352

 

الفرق العقليّ بين الأمر والنهي من جهة الامتثال والعصيان:

الجهة الثالثة: أنّه لو فرضنا أنّ النهي كان نهياً واحداً وغضضنا النظر عن قرينة الانحلال، أو فرضنا سقوطها بقرينة اُخرى فأصبح النهي كالأمر في كونه حكماً واحداً، بقي هنا فرق عقليّ بين النهي والأمر من ناحية الامتثال والعصيان، وهو أنّ الأمر يُمتثل بإتيان فرد واحد ولايُعصى إلاّ بترك كلّ الأفراد، والنهي لا يُمتثل إلاّ بترك كلّ الأفراد ويُعصى بالإتيان بفرد واحد، وبه يسقط النهي فيجوز ارتكاب باقي الأفراد، وذلك لما اشتهر بينهم من أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الافراد.

وهذا فارق عقليّ في مقام الامتثال والعصيان غير الفارق الذي مضى في الجهة الثانية الراجع إلى مسألة الانحلال وعدمه. وبهذا التمييز بين الجهتين اتّضح بعض الأخطاء، من قبيل ما جاء في تقرير المحقّق العراقيّ(رحمه الله) من تعليل سقوط الأمر بالعصيان وعدم سقوط النهي به، بأنّ الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ أفرادها وتوجد بوجود فرد واحد(1).

فقد عرفت أنّ كون الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الأفراد أجنبيّ عن عدم سقوط النهي بالعصيان، ومرتبط بالجهة الثالثة. ولولا الانحلال لسقط النهي بالعصيان بالفرد الأوّل، ومع الانحلال لا يسقط النهي نهائيّاً بعصيان بعض أفراده؛ لأنّه في الحقيقة نواه عديدة وله امتثالات وعصيانات عديدة وكلّ نهي يسقط بعصيانه هو.

واستشكل المحقّقون المتأخّرون عن صاحب الكفاية فيما كان يقوله المشهور:


(1) راجع نهاية الأفكار مباحث الألفاظ طبعة جماعة المدرّسين بقم، ص 406.

353

من أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الأفراد، وأنّ الأمر يمتثل بفرد واحد والنهي لايمتثل إلاّ بترك كلّ الأفراد وكأنّهم ربطوا ـ ولو ارتكازاً ـ هذا البحث الاُصوليّ ببحث فلسفيّ وهو أنّ الكلّيّ الطبيعيّ هل هو موجود في الخارج بعدد الأفراد وتكون نسبته إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء، أو أنّ نسبته إليها نسبة الأب إلى الأبناء؟

والمشهور الصحيح هو الأوّل، فيقال: إنّه على الثاني يصحّ القول بأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الأفراد. أمّا على الأوّل فلا يصحّ ذلك؛ إذ ليس للطبيعة وجودٌ واحد يوجد بفرد واحد وينعدم بانعدام كلّ الأفراد، وإنّما لها وجودات كثيرة بعدد الأفراد. فإذا كان التكليف متعلّقاً بوجود واحد أمراً أو نهياً كان امتثاله بذاك الفرد فعلا أو تركاً، وإذا كان متعلّقاً بكلّ الوجودات فامتثاله يكون بفعل جميع الأفراد أو تركها بلا فرق في ذلك بين الأمر والنهي.

إلاّ أنّ هذا الربط بين البحثين في غير محلّه؛ فإنّ ما يقال في الفلسفة: من كون نسبة الكلّيّ الطبيعي إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء إنّما هو بلحاظ الوجود الخارجيّ، أمّا بلحاظ الوجود الذهنيّ الذي هو مصبّ التكاليف ـ ولو بما هو مرآة للخارج ـ فالأمر تماماً على العكس، فالوجود الكلّيّ في الذهن الملحوظ مرآةً للخارج لا ينتفي إلاّ بانتفاء تمام الأفراد ويوجد بوجود فرد واحد، ونسبته إلى الأفراد نسبة الأب إلى الأبناء.

354

 

تنبيهان متعلّقان بالجهتين السابقتين:

الجهة الرابعة: تشتمل على تنبيهين مربوطين بالجهتين السابقتين:

التنبيه الأوّل: أنّ هاتين الخصيصتين اللتين يمتاز النهي بهما عن الأمر في الجهة الثانية والثالثة ثابتتان من دون فرق بين تفسير النهي بالزجر عن الفعل أو بطلب الترك، ولذا لو صرّح بطلب الترك وجدنا كلتا الخصوصيّتين ثابتتين، فسواء زجر المولى عن الفعل أو طلب تركه يكون الغالب صدور ذلك من المفسدة في الفعل وكون المفسدة انحلاليّة، وهذه هي نكتة الجهة الثانية. والطبيعة سواءً زجر عنها أو طلب تركها اقتضى ذلك إعدامها ولا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ أفرادها، وهذه هي نكتة الجهة الثالثة.

التنبيه الثاني: أنّ ما قلناه من أنّ النهي إذا تعلّق بالجامع اقتضى ترك جميع الأفراد إنّما هو في الجامع الحقيقيّ دون الجامع الانتزاعيّ كعنوان (أحدهما)، فلو قيل: (اترك أحدهما) أو: (لا تأتي بأحدهما)، رأينا أنّه يُكتفى بترك واحد منهما كما يُكتفى في: (افعل أحدهما) بفعل واحد.

وحلّ اللغز: إنّ هذا ليس جامعاً حقيقيّاً وإنّما هو مجرّد رمز ذهنيّ يراد منه أحياناً: التعويض عن ذكر واحد معيّن، كما لو قال: (جاء أحدهما) وكان يُرمز به إلى زيد. واُخرى: الرمز إلى فرد غير معيّن، أي: على سبيل البدل، كما لو قال: (ائت بأحدهما)، وآية ذلك: أنّ الجامع لا يُعقل أن ينطبق على الفرد بخصوصيّاته، فإنّ الجامع لا يتحصّل إلاّ بإلغاء الخصوصيّات.

فعنوان (الإنسان) الذي هو جامع بين الأفراد لا ينطبق على خصوصيّة طول الأفراد وقِصَرها ونحو ذلك، بينما عنوان (أحدهما) يمكن تطبيقه على الخصوصيّتين، كأن يقال: (إحدى الخصوصيّتين)، إذن فحينما يقول مثلا: (اترك

355

أحدهما)، لم يطلب ترك الجامع، وإنّما رمز إلى فرد واحد على تردّده وطلب ترك فرد واحد، فكان يكفي في الامتثال أن يترك فرداً واحداً منهما(1). هذا تمام الكلام في صيغة النهي، ويمكن أن تقاس مادّة النهي على صيغته في جُلّ ما ذكرناه فلا نستأنف بحثاً عنها.


(1) الصحيح هو الفرق بين جملة (اترك أحدهما) وجملة (لا تفعل أحدهما)، فيُفهم من الأوّل كفاية ترك فرد واحد على سبيل التخيير، ويُفهم من الثاني لزوم ترك كلا الفردين. والسرّ في ذلك: أنّ عنوان (أحدهما) بالآخرة جامع ـ نعم، هو جامع انتزاعيّ، ولهذا أمكن انتزاعه عن الخصوصيّات، بخلاف الجامع الحقيقيّ الذي لا يكون إلاّ بإلغاء الخصوصيّات ـ وهذا الجامع كالجامع الحقيقيّ لا ينتفي إلاّ بانتفاء كلّ أفراده، ولكن قد اُخذ فيه لغةً الإشارة إلى فرد واحد على سبيل البدل، أي: إنّه اُشرب معنى التنوين، فكما يوجد فرق بين قولنا: (اترك خمراً) وقولنا: (لا تقرب خمراً)، حيث يُفهم من الأوّل كفاية ترك خمر واحد، ويُفهم من الثاني لزوم ترك كلّ خمر، أو بين قولنا: (اترك كذباً) وقولنا: (لا تتكلّم بكذب)، فيُفهم من الأوّل كفاية ترك كذب واحد، بينما يُفهم من الثاني لزوم ترك كلّ كذب، كذلك الحال في مثال: (اترك أحدهما) و(لا تفعل أحدهما).

ونكتة ذلك هي الفرق بين النكرة في سياق النفي والنكرة في سياق الإثبات فـ (اترك) إثباتٌ، وإذا انصبّ على المنوّن بتنوين الوحدة وما شابه ذلك أعطى معنى الأمر بإلباس الترك على فرد واحد على سبيل التخيير. و(لا تفعل) نفيٌ ينهى عن تحقّق فرد واحد في الخارج، أي: لابدّ من تطهير لوح الخارج عن الفرد الواحد، وهذا لا يكون إلاّ بترك كلّ الأفراد؛ إذ أيّ فرد لو جيء به فقد جيء بالفرد الواحد.

357

النواهي

الفصل الثاني

 

 

اجتماع الأمر والنهي

 

 

○ تحرير محلّ النزاع.

○ نكتة استحالة الاجتماع في مثل (صلّ) و(لا تصلّ).

○ الاختلاف بين الأمر والنهي بالإطلاق والتقييد.

○ الاختلاف بين الأمر والنهي في العنوان.

○ تنبيهات.

 

359

 

 

 

 

 

تحرير محلّ النزاع

الأمر والنهي لهما معروض بالذات ومعروض بالعرض: فتارة: يختلفان في معروضهما الذاتيّ وفي معروضهما العرضيّ، كما في: (صلّ) و(لا تكذب)، وهذا لا كلام فيه. واُخرى: يتّحدان في كلا المعروضين كما في: (صلّ) و(لا تصلّ)، وهذا يجب أن تُفرض استحالة اجتماع الأمر والنهي فيه أصلا موضوعيّاً وأمراً مفروغاً عنه في بحثنا هذا، أمّا مع إنكارها فلا يبقى موضوع للبحث في المقام. وثالثة: يتراءى اتّحادهما في المعروض بالعرض بينما يختلفان في المعروض بالذات، فهذا هو الذي نريد أن نبحث عنه في هذا الفصل كي نرى أنّ نكتة الاستحالة التي فُرضت مفروغاً عنها في مثل (صلّ) و(لا تصلّ) هل تأتي هنا فنقول باستحالة اجتماع الأمر والنهي، أو أنّ تلك النكتة هنا محلولة: إمّا بدعوى أنّ الاختلاف في المعروض بالذات يكشف بالدقّة عن الاختلاف في المعروض بالعرض أيضاً. أو بدعوى أنّ الاختلاف في المعروض بالذات بنفسه كان كافياً لرفع التضادّ.

والاختلاف في المعروض بالذات رغم ما يتراءى من الاتّحاد في المعروض بالعرض يتصوّر بنحوين:

الأوّل: أن يكون الاختلاف بالإطلاق والتقييد رغم اتّحاد العنوان، كما في (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) فالمعروضان بالعرض وإن اتّحدا في الصلاة في الحمّام، ولكن جامع الصلاة بحدّه الجامعيّ ـ الذي يعرض عليه الأمر في الذهن ـ

360

يختلف لا محالة عن المعروض بالذات في: (لا تصلّ في الحمام).

الثاني: أن يكون الاختلاف في العنوان، كما في: (صلّ) و(لا تغصب)، فهما رغم اتّحادهما ـ على ما يتراءى ـ في المعروض بالعرض في الصلاة في المكان المغصوب يختلفان عنواناً في المعروض بالذات، فهو في أحدهما عنوان (الصلاة) وفي الآخر عنوان (الغصب).

وهذان النحوان يختلفان في نكتة وهي: أنّه في النحو الأوّل لا يحتمل عدم الاتّحاد في المعروض بالعرض في الحصّة الخاصّة وهي الصلاة في الحمّام، بأن يفترض أنّ في الخارج شيئين: أحدهما الصلاة، والآخر الصلاة في الحمّام، فيقع البحث في أنّ ما فيه من الاختلاف في المعروض بالذات هل يكفي لحلّ التضادّ أو لا؟ بينما في النحو الثاني: يبحث تارةً عن حلّ التعارض بمجرّد الاختلاف في المعروض بالذات واُخرى: عن حلّه بدعوى أنّ ذلك يكشف عن الاختلاف في المعروض بالعرض أيضاً.

 

361

 

نكتة استحالة الاجتماع في مثل (صلّ) و(لا تصلّ)

ولنتوجّه أوّلا إلى نكتة استحالة اجتماع الأمر والنهي في مثل (صلّ) و(لا تصلّ) التي هي كأصل موضوعيّ لبحثنا، كي نرى أنّ تلك النكتة هل هي محلولة في مثل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) أو في مثل (صلّ) و(لا تغصب) أو لا؟

فنقول: يمكن أن تقرّب الاستحالة في مثل (صلّ) و(لا تصلّ) بثلاثة بيانات وإن كان بعضها يرجع إلى الآخر بحسب الروح والجوهر:

البيان الأوّل: أنّ التكليف مشروط بالقدرة والمكلّف غير قادر على الفعل والترك، فلا يعقل توجّه تكليفين إليه من هذا القبيل.

ونفس هذا الإشكال كان يُذكر في باب التزاحم من قبيل (صلّ) و(أزل) وكان يجاب عن ذلك بوجود قدرتين مشروطتين بترك الآخر، وهذا لا يُعقل هنا؛ فإنّه لا معنى لأن يقال بالقدرة على الصلاة على شرط ترك الصلاة وبالعكس.

وهذا البيان للاستحالة لا يتمّ على رأي السيّد الاُستاذ القائل بأنّ القدرة ليست شرطاً في التكليف وإنّما هي شرط في التنجّز.

البيان الثاني: أن يقال بأنّ الحكم متقوّم بداعي الباعثيّة والمحرّكيّة والزاجريّة، ولا يمكن أن ينقدح في نفس المولى داعي البعث والزجر معاً؛ لعدم إمكان أن ينبعث المكلّف وينزجر في نفس الوقت.

وهذا البيان أيضاً لا يتمّ على مبنى السيّد الاُستاذ من كون الحكم عبارة عن صِرف الاعتبار دون البعث والزجر، ولذا لم يشترط فيه القدرة.

البيان الثالث: أن يقال بالتنافي بينهما من حيث المبادئ بأن يقال: إنّ (صلّ)

362

يكشف عن قيام مصلحة فعليّة كاملة(1) مولّدة للحبّ في الفعل و(لا تصلّ) يكشف عن قيام مفسدة فعليّة كاملة(2) مولّدة للبغض فيه وهما لا يجتمعان.

ويمكن الجواب على هذا أيضاً بناءً على مبنى من يرى أنّ الملاك قد يكون في نفس الجعل.

والصحيح: أنّ المباني التي تنافي هذه البيانات غير صحيحة، فالبراهين التي بيّنّاها في محلّها.

وبعد هذا يقع البحث في مقامين:


(1) (2) أي: غير مزاحمة في التأثير بملاك النقيض.

363

 

الاختلاف بين الأمر والنهي بالإطلاق والتقييد

المقام الأوّل: ما إذا كان الاختلاف بين الأمر والنهي بالإطلاق والتقييد من قبيل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، فهل تأتي هنا نكات الاستحالة الماضية أو لا؟

من الواضح عدم تأتّي النكتتين الاُوليين؛ لأنّ المكلّف قادر على الجمع بين الامتثالين، بأن يصلّي في غير الحمّام ولا يصلّي في الحمّام، وبالتالي يمكن تحريكه نحو كلا الأمرين.

وأمّا النكتة الثالثة ـ وهي التضادّ في المبادئ ـ فتارة ندرسها هنا بلحاظ عالم المعروض بالذات واُخرى بلحاظ عالم المعروض بالعرض:

أمّا بلحاظ عالم المعروض بالذات فقد يقال بثبوت التضادّ في المبادئ في المقام؛ لأنّ الصلاة التي هي في ضمن الصلاة في الحمّام مبغوضة بالبغض الضمنيّ ومحبوبة بالحبّ الاستقلاليّ، والحبّ والبغض متضادّان ولو فُرض أحدهما ضمنيّاً والآخر استقلاليّاً، ولذا لا يمكن أن تُفرض التكبيرة ـ مثلا ـ محبوبة في ضمن الصلاة ومبغوضة في نفس الوقت على الإطلاق بالاستقلال.

إلاّ أنّ الصحيح أنّ هناك فرقاً بين الحبّ والبغض، فالمحبوب بالاستقلال يمكن افتراض طروّ البغض على مركّب مشتمل على ذاك المحبوب، من دون وقوع تناف ذاتيّ بينهما، بخلاف العكس.

وهذا إضافةً إلى وجدانيّته يمكن أن يوضّح بأحد بيانين:

البيان الأوّل: أنّ الحبّ إذا عرض على مركّب انحلّ على أجزائه لا بمعنى تحقّق عدّة أفراد من الحبّ حقيقة، بل بمعنى التعمّل العقليّ والتجزئة أي: إنّ هذا الحبّ الواحد منبسط على الأجزاء، فكلّ جزء هو محبوب ضمناً.

أمّا البغض إذا عرض على مركّب فهو لا ينحلّ على الأجزاء، بأن يصبح كلّ

364

جزء مبغوضاً بالبغض الضمنيّ، وآية ذلك: أنّ مقتضى الحبّ ـ وهو التحرّك نحو الفعل ـ منحلّ إلى تحرّكات ضمنيّة نحو الأجزاء، بينما مقتضى البغض ـ وهو الانزجار والترك ـ لا ينحلّ إلى انزجارات وابتعادات ضمنيّة عن الأجزاء؛ إذ يكفي الابتعاد عن جزء واحد على سبيل البدل، فالمبغوض هو المجموع من دون أن تصيب كلَّ جزء حصّة من البغض الضمنيّ(1).

البيان الثاني: أنّ الحبّ والبغض إنّما يتنافيان إذا تنافيا في مقام حفظ ما يترقّبه كلّ واحد منهما، ولولا تنافي الفعل والترك لما تنافى الحبّ والبغض، إذن فالحبّ الاستقلاليّ والبغض الضمنيّ لا يتنافيان في المقام؛ لأنّ الحبّ الاستقلاليّ يقتضي إيجاد الصلاة، ولكنّ البغض الضمنيّ يستحيل أن يقتضي إعدامها؛ فإنّ البغض الاستقلاليّ الذي كان هذا من ضمنه لم يكن يقتضي ذلك.

وأمّا بلحاظ عالم المعروض بالعرض حيث يقال: إنّ الأحكام إنّما تعرض على العناوين بما لها من مرآتيّة للخارج، فقد يقال بوجود التضادّ في المقام؛ لأنّ الصلاة في الحمّام وجودٌ واحد خارجاً، وهذا الوجود بما هو وجود للمطلق محبوب، وبما هو وجود للمقيّد مبغوض، وهذا يعني اجتماع الضدّين.

والجواب: إنّ المفروض في المقام أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة بنحو صرف الوجود والإطلاق البدليّ، فما هو مفنيّ فيه بالعرض ليس هو هذا الفرد بالذات ولا ذاك


(1) فإن قلت: إنّ بغض المجموع يستلزم بغض كلّ جزء على تقدير تحقّق الجزء الآخر، فهذا البغض يزاحم ذاك الحبّ.

قلت: هذا إنّما يكون في الجزءين العرضيّين لا في الحصّة والمطلق الذي هو جزء تحليليّ للحصّة؛ فإنّ استلزام بغض الحصّة لبغض تحقّق المطلق على تقدير الحصّة لا معنى له، فإنّ تقدير تحقّق الحصّة مساوق لتقدير تحقّق المطلق.

365

الفرد بالذات، وإنّما المفنيّ فيه هو صِرف الوجود لا تمام الأفراد، وصرف الوجود قابل للانطباق على الفرد، فالفرد مصداق للمفنيّ فيه لا عين المفنيّ فيه، ولا يسري منها الحبّ ولو بالعرض إلى هذا الفرد ولا إلى ذاك الفرد، ولذا لو أتى بالفرد بقصد وجوبه بما هو فرد لكان تشريعاً. إذن فلم يلزم اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة على مركز واحد.

وفي مقابل هذا الكلام يوجد بيانان لو تمّ أيّ واحد منهما لكان برهاناً على الامتناع:

البيان الأوّل: ما ذكرته مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) معترفين بعدم التضادّ بالذات في المقام؛ لأنّ مركز الحبّ هو صِرف الوجود ومركز البغض هو الحصّة، ولكنّهم يدّعون التنافي بالعرض؛ لأنّ الأمر بصِرف الوجود لازمه هو ترخيص المولى في تطبيق الامتثال على أيّ حصّة من الحصص، فكأنّه قال: (ائت بأيّ صلاة شئت) وهذا اللازم ينافي مبغوضيّة حصّة معيّنة.

والفارق العمليّ بين القول بالتنافي الذاتيّ والتنافي بالعرض هو: أنّه على الأوّل لا يجتمع الأمر بالجامع مع النهي عن بعض الحصص ولو نهياً كراهتيّاً، وعلى الثاني يختصّ الامتناع بالنهي التحريميّ؛ لأنّ الترخيص في التطبيق يجتمع مع الكراهة، ومن هنا أجاب الميرزا والميرزائيّون عن إشكال الكراهة في العبادات بهذا الجواب.

والجواب: إنّ الأمر بصِرف الوجود لا يعني الترخيص في كلّ حصّة؛ فإنّ إطلاق المتعلّق ليس معناه إلاّ أنّ الطبيعة بلا قيد هي تمام معروض الأمر، ولازم هذا أنّه من قِبَل شخص هذا الوجوب لا مانع من تطبيق الجامع على أيّ حصّة من الحصص، لا أنّه لا مانع من قِبَل المولى في ذلك ولو من سائر الجهات. وإن شئت فقل: إنّ الترخيص في التطبيق هنا وضعيّ لا تكليفيّ، فهذا البيان فيه خلط بين الترخيص الوضعيّ والتكليفيّ.

366

وحينما بيّنّا هذا لهؤلاء حوّلوا دعواهم الثبوتيّة إلى دعوى إثباتيّة وأنّ الإطلاق البدليّ وإن كان لا يلزم منه الترخيص بالملازمة العقليّة إلاّ أنّ الظاهر العرفيّ هو الترخيص(1).

البيان الثاني: أن يقال: إنّ الحبّ المتعلّق بالجامع بنحو صِرف الوجود يلازم تكويناً حبّ حصّة على تقدير عدم الحصص الاُخرى(2)، أي: إنّ التخيير العقليّ دائماً يستلزم التخيير الشرعيّ لكن لا بحسب عالم الجعل والإلزام ـ الذي هو عمل اختياريّ للمولى ـ وإنّما بحسب عالم الحبّ، وعليه فسوف تكون الصلاة في الحمّام محبوبة ولو على تقدير، وفي نفس الوقت مبغوضة على كلّ تقدير.

أمّا التلازم بين حبّ الجامع بنحو صِرف الوجود وحبّ كلّ حصّة على تقدير عدم باقي الحصص فلا برهان عليه ولكنّه وجدانيّ للإنسان، فالإنسان الذي يحبّ الماء لكونه عطشاناً يستأنس روحيّاً بنفس الماء الذي يشربه، ولا يمكن أن يقال له: إنّ هذا الماء لا تحبّه وإنّما هو مصداق لما تحبّه(3).

 


(1) وهذه الدعوى أيضاً في غير محلّها.

(2) فإن قلت: هذا يعني أنّه لو لم تحصل أ يّة حصّة أحبّ كلّ الحصص.

قلت: ليس المقصود كون الحبّ متوقّفاً على عدم باقي الحصص، بحيث لو لم توجد باقي الحصص لأحبّ هذه الحصّة حبّاً تنجيزيّاً، بل المقصود وجود حبّ كلّ حصّة من الحصص من أوّل الأمر في النفس بالفعل حبّاً تعليقيّاً وعلى تقدير، وإن شئت فسمّه بحبّ القضايا الشرطيّة.

(3) إن كان المقصود بوجدانيّة سراية الحبّ بالملازمة من صِرف الوجود إلى الحصص بهذا الشكل: ما يعمّ تقليل البغض أو إفناؤه في الحصّة؛ لوقوع التزاحم بين سراية الحبّ إلى الحصّة والبغض الموجود في الحصّة، فلو كان البغض هو الغالب ـ مثلا ـ منع عن

367


سراية الحبّ إلى تلك الحصّة، أعني: الحبّ المعلّق على تقدير عدم الإتيان بحصّة اُخرى، وخفّ البغض من دون دعوى انحسار الحبّ عن الجامع إلى الحبّ التنجيزيّ للجامع بين الحصص الاُخرى، فهذا لا يضرّ بعدم وقوع التصادم بين (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، فيبقى الجامع بحدّه الجامعيّ محبوباً وتبقى الحصّة مبغوضة. وبالتالي لو أتى بتلك الحصّة فقد أتى بالمبغوض وفي نفس الوقت أتى بمصداق المحبوب.

وإن كان المقصود بوجدانيّة سراية الحبّ بالملازمة إلى الحصّة: أنّه لو لم يمكن هذه السراية ـ لغلبة مفسدة الحصّة مثلا ـ لم يمكن بقاء الحبّ على الجامع، بل ينتقل الحبّ تنجيزاً على الجامع بين الحصص الاُخرى، فهذا باطل.

وتوضيح ذلك: أنّنا تارة نفترض أنّ الحصّة المبغوضة غير مشتملة أصلا على ملاك الواجب، وهذا يعني أنّه من أوّل الأمر لم يكن مقتض لتعلّق الوجوب بالجامع، وإنّما الوجوب يتعلّق بالحصّة الاُخرى سواء كانت هناك مفسدة في الحصّة الاُولى أو لا، وهذا خروج عن موضع البحث؛ إذ ليس هذا من موارد اجتماع الأمر والنهي أصلا.

واُخرى نفترض أنّ الحصّة المبغوضة تحقّق مصلحة الواجب ولكن لم يمكن سراية الحبّ إليها ولو على تقدير ترك الحصّة الاُخرى؛ لما فيها من مفسدة وبغض، وفي هذا الفرض لا يُعقل انسحاب الحبّ من الجامع بحدّه الجامعيّ نهائيّاً واستقراره على الحصّة الاُخرى تنجيزاً؛ لأنّ هذا يعني حبّ الحصّة الاُخرى على كلّ تقدير، أي: حتّى على تقدير الإتيان بالحصّة المبغوضة، مع أنّه على هذا التقدير قد تحقّقت المصلحة بالحصّة المبغوضة، فلا معنى لحبّ الحصّة الاُخرى على هذا التقدير.

وقد ظهر بهذا كلّه: أنّه لا موجب للتعارض بين مثل: (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) وتقييد المطلق ما لم يكن المقيّد إرشاداً إلى المانعيّة بل كان نهياً نفسيّاً مستقلاًّ، ولم يكن

368


وجهٌ لبطلان الجامع ضمن تلك الحصّة ما لم يكن قربيّاً وكان النهي منافياً للقربة.

وأمّا ما قد يقال: من دعوى أنّ المبغوض يستحيل أن يقع مصداقاً للجامع المحبوب فلا ينبغي أن يصغى إليه، إلاّ إذا رجع إلى دعوى سراية الحبّ من الجامع إلى حصصه، أو دعوى الملازمة بين حبّ الجامع وحبّ كلّ حصّة حبّاً على تقدير، وقد عرفت جوابهما.

ثمّ إنّني بعد أن كتبت هنا الإشكال على سيّدنا الاُستاذ(رحمه الله) في إنكاره لجواز اجتماع الأمر والنهي على شكل الأمر بصرف الوجود والنهي عن الحصّة، بدعوى الملازمة بين حبّ الجامع وحبّ الحصص على البدل اطّلعت على أنّه(رحمه الله) بيّن بعد فترة من الزمن: أنّ الإشكال على اجتماع الأمر والنهي بهذا الشكل إنّما هو إشكال إثباتيّ حينما يكون الدليل على الأمر والنهي لفظيّين، وأمّا إذا كان الدليلان لبّيّين أو أحدهما لبّيّاً فلا بأس باجتماع الأمر والنهي بهذا الشكل.

وتوضيح ذلك: أنّ حبّ الجامع وإن كان يستلزم حبّ الحصص على سبيل البدل ولكن إذا كانت في حصّة مّا مفسدة موجبة للبغض: فتارة نفترض أنّ المفسدة بالقياس إلى المصلحة مغلوبة، فلم تؤثّر في رفع الحبّ وإنّما أثّرت ـ بعد الكسر والانكسار ـ في تقليل الحبّ، ولكن مع هذا قد ينهى المولى عن هذه الحصّة رغم عدم فعليّة البغض، وذلك طلباً للتفصّي عن تلك المفسدة؛ فإنّ هذه المفسدة رغم مغلوبيّتها يمكن أن توجب صدور النهي على أساس أنّ صدور النهي لا يعني فوات المصلحة الغالبة، فأثر هذا النهي أن يوجِد في نفس المكلّف الداعي إلى العدول عن هذه الحصّة إلى حصّة اُخرى، كي يجتمع إحراز المصلحة مع التحرّز عن المفسدة. أمّا لو ارتكب المكلّف هذه الحصّة فقد أتى بالجامع الواجب المحبوب.

واُخرى نفترض أنّ المفسدة كانت هي الغالبة فأوجبت زوال الحبّ عن الجامع بين

369


تمام الأفراد بما فيها هذا الفرد، ولكن مع هذا لا بأس بأن يُبقي المولى أمره على الجامع رغم حرمة هذه الحصّة ولا يخصّ أمره بالجامع بين باقي الحصص؛ وذلك بنكتة أنّ المكلّف لو أتى بهذه الحصّة المحرّمة فقد حصل الملاك المطلوب، ولا معنى لكونه مأموراً بعد ذلك بحصّة اُخرى.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّه لو كان دليل الأمر بصِرف الوجود ودليل النهي عن الحصّة لفظيّين، بحيث استظهر منهما نشوؤهما عن الحبّ والبغض الفعليّين لم يمكن الجمع بينهما؛ إذ لا يمكن اجتماع حبّ الجامع مع بغض الحصّة. أمّا لو كان أحد الدليلين لبّيّاً فلا بأس باجتماع الأمر والنهي بملاك كون الأمر بالجامع والنهي عن الحصّة.

فان قلت: إنّه إذا كان الدليلان لفظيّين فليتعارضا فقط في دلالتهما الالتزاميّة على فعليّة الحبّ وفعليّة البغض، من دون أن يتساقطا بالنسبة لأصل إثبات الأمر والنهي.

قلنا: إنّ العرف لا يمكنه أن يفكّك بين وجوب الشيء ومحبوبيّته أو حرمة الشيء ومبغوضيّته، فتسري المعارضة من الدلالة الالتزاميّة إلى المطابقيّة. هذا كلّ ما نقل عنه(رحمه الله)في المقام.

أقول: سوف يأتي منّا ـ إن شاء الله ـ إنّ دلالة النهي في المقام على فعليّة البغض إنّما هي بلحاظ إطلاقه لحالة ما إذا لم يكن المكلّف يأتي بحصّة اُخرى غير الحصّة المنهيّة على كلّ حال.

وعلى أيّ حال فمن الغريب أنّه(رحمه الله) لم يمش في هذا البحث إلى نهاية الشوط، فآمن بإمكان بقاء الأمر على الجامع رغم بغض الحصّة؛ لأنّ الحصّة المبغوضة أيضاً تحقّق الملاك المطلوب، ولكن لم يلتفت إلى أنّه في الواقع يبقى الجامع محبوباً؛ إذ لو انسحب الحبّ من الجامع بين كلّ الحصص بحدّه إلى الجامع بين باقي الحصص بحدّه كان معنى

370

 

 


ذلك انقلاب حبّ باقي الحصص ـ على تقدير عدم الإتيان بالحصّة المبغوضة ـ إلى حبّها مطلقاً، أي: حتّى على تقدير الإتيان بالحصّة المبغوضة، بينما من الواضح أنّه على هذا التقدير لا يحبّ باقي الحصص؛ لأنّ هذا التقدير يساوق تقدير حصول الملاك.

أمّا لو ادّعى أنّ بغض الحصّة أوجب زوال الحبّ عن الجامع من دون انسحابه إلى باقي الحصص فهذا أيضاً غريب؛ فإنّ الحبّ التقديريّ لباقي الحصص إنّما كان بتبع حبّ الجامع، فلو زال من دون انتقال فكيف بقي الحبّ التقديريّ لباقي الحصص؟

ولو ادّعى أنّ حبّ الجامع انتقل إلى باقي الحصص ولكنّه على شكل الحبّ التقديريّ فهذا أيضاً غريب؛ فإنّ تقديريّة الحبّ عبارة اُخرى عن بدليّة المحبوب، والمفروض سقوط الحصّة المبغوضة عن المحبوبيّة، فلا بدل لباقي الحصص. وإن شئت فقل: إنّ الحبّ المشروط يساوق حبّ الجامع بين الجزاء وعدم الشرط، فحبّ باقي الحصص على تقدير عدم الحصّة المبغوضة يساوق حبّ الجامع بينها.

ومقصودنا من كلّ ما ذكرناه تنبيه الوجدان إلى بقاء حبّ الجامع على حاله لا البرهنة عليه. ولو لا ما ذكرناه لما كنّا نؤمن بظهور الأمر بالجامع في محبوبيّة الجامع بحدّه الجامعيّ، مادام من الممكن نشوؤه من المصلحة في الجامع رغم مغلوبيّتها في بعض الحصص للمفسدة، وإنّما يستكشف حبّ الجامع بحدّه من مجموع الأمر بالجامع وعدم النهي عن الحصّة؛ إذ لا منشأ لهذا الظهور إلاّ هذه الملازمة، فإنّ هذه الملازمة لو كانت مفقودة واقعاً فهي مفقودة عند العرف أيضاً؛ لأنّ الحبّ أمر وجدانيّ ومن المعلومات الحضوريّة للنفس يدركه العرف بالوجدان في نفسه مع ما يلازمه من حبّ الحصص، إذن فنصل أيضاً إلى جواز اجتماع الأمر والنهي ولو كانا بدليلين لفظيّين مادام الأمر أمراً بصِرف الوجود والنهي نهياً عن الحصّة.

371

 

الاختلاف بين الأمر والنهي في العنوان

المقام الثاني: ما إذا كان الاختلاف عبارة عن التغاير في العنوان من قبيل (الصلاة) و(الغصب)(1).

فقد يقال بأنّ مجرّد الاختلاف في العناوين يوجب في المقام رفع التضادّ حتّى ولو فُرض الاتّحاد في الوجود الخارجيّ؛ وذلك لأنّ الأحكام في الحقيقة إنّما تعرض على الصور الذهنيّة للعناوين لا الوجودات الخارجيّة.

ويمكن إثبات عروضها على الصور الذهنيّة بأحد تقريبات ثلاثة:

الأوّل: أنّ الحكم يتوجّه إلى الممتثل والعاصي معاً، بينما في فرض العصيان لا يتحقّق الوجود الخارجيّ للمأمور به، إذن لابدّ من التفتيش عن معروض آخر للحكم غير الوجود الخارجيّ مشتركاً بين فرض الامتثال والعصيان، وليس إلاّ الوجود الذهنيّ.

الثاني: أنّ الحكم يحرّك نحو العمل، فهو من مبادئ وجوده ومتقدّم عليه، فكيف يمكن أن يكون متأخّراً عنه تأخّر العارض عن المعروض؟ وهذا معنى ما يقال من أنّ العلّية تنافي العروض.

وأجاب على ذلك المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) بأنّ العلّة لوجود الصلاة هو الأمر بوجوده العلميّ، وما يعرض على الصلاة هو الأمر بوجوده الواقعيّ، فلم يلزم التهافت(2).


(1) وهنا أيضاً لا إشكال من ناحية القدرة والتحريك، فيجب أن يقع البحث من ناحية مشكلة المبادئ.

(2) نهاية الدراية، ج 2: 312 ـ 313 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

372

والجواب: إنّ الأمر إذا كان بوجوده الواقعيّ متأخّراً عن وجود الصلاة فيستحيل أن يكون العلم به محرّكاً؛ لأنّ العلم إنّما يكون محرّكاً باعتبار كاشفيّته وتنجيزه لمعلومه، والمعلوم الذي يكون في طول وجود الفعل لا يقبل التنجيز. وبتعبير آخر: العلم بالأمر الفعليّ يكون منجّزاً لا العلم بالأمر التعليقيّ، والأمر لا يكون فعليّاً إلاّ بعد تحقّق معروضه؛ فإنّ فعليّة العارض فرع فعليّة معروضه(1).

الثالث: أنّ الأحكام الشرعيّة من الصفات ذات الإضافة، والصفات التي من هذا القبيل متقوّمة في مرتبة ذاتها بالمضاف إليه، فلا يعقل ـ مثلا ـ حبّ بلا محبوب ولو في مرتبته، اذن فالمضاف إليه يجب أن يكون موجوداً بنفس وجود الصفة وفي صُقعها؛ إذ لو كان موجوداً بوجود مستقلّ لكانت الإضافة عرضيّة قابلة للانفكاك بحسب الذات(2).

إلاّ أنّه يقال في مقابل هذا البيان لجواز اجتماع الأمر والنهي: إنّ مجرّد التغاير في العناوين لا يكفي لرفع الغائلة؛ وذلك لأنّ الأحكام الشرعيّة وإن كانت متعلّقة في واقعها بالعناوين الذهنيّة ولكن لا بما هي هي، بل باعتبارها فانية في الخارج، ولولا فناؤها لما أحبّ المولى شيئاً من هذه العناوين، إذن فمستقرّ الأحكام في


(1) وبكلمة اُخرى: الأمر بوجوده الواقعيّ جُعل بهدف أن يصبح علّة للعلم به الذي هو علّة للعمل، فكيف يتأخّر علّة علّة العمل عن العمل تأخّر العارض عن معروضه؟!

(2) قد يدّعى أنّ معروض الأحكام هي ماهيّة العمل في صُقع التقرّر لا الوجود الخارجيّ ولا الوجود الذهنيّ، وهذا وإن كان لا يبطله الدليل الأوّل والثاني ولكن يبطله الدليل الثالث، وهو أنّ الأحكام من الاُمور الذهنيّة ذات الإضافة، فهي متقوّمة بالمضاف إليه في مرتبة ذاتها.

على أنّه لو لم يمكن إبطال ذلك لا يضرّنا؛ لأنّ الماهيّتين في ذاتهما مختلفتان، فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي أو الحبّ والبغض على مركز واحد.

373

الحقيقة هو المعنونات، فميزان رفع الغائلة هو تعدّد الخارج، ومن هنا قالوا: إنّ المقياس هو أن نرى هل التركيب اتّحاديّ أو انضماميّ؟ وكأنّ هذا المقدار من البيان يشترك فيه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ وإن اختلفوا في كون التركيب الخارجيّ اتّحاديّاً أو انضماميّاً، وفي حدود الاتّحاديّة والانضماميّة على ما سيأتي إن شاء الله.

إلاّ أنّ الصحيح أنّنا وإن كنّا نؤمن بصحّة عبارة: «أنّ الأحكام الشرعيّة تتعلّق بالعناوين الذهنيّة بما هي فانية في الخارج» على إجمالها، ولكن ليس معنى لحاظها بما هي فانية في الخارج سريان الحكم حقيقة إلى الخارج، بحيث يكون العنوان قنطرة حقيقة لوصول الحكم إلى المعنون، فإنّ هذا مستحيل، سواء اُريد به أنّ الحكم يسري إلى خارج عالم الذهن والإدراك ويعرض على ما في الخارج، أو اُريد به أنّ ما في الخارج يدخل في عالم الذهن والإدراك بوسيلة الصور المُدركة فيعرض عليه الحكم: أمّا الأوّل فهو مستحيل؛ لما تقدّم من الأدلّة على استحالة تقوّم الحكم بالوجود الخارجيّ. وأمّا الثاني فلاستحالة دخول الخارج إلى عالم الذهن والإدراك، وإنّما المدرَك هو الصورة الذهنيّة.

وليس معنى الفناء إنّ الصورة الذهنيّة حيثيّة تعليليّة لإدراك الخارج، وإنّما معنى الفناء أنّ الصورة الذهنيّة إنّما عرض عليها الحكم بما هي ملحوظة بالنظر التصوّريّ، أو قل: بالحمل الأوّليّ، لا بما هي ملحوظة بالنظر التصديقيّ، أو قل: بالحمل الشايع، كما تقدّم شرح ذلك في الأبحاث السابقة. إذن، فالحكم غير سار إلى الخارج وإنّما هو متعلّق بالصور بما هي مرئيّة عين الخارج. وحينئذ نقول: إنّ هذه العناوين لا إشكال في تعدّدها ومجرّد أنّها تُرى خارجيّة لا يخرجها عن تعدّدها، فلا بأس بتعلّق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر، وهذا بخلاف ما لو قلنا بالفناء الحقيقيّ فيمتنع حينئذ اجتماع الأمر والنهي؛ إذ لا يوجد في الخارج إلاّ

374

وجودٌ واحد لو كان التركيب اتّحاديّاً، فكيف يكون مبغوضاً ومحبوباً معاً؟(1).

فتحصّل إلى هنا أنّ مجرّد الاختلاف في العناوين الذهنيّة يكفي في حلّ غائلة اجتماع الضدّين.

إلاّ أنّه يجب أن نلحظ: أنّ البيانين اللذين ذكرناهما أخيراً في مثل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) كتقريب للتعارض وعدم انحلال الغائلة على تقدير تماميّتهما هناك، هل يمكن إسراؤهما إلى ما نحن فيه، أو لا؟


(1) في الواقع يوجد وجهان لدعوى استحالة اجتماع الأمر والنهي:

أحدهما: دعوى سريان الحكم إلى ما في الخارج.

وهذا جوابه:

أوّلا: ما بيّن في المتن من عدم إمكان السريان الحقيقيّ.

وثانياً: أنّه لو فُرض السريان إلى ما في الخارج فالذي يسري إليه إنّما هو النهي لكونه شموليّاً، وأمّا الأمر فلا يمكن أن يسري إلى الخارج بمعنى الفرد الخارجيّ، وغاية الأمر افتراض سريانه إلى واقع الطبيعة ويبقى عندئذ واقفاً على الطبيعة؛ لأنّها اُخذت بدليّة.

وثانيهما: دعوى أنّ الفناء بمعناه الصحيح كاف في وقوع التضادّ بين الأمر والنهي أو الحبّ والبغض؛ لأنّ الآمر والناهي أو المحبّ والمبغض حينما ينظر إلى العنوانين بالنظر التصوّريّ أو الحمل الأوّليّ أو النظر الفنائيّ يرى المعنون الذي هو واحد، فلا يستطيع أن يحبّه ويبغضه في آن واحد أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد، ولذا لو قال: (صلّ بكلّ صلاة) وقال: (لا تغصب)، لوقع التضادّ بينهما.

والجواب: أنّ الفناء في الفرد أو في الحصّة إنّما هو ثابت في طرف النهي فقط ـ وهو: (لا تغصب) ـ لشموليّته، وأمّا في طرف الأمر ـ وهو: (صلّ) ـ فلا فناء بلحاظ الأفراد أو الحصص؛ لأنّه اُخذ بدليّاً فلا يفنى مفهومه الذهنيّ إلاّ في ذات الطبيعة والماهيّة، لا في أفرادها وحصصها.

375

فنقول: أمّا البيان الأوّل وهو دعوى أنّ الإطلاق يدلّ بالملازمة على الترخيص في التطبيق على أيّ حصّة أرادها المكلّف فيتصادم مع النهي، فلو تمّ هناك لا يتمّ هنا؛ لأنّ غاية ما يمكن أن يُفرض هي دلالة الإطلاق بالملازمة على التطبيق على الحصّة، أي: على التحصيص، فلو كان النهي نهياً عن التحصيص كما في (لا تصلّ في الحمّام) وقع الانصدام. أمّا لو كان النهي عن القيد كما في (لا تغصب) فلا انصدام بين الترخيص في تحصيص الصلاة بالغصب ـ مثلا ـ وعدم الترخيص في نفس الغصب، فإنّه عنوان مستقلّ والترخيص في التقيّد غير الترخيص في القيد. نعم، لو كان الترخيص في التقيّد والتحصيص وارداً في دليل مستقلّ أصبحت له دلالة التزاميّة عرفيّة على الترخيص في القيد، ولكنّ الترخيص بدلالة التزاميّة للإطلاق ليس له دلالة التزاميّة من هذا القبيل، فتحصّل: أنّه لا يوجد أيّ تناف بين الترخيص في الإضافة وعدم الترخيص في نفس المضاف إليه.

وأمّا البيان الثاني وهو أنّ حبّ الجامع بنحو صِرف الوجود يستلزم حبّ كلّ حصّة حبّاً تقديريّاً، أي: على تقدير عدم الإتيان بسائر الحصص، فهذا أيضاً إنّما يوجب التصادم في مثل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) لا في مثل المقام؛ وذلك لأنّ حبّ الحصّة على تقدير إنّما ينافي بُغض الحصّة على كلّ تقدير المستفاد من (لا تصلّ في الحمّام) ولا ينافي بُغض القيد المستفاد من (لا تغصب).

وقد تحصّل: أنّ المختار كفاية تعدّد العنوان في جواز اجتماع الأمر والنهي، إلاّ أنّه توجد لدينا حول هذا المختار تحفّظات:

الأوّل: أنّنا لا نقول بصحّة العمل في العبادات كما في الصلاة؛ وذلك لا بنكتة استحالة أن يكون الفرد الواحد مصداقاً للحرام والواجب معاً، بل بنكتة أنّ الواجب إذا كان عباديّاً لم يصحّ إلاّ إذا اُتي به على وجه قربيّ، وبعد فرض وحدة الفعل خارجاً ووجود المندوحة يستقلّ العقل بعدم جواز هذه الحركة وقبحها، ومعه

376

يستحيل أن يكون هذا الفعل مقرّباً من قِبَل العقل إلى المولى فلا يقع عبادة، وهذا بخلاف الحال في التوصّليّات.

ويترتّب على هذا التحفّظ بعض آثار عمليّة سوف يأتي في التنبيهات إن شاء الله، وذلك كما في فرض عدم تنجّز الحرمة، فإنّ العقل حينئذ لا يحكم بقبحه فيمكن التقرّب به، بينما بناءً على عدم جواز الاجتماع ـ بنكتة أنّ الحبّ والبغض متضادّان فلا يجتمعان على المجمع ـ لا أثر لموضوع التنجّز وعدمه، فكما لا يجوز اجتماع الضدّين مع علم المكلّف، كذلك لا يجوز مع جهله على تحقيق وتفصيل يأتي في تنبيهات المسألة إن شاء الله.

الثاني: أنّه لو كان العنوان الجامع عنواناً رمزيّاً كعنوان (أحدها) لا حقيقيّاً فلا يجوز الاجتماع، فإنّ الأمر متعلّق في الواقع بذي الرمز، فإذا أمر بإحدى الخصال الثلاث فلا يمكن أن ينهى عن إطعام ستّين مسكيناً(1).

الثالث: أنّه قد يفترض عنوانان متغايران لكنّهما يشتركان في ركن أساس كعنوان (القيام لتعظيم العادل) و(القيام لتعظيم الفاسق)، فهما يشتركان في أصل القيام إلاّ أنّ أحدهما مقيّد بخصوصيّة والآخر مقيّد بخصوصيّة اُخرى، فلو اجتمع العنوانان في معنون واحد فالصحيح أنّه لا يمكن اجتماع الأمر والنهي، فإنّ القيام بعنوانه يكون تحت الحبّ ولو حبّاً ضمنيّاً، والقيام تعظيماً للفاسق مبغوض فيدخل تحت المطلق والمقيّد لاتحت تغاير العنوانين.


(1) وبكلمة اُخرى: إنّ الجامع لو كان حقيقيّاً فالحبّ منصبّ على صِرف الوجود ويقع الكلام في أنّه هل يستلزم ذلك حبّ كلّ حصّة حبّاً تقديريّاً أو لا، في حين أنّه لو كان الجامع رمزيّاً فالحبّ أوّلا وبالذات منصبّ على كلّ حصّة حبّاً تقديريّاً، ويقع الكلام في أنّه هل يستلزم ذلك حبّاً مطلقاً للجامع الرمزيّ المنتزع أو لا.