحرز الملاك؛ لأنّ التعارض لا يسري إلى السند، ولو كان بنحو التساوي من حيث الموضوع والتباين في المفاد، فلا بأس بالرجوع

418

إلى المرجّحات السنديّة حتّى لو أحرز الملاكان، فإنّ التعارض على كلّ حال مستحكم بين الدلالتين المطابقيّتين على الحكم الفعليّ وتسري المعارضة إلى السند ويقدّم ما هو الأرجح سنداً لو كان ويسقط سند الآخر، وحينئذ لو كان الملاك محرزاً بنفس الدليل سقط إحرازه، ولو كان محرزاً من الخارج بقي إحرازه ثابتاً على حاله.

وللمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) هنا عبارة، وهي: أنّه «يقدّم الأقوى منهما دلالةً أو سنداً، وبطريق الإنّ يحرز به أنّ مدلوله أقوى مقتضياً»(1). ولقوله: «بطريق الإنّ يحرز به...» تفسيرات ثلاثة:

الأوّل: أن يقال(2): إنّ الدليل معلول للملاك الذي دلّ عليه، فيحرز بأقوائيّة المعلول أقوائيّة العلّة.

وهذا واضح البطلان؛ إذ من المعلوم أنّ الدليل ليس معلولا للمدلول حتّى نرى أنّهما هل يكونان من سنخ معلول وعلّة تكون أقوائيّة المعلول دليلا على أقوائيّة العلّة أو لا، وإنّما الدليل يكون متأخّراً ـ بالتأخّر الطبعيّ ـ عن وجود المدلول بما هو في صقع الدليل نظير تأخّر العلم عن المعلوم.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 273 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(2) كتبت هذه التفسيرات من دفتري الحاكي عن دورة سابقة. أمّا ما هو الموجود في دفتر بعض تلامذة اُستاذنا(رحمه الله)في التفسير الأوّل والذي ضرب عليه القلم وادّعى أنّه لم يفهم مقصود السيّد الاُستاذ فهو كما يلي: نسبة الحكم إلى الدليل نسبة المعلول إلى العلّة، وقوّة العلّة تستلزم قوّة المعلول، فكلّما يكون الدليل أقوى فالحكم المستكشف منه يكون أقوى، إلاّ أنّ هذا واضح البطلان؛ فإنّ المنكشف ليس معلولاً للكاشف وإنّما انكشف المنكشف بالكاشف، فالانكشاف هو المعلول دون المنكشف، انتهى.

419

الثاني: ما قاله بعض: من أنّ دليل ترجيح أحد الدليلين على الآخر كاشف عن أهمّيّة ملاك ذاك الحكم بناءً على أنّ الترجيح يكون من باب الطريقيّة لا الموضوعيّة، فإنّما نصبه المولى حفظاً لملاكات الواقع.

وفيه: أنّ أدلّة الوظيفة الظاهريّة ليس نصبها ناشئاً عن وجود الملاك في كلّ فرد فرد من الموارد، بل نصبها ناشئ عن وجود الملاك في المجموع من حيث المجموع، بمعنى أنّ المولى لمّا رأى ـ مثلا ـ أنّه لو أمر باتّباع خبر الأعدل استفاد العبد في الخارج عشرين ملاكاً من مجموع ملاكات الأحكام التي ورد فيها خبر العادل معارضاً بخبر الأعدل، ولو لم يأمر بذلك لم يستفد العبد هذا المقدار، فلذلك أمر باتّباع خبر الأعدل عند المعارضة بخبر العادل، فليس ذلك كاشفاً عن الملاك الشخصيّ حتّى يجعل دليلا على الأهمّيّة.

الثالث: أنّه بعد أن فُرضت حجّيّة أحد الدليلين لأجل الترجيح دون الآخر فقد دلّ ذلك الدليل بالمطابقة على فعليّة ذلك الحكم وبالالتزام على أقوائيّة ملاكه، فبطريق الإنّ اُحرز تعبّداً أقوائيّة ملاكه.

ثُمّ إنّنا وإن قلنا بالرجوع إلى المرجّح السنديّ عند إحراز الملاكين ـ لسريان التعارض إلى السند ـ ولكن قد يقال بأنّ هذا إنّما يتمّ إذا كان إحراز الملاكين من الخارج ولم نقبل الإحراز الداخليّ بلحاظ الدلالة الالتزاميّة مثلا، بدعوى أنّ الالتزاميّة تابعة للمطابقيّة، أمّا لو لم نرَ الالتزاميّة تابعة للمطابقيّة وقلنا في المقام: إنّه حتّى مع سقوط المطابقيّة نأخذ بالالتزاميّتين، وإنّ الالتزاميّة تكون حجّة بصورة مستقلّة عن المطابقيّة فحينئذ يقال بأنّ التعارض لا يسري إلى السند؛ إذ الدلالة الالتزاميّة لا زالت باقية على الحجّيّة وما معنى بقاؤها بلا سند؟! إذن، فلا معنى للرجوع إلى المرجّحات السنديّة.

إلاّ أنّ التحقيق عدم صحّة هذا التفصيل والصحيح هو الرجوع إلى المرجّحات

420

السنديّة مطلقاً، وذلك بتقريبين:

التقريب الأوّل: هو أنّ هذه المرجّحات العلاجيّة أهمّ أدلّتها هو الروايات، ومن الواضح أنّ العنوان المأخوذ في موضوع الأخبار العلاجيّة هو أنّه جاء خبران مختلفان، ومن الواضح أنّ هذا العنوان صادق في المقام(1) سواء اقتضت صناعة الاُصول سريان التعارض إلى السند أو لا، فإنّه لم يؤخذ في موضوع تلك الروايات عنوان سراية التعارض إلى السند وإنّما المأخوذ عنوان الاختلاف، إذن فنفس الأخبار العلاجيّة دليل على أنّ الإمام جعل الاختلاف ضابطاً كاملا لسريان التعارض إلى السند وطرح سند الآخر بالترجيح.

بل لو استشكلنا في صدق التعارض السنديّ في المقام فقلّ ما يتّفق عدم ثبوت دلالة التزاميّة غير مبتلاة بالمعارض في باب التعارض، فيلزم إلغاء الأخبار العلاجيّة عرفاً.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّ الدلالة الالتزاميّة لو كانت التزاميّة لإطلاق الكلام، كَأن يدلّ ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾ بالإطلاق على صحّة البيع المعاطاتيّ، ويدلّ هذا الإطلاق بالالتزام على صحّة الإجارة المعاطاتيّة، فهنا من الواضح أنّ المدلول المطابقيّ ـ وهو الإطلاق ـ لو سقط بالتعارض عن الحجّيّة لم يسقط السند، ولو سقط الإطلاق أخذنا بدلالته الالتزاميّة بنفس ذلك السند بناءً على أنّ الالتزاميّة لا تسقط بسقوط المطابقيّة.


(1) وبكلمة اُخرى: قد يقال: إنّ عنوان (خبران مختلفان أحدهما يأمر والآخر ينهى) ونحو ذلك لا يشمل فرض التعارض بالعموم من وجه؛ لأنّ الاختلاف فيه ليس صارخاً بذاك الشكل، ولكن لا شكّ في شموله للتعارض الكامل بين المدلولين المطابقيّين ولو لم يكن تعارض بين الالتزاميّين.

421

أمّا في المقام فالدلالة الالتزاميّة مستفادة من أصل الخطاب لا من إطلاقه، فلو قُصد بكون الدلالة الالتزاميّة مستقلّة عن المطابقيّة في الحجّيّة أنّ الراوي شهد بشهادتين: شهد بالمدلول المطابقيّ وشهد بالمدلول الالتزاميّ، فإن سقطت الاُولى فلتبق الثانية فهنا من الواضح أنّه إذا سقطت الاُولى كان معنى ذلك سقوط سند الشهادة الاُولى، غاية الأمر أنّ التعارض السنديّ يكون بين سندي المدلولين المطابقيّين، فيدخل في الأخبار العلاجيّة.

نعم، لو كان مدّعى القائل باستقلال الدلالة الالتزاميّة في الحجّيّة في المقام: أنّه يتحصّل من كلام الراوي كلام واحد، وهو (صلّ) مثلا، وهذا يدلّ على شيئين: الوجوب والملاك، والملاك يثبت وإن لم يثبت الوجوب، فهنا لا يسري التعارض إلى السند(1).

وأمّا التساقط بعد عدم إمكان الجمع العرفيّ وعدم إمكان الترجيح فإذا افترضنا


(1) كأنّ المقصود أنّه لو كانت المطابقيّة والالتزاميّة جزءين عرضيّين لمدلول واحد، بحيث أمكن افتراض صدق السندين ولو بصرفهما إلى الجزءين غير المتعارضين وافتراض خروج الجزءين المتعارضين أو أحدهما عن المقصود كما هو الحال في المتعارضين بالعموم من وجه، أمكن القول بأنّ التعارض لم يسر إلى السند، كما نقول بذلك في العموم من وجه، فإنّنا نصدّق السندين ولو بلحاظ مادّتي الافتراق ونفترض خروج مادّة الاجتماع عن المقصود في أحد النقلين أو كليهما، فالخلل إنّما هو في الدلالة دون السند.

ولكن في المقام تكون الدلالة الأصليّة الأوّلية عبارة عن المطابقيّتين وتفرّعت عنهما الالتزاميّتان، ولا يصحّ عرفاً افتراض صدق كلا السندين بصرفهما إلى الالتزاميّتين وافتراض خروج إحدى المطابقيتين عن مقصود الناقل، فالتعارض سار إلى سندي المطابقيّتين حتماً، سواءً آمنّا بأنّ الالتزاميّة تابعة للمطابقيّة في الحجّيّة فقد سقط السند حتّى بلحاظ الالتزاميّة، أو آمنّا بأنّ المطابقيّة والالتزاميّة بمنزلة شهادتين لو سقطت الاُولى سنداً لا يؤدّي ذلك إلى سقوط الثانية سنداً.

422

أنّنا نقول بالتساقط الجزئيّ في موارد التعارض، أي: إنّنا نلتزم بنفي الثالث، فلا فرق بين فرض إحراز الملاكين وعدمه.

أمّا لو التزمنا بالتساقط الكلّيّ في باب التعارض ـ كما هو الصحيح ـ فالفرق بين الفرضين أنّه في غير موارد إحراز الملاكين قد نرجع بعد التساقط إلى أصل ينفي كلا الحكمين. أمّا في المقام فالرجوع إلى أصل ينفي كلا الحكمين إنّما يجوز لو لم يفوّت الملاكين، كما لو ورد (صلّ) و(لا تصلّ) وأحرزنا الملاكين فنرجع بعد التساقط إلى الأصل العمليّ ولا بأس به، سواءً كان مفاده الوجوب أو الحرمة أو الإباحة، فإنّ الأوّل يطابق (صلّ) والثاني يطابق (لا تصلّ) والثالث وإن كان ينفي كلا الحكمين لكنّه يطابق فرض تكافؤ الملاكين.

ونذكر مثالين لعدم جواز الرجوع إلى الأصل المفوّت لكلا الملاكين:

المثال الأوّل: أن يقع التزاحم بين أمرين بضدّين بينهما تضادّ دائميّ ولهما ثالث، كالالتفات إلى الجنوب والالتفات إلى الشمال (أمّا لو كان التضادّ اتفاقيّاً دخل في التزاحم الحقيقيّ)، فالتعارض هنا يكون عندنا تعارضاً بين إطلاق الدليلين المقتضي للتعيينيّة. ولكن لو بنينا على ما يقوله المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّ التعارض بين أصل الخطابين فهنا لو افترضنا إحراز الملاكين لم يمكن الرجوع إلى أصالة البراءة عن الوجوبين؛ لأنّها تفوّت الملاكين، ونحن نعلم بأنّ الملاكين لو كانا متساويين ثبت التخيير وإلاّ تعيّن أحدهما. نعم، يمكن الرجوع إلى البراءة عن تعيين أحدهما.

المثال الثاني: أن يرد دليل مطلق ودليل أخصّ، لكنّ الأخصّ يكون شبيهاً للمتساوي بنحو لا يصلح أن يكون مقيّداً، مثل (لا تصلّ) و(صلّ في مكان نظيف) لو فُرض أنّ الصلاة في مكان غير نظيف فرد نادر، فلا يمكن تقييد المطلق به، فلو فُرض عدم إحراز الملاكين أمكن إجراء البراءة عنهما بحيث يجوز الإتيان بمادّة

423

الافتراق من طرف النهي. أمّا مع فرض إحراز الملاكين فلا يجوز الإتيان بمادّة الافتراق من طرف النهي؛ لأنّها مفوّتة لكلا الملاكين.

 

حكم العمل في المجمع بناءً على الأقوال:

التنبيه السادس: في البحث عن صحّة العمل في المجمع على الأقوال:

فلو قيل بامتناع الاجتماع مع تقديم جانب الوجوب فلا إشكال في صحّة العمل حتّى ولو كان عباديّاً، وسواءً علم المكلّف بملاك الحرمة المغلوب أو كان جاهلا.

ولو قيل بجواز الاجتماع فلو لم توجَد المندوحة وقع التزاحم بين الأمر والنهي، فلو قلنا بالترتّب أو أحرزنا الملاك صحّ العمل(1)، وإلاّ لم يصحّ العمل سواءً كان تعبّديّاً أو توصّليّاً. ولو وُجدت المندوحة فهنا لا تعارض ـ لجواز الاجتماع ـ ولا تزاحم ـ لوجود المندوحة ـ إلاّ على مبنى الميرزا القائل باختصاص متعلّق الخطاب بالمقدور عقلا وشرعاً، والحرمة تجعله غير مقدور؛ لأنّه على الأقلّ ملازم للحرام(2) فلابدّ من تصحيحه بالترتّب أو بالملاك.

وأمّا إذا بنينا على امتناع الاجتماع وقدّمنا النهي: فتارة يُفترض العلم بالنهي،


(1) نعم، بناءً على كون ملاك جواز الاجتماع هو تعدّد العنوان لا المعنون مع كون العمل قربيّاً يبطل العمل، لكن هذا داخل في التحفّظ الثالث له(رحمه الله) الذي تحفّظ به عن مسألة جواز الاجتماع بمجرّد تعدّد العنوان، ولعلّه لهذا لم يرَ هنا حاجة إلى الإشارة إلى ذلك؛ إذ كان فرض جواز الاجتماع في العباديّات بناءً على هذا التحفّظ يساوق فرض تعددّ المعنون.

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 1 و 2، ص 442.

424

واُخرى يُفترض الجهل به، فإن كان معلوماً فيقال بالتفصيل بين ما إذا كان عباديّاً فيبطل؛ لاستحالة التقرّب به. وأمّا إذا كان توصّليّاً فيصحّ لو اُحرز الملاك وإلاّ لم يصحّ؛ لعدم العلم باستيفاء الملاك به. وأمّا مع الجهل فقد يقال بأنّ المجمع يكون صحيحاً ولو كان عباديّاً، وسيتّضح الحال في ذلك.

 

الصلاة في المكان المغصوب مع الجهل:

ثُمّ إنّ المشهور قد أفتوا بصحّة الصلاة في المكان المغصوب مع الجهل به بينما أفتوا بالبطلان في صورة العلم، وهذه الفتوى هي التي أثارت الإشكال المعروف والذي أجاب عليه في الكفاية بعدّة أجوبة(1)، وهذا الإشكال هو: أنّه لو قلنا بجواز الاجتماع فلتصحّ الصلاة مطلقاً، وكذا لو قلنا بالامتناع مع تقديم الأمر، أمّا مع تقديم النهي فتتقيّد الصلاة بالمكان غير المغصوب، فتبطل في المكان المغصوب مطلقاً، فما معنى التفصيل؟!

وما قيل أو يمكن أن يقال في مقام تخريج هذه الفتوى عدّة وجوه:

الوجه الأوّل: ما اُشير إليه في الكفاية(2)، وحاصله مركّب من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الأحكام إنّما تكون متضادّة ومتنافية بمرحلة فعليّتها لا بمرحلة وجودها الإنشائيّ.

الثانية: أنّ الحكم ما لم يصل لا يصبح فعليّاً.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 246 ـ 248 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(2) أشار إليه في الكفاية بقوله في ص 248 بحسب الطبعة الماضية: وأمّا لو قيل بعدم التزاحم إلاّ في مقام فعليّة الأحكام لكان ممّا يسعه وامتثالا لأمرها بلا كلام.

425

وهذا ينتج أنّه بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي إنّما يكون الامتناع والتقديم فيما إذا كان الأمر والنهي فعليّين، وذلك بالوصول وإلاّ لما كان بينهما تضادّ، إذن فلا مانع عن التمسّك بإطلاق الوجوب بلحاظ حال الجهل بالحرمة.

ويرد عليه:

أوّلا: النقض بأنّه لو تمّ هذا للزم جريانه في سائر موارد التعارض، فلو ورد (أكرم كلّ هاشميّ) وورد (لا تكرم أيّ فاسق) وقدّم الدليل الثاني على الأوّل لمرجّح مّا فلا إشكال في سقوط الوجوب عن إكرام الهاشميّ الفاسق وإن لم يُعلم بفسقه، مع أنّ نفس البيان يأتي هنا.

بل لو تمّ هذا الكلام للزم إسراؤه إلى مثل موارد التخصيص أيضاً، فلو قال في الدليل الثاني: (لا تكرم الهاشميّ الفاسق) فهنا أيضاً يمكن أن يقال: إنّ الخاصّ إنّما يقيّد العامّ بالمقدار الذي يكون مضادّاً له، والتضادّ إنّما يكون بلحاظ الفعليّة التي هي عند الوصول، ومع عدم العلم بالفسق لم يتمّ الوصول.

وثانياً: الحلّ بأنّه لو اُريد بالفعليّة التنجّز بحكم العقل وترتّب العقاب على الترك منعنا المقدّمة الاُولى؛ إذ يكفي في التعارض أن يكون على طبق الحكم الحبّ والبغض، فيتمانعان وإن لم يصل إلى مرحلة التنجّز. ولو اُريد بالفعليّة الإرادة والحبّ الفعليّ في مقابل مجرّد إنشاء المعنى باللفظ منعنا المقدّمة الثانية؛ فإنّ كلّ دليل ظاهر في أنّ المولى في مقام التحريك فعلا، فيكشف عن فعليّة الحكم وإن لم يصل الدليل(1).


(1) ولو اُريد بالفعليّة كون المولى في مقام التحريك فعلا بالنحو الذي لا يعقل اجتماعه مع البراءة الشرعيّة منعنا المقدّمة الاُولى؛ فإنّ التعارض والتمانع يحصل بما هو أقلّ من ذلك، أي: بمجرّد الحبّ والبغض بالنحو الذي يجتمع مع البراءة الشرعيّة.

426

الوجه الثاني: أيضاً مستفاد من كلمات المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1)، لكن لا بنحو التبنّي بل بنحو الإشارة، وحاصله: أنّ الأحكام الشرعيّة لا إشكال في أنّها تتبع المصالح والمفاسد. وفي هذا الوجه يُدّعى أنّها تتبع المصالح والمفاسد لا بما هي هي بل بما هي موجبة للحسن والقبح، والمصلحة والمفسدة ما لم تصلا لا توجبان الحسن والقبح.

وهذا الوجه أيضاً غير صحيح ويرد عليه:

أوّلا: النقض السابق.

وثانياً: أنّ هذا البيان لو تمّ لاختصّ بالجهل بالموضوع دون الجهل بالحكم؛ لأنّ العلم بالمفسدة كاف في تأثيرها في القبح، مع أنّ الذين أفتوا بصحّة الصلاة مع الجهل لم يفرّقوا بين الجهل بنحو الشبهة المصداقيّة والجهل بنحو الشبهة الحكميّة.

وثالثاً: أنّ ما قام عليه الدليل باعتبار حكمة المشرّع إنّما هو تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد لا لهما عند تأثيرهما في الحسن والقبح، ومن الواضح أنّه ليست كلّ مصلحة مستتبعة للحسن، ولا كلّ مفسدة مستتبعة للقبح، فما هي النتيجة المقصودة من القول بتبعيّة الأحكام للمصلحة والمفسدة بما هي مؤثّرة للحسن والقبح؟ إن كان المقصود تخصيص الحكم بفرض وصول العنوان الذي فيه مصلحة


(1) مستفاد من قوله ـ في الكفاية، ج 1 ص 247 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ ـ: «بناءً على تبعيّة الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً، لا لما هو المؤثّر منها فعلا للحسن أو القبح؛ لكونهما تابعين لما عُلم منهما كما حقّق في محلّه»، فإنّ هذا الكلام ـ كماترى ـ يشير إلى إمكانيّة البناء على خلاف هذه التبعيّة، أي: البناء على تبعيّة الأحكام لما هو المؤثّر فعلا للحسن والقبح لا الأقوى منهما ولو غير المؤثّر في الحسن والقبح، والتأثير في الحسن والقبح تابع للوصول.