170

ناحية الملاك؛ لعدم تكوّن الإطلاق من أساسه مع المخصّص المتّصل، ولا يوجد معه مجال لتكوّن دلالة مطابقيّة على إطلاق الحكم لصورة العجز حتّى يقال: إنّه مع سقوطها عن الحجّيّة تبقى دلالتها الالتزاميّة على ثبوت الملاك حجّة. أمّا المخصّص المنفصل فهو لا يمنع عن تكوّن الدلالة المطابقيّة وعن إطلاق المادّة بلحاظ الملاك، إذن لا أثر له في حمل القدرة على القدرة الشرعيّة. هذا تمام الكلام في المرجّح الثاني.

 

3 ـ التقديم بالأهمّيّة:

المرجّح الثالث: هو الأهمّيّة، والكلام في ذلك يقع في ثلاث مراحل:

الاُولى: فيما لو قطعنا بأهمّيّة أحد الحكمين.

والثانية: فيما لو احتملنا أهمّيّة أحدهما ولم نحتمل أهمّيّة الآخر.

والثالثة: فيما لو احتملنا الأهمّيّة في كلّ واحد منهما، إلاّ أنّ الاحتمال في أحدهما كان أكبر من الآخر:

 

القطع بأهمّيّة أحد الحكمين:

أمّا المرحلة الاُولى: فحينما نقطع بأهمّيّة الإزالة عن الصلاة ـ مثلاً ـ بمقدار يكفي ذلك المقدار ملاكاً لحكم إلزاميّ ـ لا بدرجة يسيرة استحبابيّة ـ يُقدّم الأهمّ وهو الإزالة بلا إشكال. ويمكن تقريب البرهنة على هذا التقديم بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الأهمّ وارد بامتثاله على المهمّ؛ لما مضى من أنّ كلّ حكم مقيّد لبّاً بعدم الانشغال بما لا يقلّ أهمّيّةً عنه، فإذا انشغل بالأهمّ فقد فَقَد الحكم المهمّ هذا القيد، فينتفي، بينما لو انشغل بالمهمّ لم يفقد الحكم الأهمّ هذا القيد، وهذا يرجع بحسب الحقيقة إلى الترتّب من طرف واحد.

171

الوجه الثاني: أنّنا لو غضضنا النظر عن ورود أحد الإطلاقين على الآخر، كفانا حكم العقل بوجوب تقديم الأهمّ؛ وذلك لأنّ خسارة المولى لدرجة من الملاك ممّا لابدّ منه على كلّ تقدير، ولو تركنا الأهمّ وأخذنا بالمهمّ فقد خسّرنا المولى مقداراً أكثر من المقدار الذي لابدّ منه، وهذا المقدار الزائد واصلٌ إلى الدرجة الإلزاميّة بحسب الفرض، وليست درجة استحبابيّة، وملاكا الحكمين وإن كانا قد يفترضان من سنخين ومتباينين، لكنّنا على أيّ حال نحسب درجة اهتمام المولى بهما، فبلحاظ الاهتمام تكون القضيّة دائرة بين الأقلّ والأكثر، فتخسير المولى المقدار الأقلّ من اهتمامه لابدّ منه، وتخسيره الأكثر لا يجوز.

إلاّ أنّ هذا الوجه الثاني إنّما يتمّ لو عرفنا من الخارج أنّ هذا الأهمّ ملاكه فعليٌّ حتّى على تقدير الإتيان بالمهمّ. وبكلمة اُخرى: أنّ القدرة المأخوذة في الأهمّ بالقياس إلى المهمّ عقليّة، فتكون أهمّيّة الأهمّ عند امتثال المهمّ فعليّة، وعندئذ لا إشكال في أنّ العقل يحكم بوجوب تقديم الأهمّ.

أمّا إذا لم نعرف ذلك من الخارج، فلولا الرجوع إلى إطلاق الخطاب ـ الذي هو عبارة اُخرى عن الوجه الأوّل ـ لا يمكن إثبات لزوم تقديم الأهمّ؛ إذ نحتمل أنّ الإتيان بالمهمّ يرفع ملاك الأهمّ، ومع هذا الاحتمال تجري البراءة عن لزوم تقديم الأهمّ، وسعة دائرة ملاكه لصورة الإتيان بالمهمّ، وليست الأهمّيّة المحرزة في هذا الفرض إلاّ أهمّيّة تعليقيّة، أي: أنّه لو ثبت ملاك هذا فهو أهمّ، أمّا أنّه هل هو ثابت عند امتثال الآخر أو لا؟ فغير معلوم.

هذا. وقد يقال: إنّه في فرض عدم المعرفة من الخارج بكون ملاك الأهمّ فعليّاً عند الإتيان بالمهمّ، لا يتمّ الوجه الأوّل للتقديم أيضاً؛ وذلك لأنّ القيد اللبّيّ لكلّ وجوب في الحقيقة هو عدم الانشغال بواجب مزاحم له صفتان: الاُولى أنّه أهمّ أو مساو. والثانية فعليّة ملاكه حتّى مع الانشغال بذاك الواجب؛ إذ لولا ذلك لاحتملنا

172

ثبوت الأمر بذاك الواجب صَرفاً لنا عن هذا الواجب إليه، فنتمسّك بالإطلاق.

وعليه فنقول: إنّه في المقام لم يثبت تقدّم الأمر بالأهمّ على الأمر بالمهمّ بالورود عليه بالامتثال؛ إذ لعلّ ملاكه يرتفع بالإتيان بالمهمّ، ويكون الأمر بالمهمّ وارداً عليه. وبكلمة اُخرى: لعلّ القدرة الدخيلة في الأهمّ بالقياس إلى المهمّ شرعيّة لا عقليّة، ولهذا مضى منّا: أنّ إطلاق الخطاب لا يدلّ على كون القدرة عقليّة، فيتحصّل بذلك: أنّه لو لا قرينة خارجيّة على كون المهمّ غير رافع لملاك الأهمّ، فكما لا يمكننا إثبات تقديم الأهمّ على المهمّ بحكم العقل، كذلك لا يمكننا إثبات ذلك بالورود بالامتثال وإطلاق الخطاب.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ الوجه الأوّل تامّ بلا حاجة إلى قرينة خارجيّة تدلّ على عدم رافعيّة المهمّ لملاك الأهمّ، فنحن بإمكاننا أن نثبت ـ من نفس الخطابين ـ أنّ الأمر بالأهمّ واردٌ على الأمر بالمهمّ بالامتثال، وليس العكس. وتوضيح ذلك:

إنّ الأمر بالصلاة ـ التي هي المهمّ مثلا ـ غير وارد بالامتثال على الأمر بالإزالة المفروض الأهمّيّة حتماً؛ لأنّ وروده عليه بالامتثال بملاك الأهمّيّة أو المساواة غير محتمل؛ لفرض القطع بأهمّيّة الإزالة. ووروده عليه بكون الصلاة رافعة لملاك الإزالة منفيٌّ بإطلاق الأمر بالإزالة لحال الانشغال بالصلاة؛ لوضوح أنّه بعد الجزم بعدم كون ملاك الصلاة أهمّ أو مساوياً، لا معنى للتشكيك في إطلاق الأمر بالإزالة لحال الانشغال بالصلاة، لمجرّد احتمال عدم ثبوت ملاك لها في هذه الحال، بل الإطلاق يتمّ ويكون بنفسه هو الكاشف للملاك والكفيل بإثباته.

والأمر بالإزالة ـ التي هي الأهمّ بحسب الفرض ـ واردٌ بالامتثال على الأمر بالصلاة؛ وذلك لأنّ الأمر بالصلاة مقيّد ـ ككلّ أمر ـ بعدم الانشغال بمزاحم له صفتان: الاُولى: أنّه أهمّ أو مساو، والثانية: فعليّة ملاكه حتّى مع الانشغال بالصلاة، وكلتا الصفتين ثابتتان في الإزالة، أمّا الاُولى ـ وهي الأهمّيّة أو المساواة ـ فثبوتها

173

هو المفروض؛ للقطع بأهمّيّة الإزالة. وأمّا الثانية ـ وهي فعليّة ملاكه حتّى مع الانشغال بالصلاة ـ فلما عرفت الآن في تقريب عدم ورود الأمر بالصلاة على الأمر بالإزالة: من أنّ مقتضى إطلاق الأمر بالإزالة هو ثبوته وثبوت ملاكه عند الانشغال بالصلاة(1).

 

احتمال أهمّيّة أحد الحكمين:

وأمّا المرحلة الثانية: فحينما نحتمل أهمّيّة الإزالة ـ مثلا ـ عن الصلاة بمقدار


(1) حاصل الإشكال هو: أنّه كما يقتضي إطلاق الأمر بالإزالة ـ التي عرفنا أنّها أهمّ ـ لفرض الانشغال بالصلاة وعدمه، تقدّم الإزالة على الصلاة، كذلك يقتضي إطلاق الأمر بالصلاة ـ التي هي المهمّ بحسب الفرض ـ لفرض الانشغال بالإزالة وعدمه، تقدّم الصلاة على الإزالة؛ فإنّ تقدّم الصلاة على الإزالة لا يختصّ بفرض كون الصلاة أهمّ، حتّى يبطل هذا الإطلاق بفرض علمنا بأنّ الإزالة أهمّ أو مساو، بل يمكن تقدّم الصلاة على الإزالة رغم عدم كونها أهمّ من الإزالة، بنكتة كون الانشغال بالصلاة رافعاً لملاك الإزالة دون العكس، أي: أن تكون القدرة في الإزالة ـ التي هي أهمّ ـ شرعيّة بالقياس إلى الصلاة، فلإبطال الإطلاق الثاني احتجنا إلى أن نعرف من الخارج أنّ قدرة الأهمّ عقليّة، وإلاّ فأيّ مبرّر لتقديم إطلاق الأمر بالإزالة على إطلاق الأمر بالصلاة؟!

وحاصل الجواب هو: أنّ إطلاق الأهمّ ـ وهي الإزالة مثلا ـ يرفع موضوع إطلاق المهمّ؛ لأن المهمّ مقيّد على أيّ حال بعدم الانشغال بواجب موصوف بوصفين: أحدهما: أن يكون أهمّ أو مساوياً، والثاني: أن يكون ملاكه فعليّاً في فرض الانشغال بالمهمّ، والأوّل ثابت في الإزالة بالفرض، والثاني ثابت فيها بإطلاق دليلها لفرض الانشغال بالمهمّ، فيتقيّد إطلاق المهمّ لا محالة بفرض عدم الانشغال بالإزالة، في حين أنّ إطلاق المهمّ لا يرفع موضوع إطلاق الأهمّ، فإطلاق الأهمّ وارد على إطلاق المهمّ، دون العكس.

174

مُلزِم، ولا نحتمل أهمّيّة الصلاة، قُدّمت الإزالة على الصلاة. ويمكن تقريب الترجيح بذلك بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: ما ينساق من كلمات مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وهو: أنّ كلّ واحد من الأمرين يقتضي إطلاقه ثبوته حتّى عند الانشغال بالآخر، إلاّ أنّ الأمر بالصلاة قد قُيّد بصورة عدم الانشغال بالإزالة حتماً؛ إذ مع الانشغال بالإزالة هو مشغول بالأهمّ أو المساوي، ومعه لا أمر بالصلاة. وأمّا الأمر بالإزالة فهو أيضاً مقيّد بعدم الانشغال بالصلاة لو كانا متساويين، وغير مقيّد به لو كانت الصلاة أقلّ أهمّيّة، وحيث إنّنا لا نعرف ذلك، إذن لا نعرف تقيّد هذا الإطلاق، فنتمسّك بأصالة الإطلاق في الأمر بالإزالة.

وهذا التقريب ما لم تُضمّ إليه نكتة زائدة يرد عليه: أنّ هذا تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص؛ لخروج صورة الانشغال بالمساوي حتماً، فنقول:

أوّلا: إنّه لئن جاز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في مثل المقام ـ لكون المخصّص لبّيّاً مثلا ـ رجع باب التزاحم(1) إلى باب التعارض، وهو خلف مفروض الكلام.

وثانياً: إنّ التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إن جاز، فإنّما يجوز في المخصّص المنفصل، بينما المخصّص في المقام لبّيّ كالمتّصل(2).

 


(1) فيختصّ الترتّب والترجيح بما إذا علمنا ـ من الخارج ـ بعدم إرادة الإطلاق من أحدهما بالخصوص صدفةً، فيكون ذاك الإطلاق ساقطاً عن الحجّيّة.

(2) قد يقال: إنّ هذا الإشكال إنّما يمنع عن التمسّك بالإطلاق في الأمر بالإزالة، لعنوان فرض الانشغال بالأهمّ أو المساوي؛ لأنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة

175

الوجه الثاني: التمسّك بأصالة الاشتغال بتقريب: أنّه لو اشتغل بالإزالة حصل له القطع بسقوط الأمر بالصلاة عنه؛ لأنّ الإزالة إمّا أهمّ، فيجب تقديمها، أو مساو، فهو مخيّر تخييراً عقليّاً بينهما، بينما لو اشتغل بالصلاة لم يحصل له القطع بسقوط الأمر بالإزالة فتجري أصالة الاشتغال.

ويرد عليه: أنّ الشكّ في سقوط الأمر إنّما يكون مجرى لقاعدة الاشتغال إذا كان شكّاً في الفراغ بعد العلم بدخول الأمر في العهدة، أمّا في المقام فالشكّ ناشئ من احتمال تقيّد الأمر بالإزالة بقيد غير منطبق على من انشغل بالصلاة، فهذا شكّ في سعة الأمر وضيقه، وهو موردٌ للبراءة لا الاشتغال.

 


للمتّصل؛ إذ ما يُدرينا لعلّ الصلاة مساوية للإزالة. ولكن يبقى مجال واسع للتمسك بالإطلاق في الأمر بالإزالة لعنوان فرض الانشغال بالصلاة، وكان المانع عن التمسّك بهذا الإطلاق هو العلم الإجماليّ كالمتّصل بأنّ أحد الواجبين المتزاحمين أهمّ أو مساو، فسقط إطلاق كلا الدليلين، ولم يرجع باب التزاحم إلى باب التعارض، وهذا المانع في المقام مرتفع؛ لأنّ هذا العلم الإجماليّ انحلّ بالعلم التفصيليّ بأنّ الإزالة أهمّ من الصلاة أو مساو لها بحسب الفرض، فسقط إطلاق الأمر بالصلاة لفرض الانشغال بالإزالة، وبقي إطلاق الأمر بالإزالة لفرض الانشغال بالصلاة سالماً، وبذلك تمّ الترجيح باحتمال الأهمّيّة في المقام، وتثبت بهذا الإطلاق أهمّيّة الإزالة عن الصلاة.

ولكنّ الواقع أنّ وجود العلم الإجماليّ ـ كالمتّصل عادةً في كلّ متزاحمين ـ بأنّ أحدهما أهمّ أو مساو للآخر، رغم عدم إشارة المولى إلى ذلك يكون قرينة كالمتّصل على أنّ المولى ـ في مقام بيان واجباته ـ ليس بصدد بيان القيد الناتج من وجود المزاحم، وهو قيد عدم الانشغال بالفعل الفلانيّ. وانحلال هذا العلم الإجماليّ صدفةً في مورد مّا لا يثبت كون المولى في مقام البيان في ذاك المورد، ولا يوجب تماميّة الإطلاق.

176

الوجه الثالث: التمسّك أيضاً بأصالة الاشتغال بتقريب: أنّ مورد البراءة إنّما هو فرض الشكّ في الحكم بمبادئه. أمّا مع العلم بالملاك المُلزِم، واحتمال أنّ المولى رخّص في الخلاف لأجل الاضطرار من باب التزاحم مع ملاك الآخر، فتجري أصالة الاشتغال لا البراءة.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ كلا الملاكين مُحرَزان، وأحدهما ـ وهو ملاك الصلاة ـ نعلم بترخيص المولى في تركه على تقدير الانشغال بالإزالة، لأجل المزاحمة، ولكنّ الآخر ـ وهو ملاك الإزالة ـ لا نعلم بترخيص المولى في تركه على تقدير الانشغال بالصلاة، فلابدّ من الاحتياط.

ويرد عليه: أنّ هذا الكلام وإن كان صحيحاً كبرويّاً، ولكن في المقام لا كاشف عن ثبوت الملاك في الإزالة ـ على تقدير الانشغال بالصلاة ـ إلاّ إطلاق الأمر المفروض عدم ثبوته؛ لكون التمسّك به تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، وبهذا أبطلنا الوجه الأوّل.

والتحقيق هو: تماميّة الوجه الأوّل بعد إضافة نكتة إليه، وتوضيح ذلك: أنّ المخصّص اللبّيّ لو كان قد أخرج صورة الانشغال بضدٍّ لا يقلّ أهمّيّة عنه واقعاً، لتمّ ما قلناه: من أنّ التمسّك في المقام بإطلاق دليل الإزالة لصورة الانشغال بالصلاة، تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

ولكنّ الواقع أنّ هذا المخصّص لابدّ من إجراء تعديل عليه، وهذا التعديل الآن نبيّنه بصياغة ـ وإن كنّا سوف نُجري عليها تعديلا آخر في المرحلة الثالثة ـ وهي: أنّ الخارج بالمخصّص اللبّيّ من كلّ أمر ليس هو فرض الانشغال بضدٍّ لا يقلّ أهمّيّة عنه واقعاً، بل فرض الانشغال بضدٍّ يُعلم أنّه لا يقلّ أهمّيّة عنه؛ لأنّ الدليل على هذا التخصيص اللبّيّ كان عبارة عن أنّه مع الانشغال بذلك لو أمر المولى بالمزاحم، لكي يأتي المكلّف به منضمّاً إلى ما لا يقلّ أهمّيّة عنه، فهو غير قادر

177

على ذلك. ولو أمر به لكي يصرف العبد من ذاك إليه، فلا مبرّر لذلك، وهذا لا يقتضي التقييد بأزيد ممّا ذكرناه.

وتوضيح ذلك: أنّ المولى لو كان يمارس هذا التقييد بنحو القضيّة الخارجيّة، لقيّد الحكم بفرض عدم الانشغال بواقع ما لا يقلّ أهمّيّة عنه، فيقول: يا عبادي لا تجب عليكم الصلاة مثلا حينما تمنعكم عنها الإزالة، أو الفعل الفلاني، أو الفعل الفلاني. وعليه يكون المولى ناظراً في تقييده إلى كلّ ما لا يقلّ أهمّيّة عن المأمور به واقعاً؛ إذ هو بإمكانه أن يشخّص ذلك.

ولكن حيث إنّ المولى يمارس تقييداته بنحو القضيّة الحقيقيّة، فهو يتعامل في تقييداته مع العناوين لا مع الأفراد.

وحينئذ فالقدر المتيقّن هو: أنّ المولى قد قيّد أمره بعنوان فرض عدم الانشغال بضدٍّ يُعلم بأنّه لا يقلّ أهمّيّة عنه، أمّا فرض الانشغال بضدٍّ يُحتمل عقلائيّاً كونه أقلّ أهمّيّة عنه، أي: لا ندري أنّه هل هو مساو للمأمور به، أو أقلّ أهمّيّة عنه، فمن المعقول شمول إطلاق الأمر له؛ إذ لا يأتي هنا برهان: أنّه هل أراد بهذا الأمر أن يضمّ العبد ذلك إلى ما يزاحمه، أو أراد به صرف العبد عمّا يزاحمه؟ إذ نقول في الجواب: لعلّه أراد صرف العبد عمّا يزاحمه، بداعي أنّ هذا الصرف يحتمل كونه نافعاً للمولى؛ إذ لو كان ما يزاحمه واقعاً أقلّ أهمّيّة من المأمور به، فهذا الصرف نافع له. نعم، لو كان مساوياً له لم يكن فيه نفع، ولكنّ المولى حينما يتعامل مع هذا العنوان كقضيّة حقيقيّة، لا يمكنه أن يشخّص أنّه هل هو في الواقع أقلّ أهمّيّة من المأمور به، أو لا، فمن المعقول أن يأخذ بجانب الاحتياط، فيصرف العبد عنه إلى المأمور به.

إذن، فالبرهان اللبّيّ على التقييد غير موجود. ومن الواضح أنّ علم العبد واحتماله لقلّة الأهمّيّة وعدمها، لا يخلو من أماريّة على الواقع، إذن فمن الطبيعيّ

178

افتراض شمول إطلاق الحكم لفرض الانشغال بما لا يدري العبد أنّه هل هو مساو للمأمور به، أو أقلّ أهمّيّة عنه.

وعليه فنقول في المقام: إنّه لو انشغل بالإزالة فإطلاق الأمر بالصلاة ساقط يقيناً؛ لأنّ الإزالة ممّا يعلم بأنّه لا يقلّ أهمّيّة عن الصلاة، ولكن لو انشغل بالصلاة فالمقيّد اللبّيّ ـ الذي قام عليه البرهان ـ لا يقتضي سقوط إطلاق الأمر بالإزالة؛ لأنّه لم يعلم كون الصلاة ممّا لا يقلّ أهمّيّة عن الإزالة، فنتمسّك بإطلاق الأمر بالإزالة، لا من باب التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص، بل من باب أنّ هذا الفرض غير داخل في المخصّص اللبّيّ رأساً؛ لما عرفت من ضيق دائرته واختصاصه بفرض العلم(1) بأنّه لا يقلّ أهمّيّة عن المأمور به.

 

احتمال أهمّيّة كلّ واحد من الحكمين مع كون الاحتمال في أحدهما أكبر:

وأمّا المرحلة الثالثة: فحينما نحتمل الأهمّيّة في كلّ من الصلاة والإزالة ـ مثلاً ـ المتزاحمين، مع كون احتمال الأهمّيّة في الإزالة أكبر، كان هذا ترجيحاً للإزالة على الصلاة.

وللبرهنة على ذلك نتسلسل في نفس التسلسل التفكيريّ الذي نهجناه في المرحلة الاُولى والثانية. ولنبدأ ممّا انتهينا إليه في المرحلة الثانية، فنقول: قد وصلنا في المرحلة الثانية إلى هذه الصياغة لتقييد الواجبات بالمقيّد اللبّيّ، وهي: أنّ كلّ واجب يكون وجوبه مقيّداً بعدم الانشغال بمزاحم يُعلم أنّه لا يقلّ أهمّيّة عنه، ولا يُحتمل كونه أقلّ أهمّيّة عنه.


(1) الظاهر: أنّ المقصود خصوص العلم المطابق للواقع؛ لأنّه القدر المتيقّن من التقييد.

179

وهنا نقوم بتحليل لاحتمال كون المزاحم أقلّ أهمّيّة من ذلك الواجب، فنقول: إنّ احتمال كونه أقلّ أهمّيّة، تارة: يكون من دون احتمال مقابل في الطرف الآخر بكونه أقلّ أهمّيّة عنه. واُخرى: يكون مع احتمال ذلك في الطرف الآخر أيضاً، إلاّ أنّ أقلّيّة الطرف الآخر في الأهمّيّة أضعف. وثالثة: يكون مع احتمال ذلك في الطرف الآخر بنحو مساو لاحتماله في هذا الطرف، أي: نحتمل في كلّ واحد من الطرفين الأهمّيّة بقدر احتمالنا في الآخر.

أمّا الفرض الأوّل: وهو ما لو كان احتمال الأقلّيّة في الأهمّيّة مخصوصاً بأحد الطرفين، فهو الذي كان مورد كلامنا في المرحلة الثانية، ونقول فيه: إنّ ما لا يُحتمل كونه أقلّ أهمّيّة، يكون امتثاله مانعاً عن فعليّة ما يحتمل كونه أقلّ؛ لأنّه لا مبرّر لإطلاق دليل الواجب لفرض الانشغال بما يعلم بأهمّيّته أو مساواته. وأمّا ما يُحتمل كونه أقلّ أهمّيّة، فمن العقلائيّ فرض بقاء الإطلاق في الآخر لصورة الانشغال به، صَرفاً للعبد ممّا يحتمل أقلّيّته في الأهمّيّة إلى ما لا يحتمل فيه ذلك، فنتمسّك بإطلاق الأمر فيه.

وأمّا الفرض الثاني: وهو ما لو كان احتمال الأقلّيّة في الأهمّيّة موجوداً في كلا الطرفين، إلاّ أنّه في أحد الطرفين أقوى، وفي الآخر أضعف، فما كان احتمال أقلّيّته في الأهمّيّة أضعف منه في الآخر، كان من العقلائيّ فرض كون الأمر به مطلقاً يشمل صورة الانشغال بالآخر، صرفاً للعبد عمّا يقوى احتمال أقلّيّة الأهمّيّة فيه إلى ما يضعف احتمال ذلك فيه. ولم يكن من العقلائيّ فرض كون الأمر بما كان احتمال أقلّيّته في الأهمّيّة أقوى منه في الآخر مطلقاً يشمل صورة الانشغال بالآخر؛ إذ لا مبرّر لصرف العبد عمّا يضعف احتمال قلّة أهمّيّته إلى ما يقوى احتمال قلّة أهمّيّته. وبهذا يثبت أنّ أقوائيّة احتمال الأهمّيّة من المرجّحات.

وأمّا الفرض الثالث: وهو ما لو كان احتمال الأقلّيّة في الأهمّيّة في كلا الطرفين

180

متساويين(1)؛ فلا مبرّر فيه لإطلاق كلّ واحد من الأمرين لصورة الانشغال بالآخر؛ إذ صرفه عنه إلى عِدله بلا موجب، ما دام المصروف عنه مساوياً للمصروف إليه في احتمال الأهمّيّة.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ المقيّد اللبّيّ بالدقّة يُخرج من إطلاق الأمر صورة ما إذا انشغل بضدٍّ له إحدى صفتين: الاُولى: أن يعلم بأنّه لا يقلّ أهمّيّة من المأمور به. والثانية: أن يحتمل كونه يقلّ أهمّيّة عنه، ولكن يوجد في مقابله احتمال مماثل أو أقوى لكون ذاك المأمور به هو الأقلّ أهمّيّة.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ الأهمّيّة مرجّحة بكلّ مراحلها الثلاث.

 

بقي التنبيه على أمرين:

الأمر الأوّل: إنّ الأهمّ من المتزاحمين تارة: يُفرض قيام قرينة على أنّ ملاكه مشروط بعدم الانشغال بضدٍّ واجب آخر. واُخرى: يُفرض عدم قرينة على ذلك.

فإن فُرض الثاني كان الأهمّ مقدّماً على غير الأهمّ؛ وذلك لأنّ الأمر بالأهمّ يشمل بإطلاقه فرض الانشغال بالمهمّ؛ لعدم دخول الانشغال بالمهمّ في المقيّد اللبّيّ، المُخرِج لفرض الانشغال بالأهمّ أو المساوي، وبهذا الإطلاق يثبت أنّ القدرة في الأهمّ بالقياس إلى المهمّ عقليّة. أي: أنّ ملاكه ثابت حتّى مع الانشغال بضدّه الواجب. والانشغال بالأهمّ يرفع الأمر بالمهمّ؛ لأنّ المقيّد اللبّيّ قد أخرج صورة الانشغال بمزاحم لا يقلّ أهمّيّة عن المأمور به، ثابت ملاكه حتّى عند الانشغال بالمأمور به، وقد ثبت أنّ المزاحم هنا من هذا القبيل.

وإن فُرض الأوّل، أي: أنّ قدرة الأهمّ ـ بالقياس إلى واجب آخر مزاحم له ـ


(1) إلاّ إذا كان المحتمل في أحدهما أقوى، فهو ملحق بما إذا كان الاحتمال أقوى.

181

شرعيّة، فإن قُصد بالقدرة التي هي دخيلة في الملاك: ما لا يزيد على القدرة المأخوذة في المقيّد اللبّيّ ـ أعني: عدم الانشغال بالأهمّ أو المساوي ـ فهنا أيضاً يتقدّم الأهمّ؛ لأنّ الانشغال بمزاحمه المهمّ غير مبطل للقدرة التي فرضت دخيلة في الملاك، فإطلاق الأهمّ يشمل فرض الانشغال بالمهمّ، ويثبت كون قدرته ـ بالقياس إلى المهمّ ـ عقليّة، وبالتالي يكون الانشغال بالأهمّ رافعاً لموضوع الأمر بالمهمّ؛ لتقيّده لبّاً بعدم الانشغال بواجب لا يقلّ أهمّيّة عنه فعليّ ملاكه.

وإن قُصد بالقدرة الدخيلة في الملاك: عدم الانشغال بواجب مزاحم ولو كان أقلّ أهمّيّة، فتارة: يُفرض اختصاص الدليل على كون القدرة شرعيّة بالواجب الأهمّ، وعدم وجوده في جانب الواجب المهمّ، وعندئذ يتقدّم المهمّ على الأهمّ، ولا يبقى أثر للأهمّيّة؛ لأنّ الأمر بالأهمّ لا يشمل بإطلاقه فرض الانشغال بالمهمّ؛ لأنّ الانشغال بالمهمّ يرفع ملاكه. ولكنّ الأمر بالمهمّ يشمل بإطلاقه فرض الانشغال بالأهمّ؛ لأنّ المقيّد اللبّيّ إنّما أخرج فرض الانشغال بأهمٍّ أو مساو يكون ملاكه فعليّاً حتّى مع الانشغال بالمأمور به، وقد فُرض أنّ ملاك الأهمّ ليس فعليّاً لدى الانشغال بالمهمّ.

واُخرى: يُفرض وجود دليل على أنّ القدرة ـ بمعنى عدم الانشغال بواجب مزاحم مطلقاً ـ دخيلة في الملاك في كلا الواجبين الأهمّ والمهمّ، وهذا يدخل في مورد بحث المحقّق النائينيّ(رحمه الله) حيث ذكر(قدس سره): أنّه لا أثر للأهمّيّة في المشروطين بالقدرة الشرعيّة. وهو يقصد بالقدرة الشرعيّة ما افترضناه هنا: من دخل عدم الانشغال بواجب آخر مطلقاً.

وقد ذكر في مقام البرهنة على ذلك ـ أعني: عدم تأثير الأهمّيّة في المقام ـ: أنّه فرقٌ بينما لو أحرزنا وجود ملاكين، واحتملنا أهمّيّة أحدهما، وبينما لو احتملنا وجود ملاك يكون على تقدير وجوده أهمّ، في مقابل احتمال ملاك آخر على تقدير وجوده ليس بأهمّ.

182

ففي الأوّل يكون احتمال الأهمّيّة مرجّحاً، كما هو الحال في واجبين متزاحمين مشروطين بالقدرة العقليّة مع احتمال أهمّيّة أحدهما. وأمّا في الثاني فمجرّد احتمال الملاك الأهمّ لا يعيّن شيئاً على المكلّف، ومثاله: ما لو تعارض خبران دلّ أحدهما على وجوب شيء، والآخر على حرمته، وكنّا نعلم أنّه على تقدير صدق الخبر الأوّل ليس الوجوب من الوجوبات الأعلائيّة، وعلى تقدر صدق الخبر الثاني تكون الحرمة من أقوى الحرمات، أي: أنّ ملاك الحرمة ـ على تقديرها ـ أهمّ من ملاك الوجوب على تقديره، وهذا النحو من احتمال الأهمّ ليس من المرجّحات.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّه ليس الملاك محرَزاً في مجموع العملين مع اضطرار المكلّف إلى الاقتصار على أحدهما ـ لأجل عدم القدرة على الجمع ـ حتّى يقدّم ما يحتمل أهمّيّته لو كان أحدهما محتمل الأهمّيّة، بل لم يُحرز إلاّ ملاكٌ واحد مردّد بين الملاك الأهمّ والملاك المهمّ؛ لأنّ المفروض دخل القدرة في الملاك، فحال المقام حال الخبرين المتعارضين، ولا مبرّر لترجيح احتمال الملاك الأهمّ.

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّ ملاك الأهمّ محرَز، فيرجّح لا محالة على المهمّ؛ وذلك لأنّ الأهمّ وإن كان مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، لكنّ القدرة موجودة؛ إذ لا مانع تكويناً ولا تشريعاً عن الإتيان بالأهمّ: أمّا المانع التكوينيّ فواضح؛ إذ بإمكانه أن يختار الأهمّ. وأمّا المانع التشريعيّ، فلأنّ المهمّ لا يصلح مانعاً عنه؛ إذ ليس له إطلاق لفرض الانشغال بالأهمّ حتّى يمنع عنه، وهو إنّما يمنع تشريعاً عنه لو كان له مثل هذا الإطلاق.

أقول: إن فُرض أنّ القدرة المأخوذة ـ بنحو القدرة الشرعيّة ـ في الأهمّ كانت بمعنى القدرة المأخوذة في القيد اللبّيّ، فهذا داخلٌ في فرضنا السابق الذي أثبتنا فيه تقدّم الأهمّ ببياننا الذي مضى. وهنا نفترض أنّنا نتكلّم في المشروطين بالقدرة

183

الشرعيّة بالمعنى الذي يقصده المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وهو دخل عدم الانشغال بواجب آخر في الملاك، فنقول: إنّه على مستوى البحث الدائر بين السيّد الاُستاذ واُستاذه لا يصحّ كلام السيّد الاُستاذ دامت بركاته.

وتوضيحه: أنّنا نسأل ماذا يقصد بقوله: إنّ المانع الشرعيّ غير موجود؟ هل يقصد بذلك الجزم بعدم المانع الشرعيّ عن الأهمّ، أو يقصد بذلك عدم الجزم بثبوت المانع الشرعيّ؟

فإن قصد الأوّل ـ وهو الجزم بعدم المانع الشرعيّ ـ قلنا: إنّ الدليل على عدم منع المهمّ شرعاً عن الأهمّ يكون أحد أمرين:

الأوّل: البرهان الثبوتيّ، وهو: أنّه لا يُعقل فرض كون الأمر بالمهمّ مطلقاً لصورة الانشغال بالأهمّ؛ إذ لا يخلو الحال: إمّا أنّ الأهمّيّة لها أثر في المقام، أو لا:

فإن فُرض أنّ الأهمّيّة لها أثر، فالأهمّ هو المقدّم، ومع الانشغال بالأهمّ لا معنى لثبوت الأمر بالمهمّ بالإطلاق.

وإن فُرض أنّ الأهمّيّة لا أثر لها في المقام، فغاية الأمر افتراض حال هذين الواجبين كحال المتساويين، وفي المتساويين لا يكون أحد الحكمين مطلقاً يشمل فرض الانشغال بالآخر، فعلى أيّ حال لا يُعقل إطلاقٌ في الأمر بالمهمّ لفرض الانشغال بالأهمّ حتّى يصلح مانعاً عن الأهمّ.

ويرد عليه: أنّ المولى لو استفتى الملاكين في مقام جعل الحكم، فهما حياديّان تجاه فروض ثلاثة:

1 ـ عدم جعل الإطلاق في كلّ واحد من الحكمين لصورة الانشغال بالآخر.

2 ـ جعل الإطلاق للأمر بالأهمّ فقط.

3 ـ جعل الإطلاق للأمر بالمهمّ فقط.

فإنّه على كلّ واحد من هذه التقادير الثلاثة لا يلزم فوت ملاك: فعلى الأوّل

184

العبد يشتغل بأحدهما ويحرز ملاكه، وينتفي ملاك الآخر موضوعاً. وعلى الثاني يشتغل العبد بالأهمّ ويحرز ملاكه، وينتفي ملاك المهمّ موضوعاً. وعلى الثالث يشتغل العبد بالمهمّ ويحرز ملاكه، وينتفي ملاك الأهمّ موضوعاً. إذن، فتعيين أحد الفروض الثلاثة يجب أن يكون من زاوية اُخرى خارج حدود الملاكين، وحيث إنّنا لا نملك فكرة عن ذلك، فكما نحتمل الأوّل والثاني، كذلك نحتمل الثالث، فلا برهان ثبوتيّ على عدم الإطلاق في الأمر بالمهمّ لحال الانشغال بالأهمّ حتّى يقال: إنّه لا يعقل منعه عن الأهمّ.

الثاني: البرهان الإثباتيّ، وذلك بأن يقال: إنّه وإن كان فرض إطلاق الأمر بالمهمّ لصورة الانشغال بالأهمّ ممكناً ثبوتاً، لكن بحسب الإثبات نرى أنّ القرينة الدالّة على دخل القدرة الشرعيّة في الحكم ـ أعني: عدم الانشغال بواجب آخر ـ تُخلّ لا محالة بالإطلاق، كما هو واضح. إذن، فقد أحرزنا عدم الإطلاق وعدم المانع الشرعيّ عن الأهمّ.

إلاّ أنّه يقال في مقابل هذا الكلام: إنّ القرينة كما قامت على دخل القدرة الشرعيّة في الواجب المهمّ، كذلك قامت على دخلها في الواجب الأهمّ، فكلّ واحد منهما رافع بامتثاله لموضوع الآخر.

وإن قصد الثاني ـ أي: أنّه لا جزم لنا بالمانع الشرعيّ عن الأهمّ ـ فيدخل ذلك في الشكّ في القدرة، وهو مجرى للاحتياط، فلابدّ من تقديم الأهمّ احتياطاً.

ويرد عليه:

أوّلا: أنّ المفروض دخل القدرة في الملاك، ومعه يكون الشكّ في القدرة مجرى للبراءة لا للاحتياط؛ لأنّه يصبح شكّاً في سعة دائرة الحكم بمبادئه.

وثانياً: أنّنا جازمون بالمانع الشرعيّ من كلا الطرفين؛ لأنّنا قد عرفنا بما مضى من البرهان الإثباتيّ أنّ كلّ واحد من الواجبين لا إطلاق له لفرض الانشغال

185

بالآخر؛ لأنّه قد قامت قرينة على تقيّد كلّ واحد منهما بعدم الانشغال بواجب آخر، فالانشغال بأيّ واحد منهما يرفع موضوع الآخر.

وبهذا يتّضح أنّه في المشروطين بالقدرة الشرعيّة ـ بمعنى عدم الانشغال بواجب آخر ـ لا مجال لكلام السيّد الاُستاذ من الترجيح بالأهمّيّة، لكن لا لكلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من كون ما نحن فيه من قبيل المتعارضين، وأنّه يدخل في احتمال الملاك الأهمّ، ولا أثر له، بل لأنّ كلّ واحد منهما مشروط بعدم الانشغال بالآخر، فهو غير مرتبط بفرض احتمال الملاك، فإنّنا نقطع بكلا الملاكين المشروطين، ولسنا شاكّين في ملاك، وبما أنّ كلّ واحد من الملاكين والحكمين مشروط بعدم الانشغال بالفعل الآخر، فلا محالة يكون كلّ واحد منهما وارداً على الآخر بالامتثال، فيتمّ التوارد من كلا الطرفين ولا يبقى مجال لتأثير الأهمّيّة.

الأمر الثاني: في أنّه كيف نعرف أهمّيّة أحد الواجبين من الآخر، لكي نطبّق عليه هذا المرجّح؟

قد تجلّى ممّا مضى أنّ هذا المرجّح في الحقيقة مؤتلف من جزءين: أحدهما: أن يكون ملاك أحد الواجبين على تقدير فعليّته أهمّ. والثاني: أن يكون ملاكه فعليّاً، أي: أن لا يكون الواجب مشروطاً بالقدرة الشرعيّة بمعنى عدم كون الانشغال بمطلق الواجب مانعاً عن فعليّته. وهذا الجزء الثاني يكفي لإحرازه إطلاق دليل الوجوب؛ حيث إنّ التقييد بعدم الانشغال بواجب آخر على الإطلاق يكون تقييداً بأوسع ممّا يقتضيه القيد اللبّيّ العامّ.

يبقى الكلام في الجزء الأوّل، وهو أهمّيّة الملاك على تقدير فعليّته، فنقول: إنّ هناك عدّة طرق لإثبات الأهمّيّة:

الأوّل: الإطلاق، بدعوى: أنّ إطلاق دليل حكم لصورة الانشغال بالآخر دليلٌ على أهمّيّته منه؛ إذ لا يمكن أن يتمّ إطلاق الحكم لتلك الصورة إلاّ على فرض

186

الأهمّيّة. إذن، فلو كان دليل أحد الحكمين فيه إطلاق ـ لكونه لفظيّاً ـ ودليل الآخرلم يكن فيه إطلاق ـ لكونه لبّيّاً مثلا ـ ثبتت أهمّيّة ذاك الحكم الأوّل.

إلاّ أنّ هذا الطريق باطلٌ نقضاً؛ إذ مقتضاه وقوع التعارض بين الإطلاقين حينما يكون كلّ من الدليلين مطلقاً، وهذا خلف ما افترضناه من عدم رجوع باب التزاحم إلى باب التعارض.

وحَلاًّ، ويمكن توضيح بطلانه حَلاًّ: إمّا ببيان ما مضى من أنّ التمسّك بإطلاق أحد الحكمين لصورة الانشغال بالآخر، تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة؛ لتقيّده لبّاً بعدم الانشغال بالأهمّ أو المساوي. أو ببيان أنّ الإطلاق فرع كون المولى في مقام البيان، بينما المتعارف في الموالي العرفيّة أنّه حينما يُطلق المولى حكماً، إنّما يقصد إثبات ذلك الحكم في ذاته، بغضّ النظر عن موازنته مع أحكام اُخرى بلحاظ عالم المزاحمة.

الثاني: أن يرد التصريح بأهمّيّة أحد الحكمين، كما ورد في دوران الأمر بين الصلاة في أوّل الوقت منفرداً والصلاة في آخر الوقت جماعةً: أنّ الثاني أفضل، طبعاً هذا المثال في المستحبّين، فإذا ورد شيء من هذا القبيل في أحد واجبين، ثبتت أهمّيّته من الواجب الآخر. وهذا الطريق واضح الصحّة لا إشكال فيه.

الثالث: أن يرد في أحد الواجبين التشديد في العقاب(1) على المخالفة، والتأكيد على الامتثال، بينما لم يرد مثل ذلك في مزاحمه، فبهذا يُعلم أو يُحتمل(2)ـ على الأقلّ ـ أهمّيّة الواجب الأوّل. ومثاله الحجّ مع النذر، حيث ورد في الروايات وفي الآية ـ على ما فُسّرت به فيها ـ كون تاركه كافراً، وأنّ تاركه يخيّر عند الموت بين أن يموت يهوديّاً أو نصرانيّاً أو مجوسيّاً، بينما لم يرد شيء من هذا القبيل في باب النذر. وهذا الطريق أيضاً صحيح.


(1) أو أيّ تأكيد من هذا القبيل، كبيان أنّه ممّا بُني عليه الإسلام.

(2) أو يوجب أقوائيّة الاحتمال.

187

الرابع: أن يرد خطاب ثانويّ في أحد الحكمين بلحاظ الطوارئ والأحوال، كما يقال في الصلاة مثلا: إنّ الصلاة لا تُترك بحال ـ طبعاً هذه العبارة بذاتها غير واردة، لكنّه قد ورد ما يقاربها في المعنى ـ فيُفهم من مثل هذا الخطاب أنّ الصلاة أهمّ من مزاحماتها. نعم، إنّما يُفهم من ذلك أهمّيّة جامع الصلاة، لا أهمّيّة مرتبة معيّنة منها، فجامع الصلاة ـ الشامل للصلاة الاختياريّة والصلوات الاضطراريّة بمراتبها المختلفة: من صلاة جلوسيّة واضطجاعيّة وإيمائيّة وصلوات الخوف والمطاردة على اختلاف مراتبها، حتّى تصل إلى التكبير بدلا عن كلّ ركعة، ونحو ذلك من الصلوات الاضطراريّة ـ هي التي ثبت أنّها لا تُترك بحال، وتكون أهمّ ممّا يزاحمها. وهذا الطريق أيضاً صحيح.

الخامس: أن يكون الحكمان من الأحكام الارتكازيّة العقلائيّة المفهوم نكتتها عرفاً، فتصبح لدليل الحكم دلالة التزاميّة عرفيّة على أنّه بنفس تلك النكتة. وحينئذ فبالإمكان معرفة الأهمّ حينما نعرف أهمّيّة أحد الحكمين في نكتته، حيث إنّنا مطّلعون على نكتة الحكمين. مثاله: دليل حرمة دم الإنسان ودليل حرمة ماله، فإنّهما بنكتة عرفيّة، وهي: عبارة عن التحفّظ على شؤون هذا الشخص، وعليه من الواضح أنّه إذا غرق مثلا هذا الشخص، وتوقّف إنجاؤه على سحْق زرعه، فدار الأمر بين إنجائه من الغرق والتجنّب من هلاك زرعه، كان الأوّل أهمّ. وهذا الطريق لمعرفة الأهمّ أيضاً صحيح.

 

4 ـ التقديم بالأسبقيّة زماناً:

المرجّح الرابع: هو الأسبقيّة زماناً، وتحقيق الكلام في ذلك: أنّه إذا كان الواجبان مشروطين بالقدرة العقليّة، بأن لم تكن القدرة دخيلة في الملاك، فلا موجب للترجيح بالأسبقيّة زماناً، فلو كانا متساويين في الأهمّيّة تمّ التوارد من كلا

188

الطرفين؛ إذ المقيّد اللبّيّ نسبته إليهما على حدٍّ سواء، وهو عدم الانشغال بضدٍّ مساو أو أهمّ. ولو كان أحدهما أهمّ فلا محالة هو الذي ـ بامتثاله ـ يرفع موضوع الآخر؛ لتقيّده عقلا بعدم الانشغال بضدّ مساو أو أهمّ، دون العكس.

وإذا كانا مشروطين بالقدرة الشرعيّة صحّ الترجيح بالأسبقيّة زماناً في صورتين:

الصورة الاُولى: أن يُفرض أنّ القدرة الدخيلة في ملاك الواجب كانت عبارة عن القدرة التكوينيّة على الواجب في ظرفه، لا القدرة التكوينيّة عليه مطلقاً ولو بلحاظ زمان سابق. وحينئذ فلو أتى بالواجب الأوّل لم يخسّر المولى شيئاً من الملاكين؛ فإنّ ملاك الواجب الأوّل قد حصل، وملاك الواجب الثاني قد ارتفع موضوعاً؛ لأنّه في زمانه أصبح عاجزاً تكويناً. بينما لو عكس الأمر فقد خسّر المولى ملاك الواجب الأوّل؛ لأنّه كان قادراً حينه(1).

الصورة الثانية: أن يُفرض أنّه من الدخيل في الملاك أيضاً القدرة بمعنى عدم


(1) لا يخفى: أنّ هذا الفرض يكون خارجاً عمّا نحن فيه؛ لأنّه في هذا الفرض يجوز تفويت القدرة للزمان الثاني حتّى بالانشغال بضدٍّ غير واجب في الزمان الأوّل، فوجوب الواجب الأوّل لا أثر له في المقام.

فالأولى تبديل هذا الفرض بفرض آخر، وهو: فرض أنّ القدرة الدخيلة في ملاك الواجب عبارة عن الجامع بين القدرة التكوينيّة على الواجب في ظرفه، والقدرة بلحاظ زمان سابق التي فُوّتت بغير معذّر شرعيّ، وعندئذ ففي الزمان الأوّل يصبح الواجب فعليّاً عليه؛ لأنّ الفرد الأوّل من هذا الجامع ـ وهي القدرة التكوينيّة ـ موجودة، فيكون الملاك تامّاً، فإذا صرف القدرة في الواجب الأوّل انتفى ملاك الواجب الثاني؛ لأنّه عنده لا يوجد شيء من فردي هذا الجامع، فلا هو قادرٌ قدرة تكوينيّة في وقت العمل على العمل، ولا كان قادراً بقدرة سابقة فُوّتت بغير معذّر، فإنّ صرفها كان بمعذّر.

189

الانشغال بواجب آخر مزاحم، لكن كان الدخيل عدم الانشغال بواجب مقارن أو سابق، دون المتأخّر، وهذا أمر معقول؛ فإنّ هذا ليس شأنه شأن القيد اللبّيّ الذي نسبته إلى الواجبَين على حدٍّ سواء، وإنّما هو تقييد شرعيّ أمره بيد الشارع، فقد يكون القيد هو عدم الانشغال بواجب مقارن أو سابق، دون اللاحق، فيصبح الواجب السابق بامتثاله رافعاً لموضوع الواجب اللاحق، دون العكس. هذا، والعكس أيضاً معقول، إلاّ أنّه غير عرفيّ.

هذا تمام الكلام في مرجّحات باب التزاحم.

 

الوظيفة عند فقدان المرجّح:

وأمّا بيان الوظيفة عند فقدان المرجّح لأحد المتزاحمين، فلا إشكال في أنّهما لا يتساقطان؛ لوجود الملاكين في الجملة، فلا معنى للتساقط، ويكون مخيّراً لا محالة؛ لفقد المرجّح.

وإنّما يقع الكلام في أنّ التخيير بينهما هل هو تخيير عقليّ أو شرعيّ؟ ويقصدون بالتخيير العقليّ: ثبوت خطابين كلّ منهما مشروطٌ بترك الآخر. وبالتخيير الشرعيّ: ثبوت خطاب واحد بالجامع بينهما.

وقد ذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّه إن كانت القدرة فيهما عقليّة فالتخيير عقليّ، وإن كانت شرعيّة فالتخيير شرعيّ.

أقول: تحقيق الكلام في المقام هو: أنّه إن كانت القدرة فيهما عقليّة فالتخيير بينهما عقليّ؛ إذ هذا هو مقتضى المقيّد اللبّيّ الذي يقيّد كلّ واحد من الخطابين بعدم الاشتغال بالأهمّ أو المساوي، فإنّ هذا معناه هو: كون كلّ واحد من الخطابين مشروطاً بترك الآخر، ولا مبرّر لسقوط هذين الخطابين المشروطين؛ إذ لا منافاة بينهما بعد إمكان الترتّب.

190

نعم، لو قلنا باستحالة الترتّب لوقع التعارض بين الخطابين، ودخل التزاحم في باب التعارض، وكان مقتضى القاعدة سقوطهما، وعدم ثبوت أيّ خطاب في المقام لو لم يثبت إجماعٌ أو شبهه على ثبوت خطاب في الجملة، وإلاّ جاء احتمال ثبوت الخطاب بهذا معيّناً أو بذاك معيّناً أو بأحدهما، فلتشخيص الوظيفة نرجع إلى الاُصول الحكميّة.

وإن كانت القدرة فيهما شرعيّة:

فتارة: نفترض أنّ المقصود بالقدرة الشرعيّة: دخْل عدم الانشغال بالواجب الآخر في الملاك، فالصحيح حينئذ أنّ التخيير أيضاً عقليّ، وإن ذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّ التخيّير شرعيّ، بتقريب: أنّ القدرة دخيلة في الملاك، وهو غير قادر على المجموع، فلا ملاك في المجموع، لكنّه قادرٌ على أحدهما، أي: الجامع بينهما، فيثبت الملاك في أحدهما، أي: الجامع بينهما، والخطاب يتبع الملاك، فيثبت خطابٌ واحد بالجامع بينهما، وهذا هو التخيير الشرعيّ.

أقول: مقتضى القاعدة كون التخيير عقليّاً؛ وذلك لأنّ معنى دخل القدرة في ملاك كلّ واحد منهما، ليس هو عدم ثبوت الملاك إلاّ في الجامع بينهما، وإنّما معناه كون كلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر، فهناك ملاكان مشروطان، لا ملاكٌ واحد في الجامع، والخطاب يتبع الملاك. إذن، يثبت في المقام خطابان مشروطان، وهو معنى التخيير العقليّ.

واُخرى: نفترض كون المقصود بالقدر الشرعيّة: اشتراط عدم المانع الشرعيّ عن الفعل، وحينئذ فإن قُصد بذلك عدم ما هو مانع شرعيّ عن الفعل ـ لولا الحكم بوجوب هذا الفعل ـ فمقتضى القاعدة عدم ثبوت شيء من الحكمين؛ لوجود المانع اللولائيّ، فإنّ كلّ واحد من الحكمين مانع عن الفعل الآخر لولا وجوبه بلا إشكال، فشرط أيّ واحد من الحكمين غير موجود، فيسقطان معاً لو لم يقم إجماع أو شبهه

191

على ثبوت الحكم في الجملة، وإلاّ ثبت الحكم في الجملة، ورجعنا أيضاً إلى الاُصول الحكميّة.

وإن قُصد بذلك: عدم ما هو مانع شرعيّ بالفعل، فجعل خطابين من هذا القبيل يستلزم الدور؛ إذ فعليّة كلّ واحد منهما موقوفة على عدم منع الآخر الموقوف على فعليّة الأوّل؛ إذ لولا فعليّة الأوّل لأصبح الثاني فعليّاً ومانعاً، وعليه فجعل حكمين من هذا القبيل مستحيل، فيقع التعارض بينهما.

هذا تمام الكلام في حكم التزاحم من حيث الترجيح والتخيير.

وينبغي التنبيه على اُمور:

 

استحالة الترتّب لنكتة خاصّة:

الأمر الأوّل: أنّه متى ما تقدّم أحد المتزاحمين على الآخر بأحد المرجّحات، فبشكل عامّ قد ثبت فيما سبق عدم استحالة الأمر بالآخر على نحو الترتّب ـ أي: الأمر به مشروطاً بترك الأوّل ـ إلاّ أنّه قد تتّفق استحالة هذا الترتّب لنكتة خاصّة.

والضابط الصحيح عندنا في إمكانه واستحالته لنكات خاصّة هو: أنّه يصحّ الترتّب في الواجبين المتزاحمين بشرطين:

الشرط الأوّل: أن لا يكون الواجب الآخر مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، بمعنى عدم توجّه واجب آخر مزاحم له إليه، فإن كان كذلك لم يتمّ الأمر به مترتّباً على ترك الواجب الأوّل؛ لأنّه على أيّ حال مأمور بالواجب الأوّل، فشرط الواجب الثاني غير حاصل. أمّا إذا كان مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، بمعنى عدم الاشتغال بواجب آخر، أو لم يكن مشروطاً إلاّ بالقدرة العقليّة ثبت الأمر به بنحو الترتّب، مع توفّر الشرط الثاني.

الشرط الثاني: أن لا يكون ترك امتثال الواجب الأوّل ملازماً لموافقة الثاني،

192

كما لو كان الواجبان من الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ـ لو قلنا بأنّهما من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ـ فإن كان كذلك لم يصحّ الأمر بالثاني على تقدير ترك الأوّل؛ إذ على هذا التقدير يكون الثاني ضروريّاً، فلا يعقل البعث نحوه. هذا هو الضابط الصحيح في المقام.

والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) ذكر لتحقيق الحال في المقام: أنّ التزاحم على خمسة أقسام، فيُنظر في كلّ قسم منها لكي يُرى أنّه هل يعقل الترتّب فيه أو لا؟

الأوّل: التزاحم الناشئ عن عجز المكلّف وضيق قدرته، كعجزه عن إنقاذ كلا الغريقين لضعف عضلاته مثلا.

الثاني: فرض التضادّ بين المتعلّقين، كما لو ورد: (إذا أمطرت السماء فقم). وورد: (إذا وقع الخسوف فاجلس)، فصادف أنّه أمطرت السماء وانخسف القمر في وقت واحد.

الثالث: توقّف الواجب على مقدّمة محرّمة، كتوقّف إنقاذ الغريق على اجتياز أرض مغصوبة، فيقع التزاحم بين الواجب وترك الحرام.

الرابع: التلازم صدفةً بين واجب وحرام، لا بمعنى التوقّف كما في الفرض السابق، بل بأن يكونا متلازمين عرَضيّين، كما لو وجب استقبال القبلة وحرم استدبار الجدي، فاتّفق التلازم بينهما بلحاظ بعض البلاد.

الخامس: مورد اجتماع الأمر والنهي مع عدم المندوحة، بناءً على جواز اجتماعهما عند تعدّد العنوان، وإلاّ وقع التعارض(1).


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 320 ـ 321 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 284 ـ 285 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

193

هذه هي الأقسام الخمسة للتزاحم التي ذكرها المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وقبل أن نشرع في تفصيل الكلام في الموارد التي يقول المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فيها بعدم إمكان الترتّب نذكر ملاحظتين حول ما ذكره من أقسام التزاحم:

الملاحظة الاُولى: ملاحظة عامّة ترجع إلى كلّ هذه الأقسام الخمسة، وهي: أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)قد قيّد كلّ واحد من هذه الأقسام الخمسة ـ تصريحاً أو تلويحاً ـ بأن يكون التزاحم اتّفاقيّاً، فمثلا يقيّد التزاحم الناشئ من عجز المكلّف عن الجمع بكون العجز اتّفاقيّاً، والناشئ من تضادّ المتعلّقين بكون التضادّ اتفاقيّاً، والناشئ من التلازم بين الواجب والحرام بكون التلازم اتّفاقيّاً... وهكذا، بنكتة: أنّه لو كان التزاحم دائميّاً رجع إلى التعارض.

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّه إذا كان التزاحم دائميّاً:

فإن كان الواجبان ضدّين لا ثالث لهما فمن الواضح وقوع التعارض بين ذات الحكمين؛ إذ لا يُعقل ثبوتهما، لا مطلقاً ولا مشروطاً: أمّا مطلقاً، فواضح؛ إذ يؤدّي إلى طلب الجمع بين الضدّين. وأمّا مشروطاً؛ فلأنّ الأمر بأحدهما مشروطاً بترك الآخر لا مجال له؛ إذ مع ترك الآخر يكون هذا ضروريّاً، فلا معنى للأمر به.

وأمّا إذا كانا ضدّين لهما ثالث، فلا ينبغي الإشكال في أنّه لا يوجد تعارض بين ذات الحكمين بغضّ النظر عن إطلاقهما؛ إذ من المعقول الأمر بكلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر؛ إذ ترك أحدهما ليس مساوقاً للإتيان بالآخر، فيُعقل الأمر به، فيقع الكلام في أنّه هل يقع تعارضٌ بين إطلاقهما أو لا؟

فقد يقال: إنّه لا يوجد بينهما تعارض حتّى بلحاظ الإطلاق؛ وذلك لأنّ كلّ واحد منهما مقيّد لا محالة بالمقيّد اللبّيّ، وهو عدم الانشغال بالمساوي أو الأهمّ، فلا يتحقّق في كلٍّ منهما إطلاق لصورة الانشغال بالآخر حتّى يلزم التعارض. وهذا المقيّد اللبّيّ هو الذي أثبتنا على أساسه عدم دخول باب التزاحم في باب التعارض.

194

إلاّ أنّ الصحيح وقوع التعارض بين الحكمين بلحاظ الإطلاق، فإذا قال مثلا: (قم عند طلوع الفجر)، وقال أيضاً: (اجلس عند طلوع الفجر)، كانا متعارضين بلحاظ الإطلاق؛ حيث إنّ إطلاق كلّ واحد منهما يشمل فرض الانشغال بالآخر، ولا يمنع عن هذا الإطلاق تقيّد كلّ واحد منهما بعدم الانشغال بالأهمّ أو المساوي.

وتوضيح ذلك: أنّ عدم جواز التمسّك بإطلاق الأمر لفرض الانشغال بواجب آخر، وإثبات كونه أهمّ منه كان له ـ على ما سبق ـ تقريبان:

أحدهما: عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، وأنّ المقام من هذا القبيل حينما نحتمل كون ما اشتغل به لا يقلّ أهمّيّة عن المأمور به، كما هو المفروض.

والثاني: أنّ المولى العرفيّ ـ عادة ـ ليس في أمره بشيء بصدد المقارنة بين الواجبات المتزاحمة، وبيان أهمّيّة بعضها عن بعض.

وهذا التقريب الثاني لا يأتي في المقام؛ فإنّه إنّما يتمّ ما قلناه ـ من أنّ المولى العرفيّ ليس بصدد المقارنة وإحراز الأهمّيّة ـ بلحاظ ما يزاحمه صدفةً. أمّا بلحاظ ما يزاحمه دائماً فعادة المولى يحسب حسابه ويلحظه في بيانه، فحينما أمر بالقيام ـ مثلا ـ مع علمه بكون الجلوس مضادّاً له دائماً، كان هذا دالاًّ على أنّ القيام أهمّ من الجلوس في نظر المولى، وكذلك العكس.

وبمثل هذا البيان أيضاً نُبطل التقريب الأوّل في المقام؛ فإنّ المولى حينما يكون هو بصدد إحراز قيد، لا معنى لتقييد جعله بذلك القيد. والمولى بلحاظ المزاحمات الدائميّة يكون هو بصدد إحراز أهمّيّة المأمور به عنه، فليس الأمر مقيّداً بعدم الانشغال بها.

الملاحظة الثانية: أنّه كان بالإمكان إدراج القسم الأوّل والثاني من الأقسام