120

 

الكلام في إمكان الترتّب من الطرفين:

الجهة الثامنة: في إمكان الترتّب من الطرفين وعدمه بعد الفراغ عن إمكانه من طرف واحد، فهل هناك مزيّة خاصّة في الترتّب من الطرفين توجب استحالته، أو لا توجد فيه مزيّة خاصّة، فيكون ممكناً بنفس بيان إمكان الترتّب من طرف واحد؟

يمكن أن تفترض مزيّة خاصّة في الترتّب من الطرفين توجب استحالته بأحد بيانين:

الأوّل: ما جاء في بعض كلمات المحقّق العراقيّ(رحمه الله) من مشكلة الدور؛ حيث إنّ كلاًّ من الأمرين متوقّف على معصية الأمر الآخر، توقّف الحكم على موضوعه، ومعصية الأمر الآخر متوقّفة على الأمر الآخر؛ إذ مع عدم الأمر لا يعقل معصيته، فكلّ من الأمرين متوقّف على الأمر الآخر، وهو دور(1).

ويرد عليه:

أوّلا: أنّه بالإمكان فرض كلّ واحد من الأمرين مشروطاً بواقع ترك الفعل الآخر، لا بمعصية الأمر الآخر، وتركه غير متوقّف على الأمر به(2).

 


(1) هذا التقريب وكذلك التقريب الثاني لاستحالة الترتّب من الطرفين مبتن على الغفلة عن كون الأمر المشروط دالاًّ على إرادة الجامع بين عدم الشرط وفعل المشروط.

(2) لا يخفى أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) ملتفت إلى أنّ هذا الاشكال مبنيّ على فرض ترتّب كلّ من الأمرين على عصيان الآخر، وأنّه لا يرد على فرض ترتّب كلّ من الأمرين على مجرّد ترك الفعل الآخر، وفرض في نهاية الأفكار ـ دون المقالات ـ أنّه على الفرض الثاني يلزم إشكال آخر، وهو عدم ارتفاع المطاردة بين الأمرين. راجع نهاية الأفكار،ج 1 و 2، ص 367 بحسب طبعة مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم،

121


وراجع المقالات، ج 1، ص 342 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

بقي في المقام شيء، وهو: أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) لديه اعتراض على الترتّب أنقله وفق ما هو موجود في المقالات (ج 1 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، ص 342 ـ 344)، فهو(رحمه الله) يذكر هناك ـ بعد اعتراضه على فرضيّة ترتّب الأمر بأحدهما على عصيان الآخر من الطرفين، في فرض تساوي المصلحة، بلزوم الدور؛ لأنّ كلّ واحد من الأمرين يصبح متأخّراً عن الآخر بمرتبتين؛ لترتّبه على عصيان الأمر الآخر المترتّب على الأمر الآخر ـ ما حاصله: أنّ هذا وإن لم يكن يلزم فيما لو فرضنا ترتّب أحدهما على واقع عدم الإتيان بالفعل الآخر، لا على عنوان العصيان، ولكن لا داعي إلى القول بالترتّب بعد إمكان اجتماع الأمرين عرضيّاً ولو بشكل ناقص. وهذا ممكن في المقام؛ فإنّ المستحيل إنّما هو وجود الأمر بأحدهما بشكل تامّ في عرض الآخر، أمّا لو كان الأمر به بشكل ناقص ـ أي: بمقدار دفع المكلّف إلى سدّ أبواب العدم، غير الباب الذي يأتي من جانب الداعي إلى ذاك الضدّ المأمور به بأمر آخر ـ فلا يوجد بين الأمرين أيّ تناف، سواءً كانا في المتساويين وكان الترتّب من الطرفين، أو كانا في الأهمّ والمهمّ وكان الترتّب من طرف واحد:

أمّا في الفرض الأوّل؛ فلأنّ كلّ واحد من الأمرين لا يقتضي سدّ باب العدم الآتي من الطرف الآخر، فلا يطرد متعلّقه ولا يبعد المكلّف عنه، فلماذا يعارضه؟!

وأمّا في الفرض الثاني؛ فلأنّ الأمر بالمهمّ لا يطرد أيضاً متعلّق الأمر بالأهمّ، ولا يبعّد المكلّف عنه؛ لأنّه لا يقتضي سدّ باب العدم الآتي من داعي فعل الأهمّ. والأمر بالأهمّ وإن كان يطرد فعل المهمّ، ويقتضي سدّ باب العدم الآتي من طرف داعي المهمّ، والأمر به أمر تامّ وليس أمراً ناقصاً، ولكن ليس هذا طرداً لما يقتضيه الأمر بالمهمّ؛ لأنّ الأمر بالمهمّ ـ الذي فرضناه أمراً ناقصاً ـ لم يكن يقتضي حفظ جهة وجود المهمّ من ناحية سدّ باب ←

122

وثانياً: أنّه بالإمكان فرض كون كلّ واحد من الأمرين مشروطاً بمعصية


العدم الآتي من طرف الأمر بالأهمّ، حتّى يكون الأمر بالأهمّ طارداً لما اقتضاه الأمر بالمهمّ.

وإذا أمكن حفظ الأمر بأحدهما في عرض الأمر بالآخر ولو ناقصاً، لم تصل النوبة إلى إسقاط إطلاق الأمر وتقييده بفرض ترك الآخر أو عصيانه؛ فإنّ هذا التقييد يستلزم صيرورة الأمر ناقصاً، وغير دافع للمكلّف إلى طرد العدم الآتي من جهة الأمر بالآخر؛ لأنّ الأمر المشروط لا يحفظ شرطه، فأصل نقصان الأمر وعدم اقتضائه لترك متعلّق الأمر الآخر مسلّم. وهذا المقدار كاف لحلّ الإشكال كما عرفت، فما الذي يدعونا إلى شيء أكثر من ذلك، وهو إسقاط إطلاق الأمر وتقييده بفرض ترك الآخر أو عصيانه؟!

وجاء في نهاية الأفكار ـ ج 1 و 2، ص 372 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم ـ اعتراض على ذلك، وهو: أنّ هذا يعني وجوب سدّ أبواب العدم من باقي الجهات، ولو بقي باب العدم من جهة العمل بالأمر الآخر مفتوحاً، وهذا واضح البطلان؛ لأن سدّ باقي أبواب العدم مع بقاء باب واحد من أبوابه مفتوحاً، لا فائدة فيه.

وأجاب على ذلك بأنّ مرجع الأمر بحفظ الوجود من سائر الجهات ما عدا جهة واحدة ـ خرجت من حيّز الأمر ـ إلى الأمر بمتمّم الوجود وافتراض انحفاظ الوجود من ناحية الجهة الخارجة عن حيّز الأمر صدفةً، وليس طلباً للإيجاد الكامل.

أقول: إنّ الوجود أمر بسيط لا يتبعّض بتعدّد أبواب العدم، فلا معنى للأمر الناقص به إلاّ برجوع الأمر إلى الأمر بسدّ أبواب العدم، لا الأمر بالوجود. وإذا رجع واقع المطلب إلى الأمر بسدّ أبواب العدم حتّى يقبل التبعّض، قلنا: إنّ الأمر بسدّ العدم من باقي الجهات لو اُخذ مشروطاً بانسداد باب خاصّ صدفة واتّفاقاً، رجعنا مرّة اُخرى إلى تقييد الإطلاق. ولو لم يؤخذ مشروطاً بذلك رجعنا إلى وجوب سدّ الأبواب الاُخرى حتّى لدى افتراض بقاء ذاك الباب الخاصّ من العدم مفتوحاً، وهذا أمر بما لا فائدة فيه.

123

الآخر بنحو التعليق لا بنحو الفعليّة، أي: أن يكون كلّ واحد من الأمرينمشروطاً بصدق قضيّة شرطيّة ـ وهي: أنّه لو اُمر بالآخر لخالفه ـ لا بالمخالفة الفعليّة، وصدق القضيّة الشرطيّة غير موقوف على صدق طرفيها، فلا يتوقّف أحد الأمرين على الآخر.

الثاني: أن يقال: إنّ العبد المنقاد ـ الذي لو لا الأمر لما كان له داع إلى أيّ واحد من الفعلين، وكانت نسبته النفسيّة تجاه الفعلين على حدٍّ سواء من حيث إنّه كان له داع لولا الأمر إلى الترك، أو مجرّد أنّه لم يكن له داع إلى الفعل ـ يوجب الترتّب من الطرفين بالنسبة له داعيين، كلّ واحد منهما مشروط بعدم فعليّة الآخر. أو قل: يصبح تحقّق كلّ واحد من الفعلين خارجاً مشروطاً بعدم الآخر؛ فإنّ فعل الصلاة يتوقّف على الداعي إليه، المتوقّف على فعليّة الأمر بها، المتوقّفة على تحقّق موضوعه وهو ترك الإزالة، وكذلك العكس.

وحينئذ فيستحيل وقوع الداعيين أو الفعلين معاً؛ لأنّه يلزم من وقوع كلّ منهما انتفاء شرط تحقّق الآخر، فيلزم من وجودهما معاً عدمهما معاً. ويستحيل أيضاً عدمهما معاً؛ إذ بعدمهما معاً يتحقّق شرطهما فيوجدان. ويستحيل وجود أحدهما فقط دون الآخر؛ لأنّ هذا متوقّف على صيرورة أحد الأمرين بالخصوص فعليّاً دون الآخر، وهذا غير معقول؛ لأنّ صيرورته فعليّاً موقوفة على ترك الفعل الآخر، وقد فرضنا أنّ نسبة هذا العبد إلى الفعلين من حيث عدم الداعي إليهما لولا الأمر، أو الداعي إلى تركهما لولاه على حدٍّ سواء.

والتحقيق: أنّ هذا الإشكال لا أساس له؛ لأنّه موقوف على تخيّل تكوّن داعيين مشروطين في نفس هذا العبد المنقاد من ناحية الأمرين، بينما الواقع ليس هو هذا، وإنّما الواقع هو أنّ أيّ واحد من الأمرين يُحدِث في نفس هذا العبد الداعي إلى

124

التخلّص من مخالفته، بالجامع بين امتثاله وإفناء موضوعه بفعل الآخر. فليس هناك داعيان مشروطان، بل هناك داع مطلق إلى الجامع بين الفعلين، والعبد يطبّق هذا الجامع على أحد الفردين، إمّا بمرجّح شرعيّ ـ كأفضليّته عند الله ـ أو بمرجّح شخصيّ ـ كأسهليّته عليه ـ أو بلا مرجّح، كما يقال في طريقي الهارب ورغيفي الجائع.

وقد يقال: إنّ الالتزام بالترتّب من كلا الجانبين أسهل من الترتّب من جانب واحد، خلافاً لما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّه إذا استحال الترتّب من طرف واحد فهو من الطرفين أيضاً مستحيل، وذكر: أنّه من الغريب أنّ الشيخ الأعظم(قدس سره)مع إنكاره الترتّب من طرف واحد، ذهب في تعارض الخبرين ـ بناءً على السببيّة ـ إلى أنّ الأمر بالعمل بكلّ واحد منهما يصبح مشروطاً بترك الآخر، مع أنّ هذا ترتّب من الطرفين، أفهل ضمّ محال إلى محال يوجب رفع الاستحالة؟!

أقول: إنّنا لا ندري إلى ماذا كان ينظر الشيخ الأعظم(قدس سره)، ولكن بالإمكان أن يقال: إنّ بياننا الأوّل لإمكان الترتّب كان مؤتلفاً من برهانين، أحدهما: البرهان على عدم مانعيّة الأمر بالمهمّ عن تأثير الأمر بالأهمّ، وهو برهان الدور. والثاني: البرهان على عدم مانعيّة الأمر بالأهمّ عن تأثير الأمر بالمهمّ، فالإيمان بإمكان الترتّب من طرف واحد ـ بهذا البيان ـ يتوقّف على قبول كلا البرهانين، بينما لو لم يقبل أحدٌ البرهان الثاني وقَبِل برهان الدور ـ فأنكر إمكان الترتّب من طرف واحد، بدعوى: أنّ الأمر بالمهمّ وإن لم يكن يزاحم الأمر بالأهمّ؛ لأنّه مشروط بعصيانه، ولكنّ الأمر بالأهمّ يزاحمه ويطارده ـ كفى برهان الدور لإثبات إمكان الترتّب من كلا الطرفين؛ إذ يصبح كلّ من الأمرين مشروطاً بعصيان الآخر، فتستحيل مزاحمته إيّاه.

125

 

هل يمكن تخريج صحّة التمام بدل القصر والجهر أو الإخفات بدل الآخر على أساس الترتّب؟

الجهة التاسعة: لا إشكال فقهيّاً في أنّ من أتمّ مكان القصر أو أجهر مكان الإخفات، أو أخفت مكان الجهر جهلا صحّت صلاته، إلاّ أنّه وقع الكلام في تكييف ذلك فنّيّاً من ناحية ما يبدو للذهن من استشكال في ذلك بأنّ الصحّة تكون بمطابقة الفعل للأمر المفقودة في مفروض المسألة. وقد ذكرت في توجيه ذلك عدّة وجوه، ونحن هنا لسنا بصدد استعراض تلك الوجوه وبحثها، ما عدا وجه واحد، وهو الترتّب(1). فقد خرّج كاشف الغطاء(رحمه الله) هذه المسألة على أساس الترتّب، ولكن ذهب جملة من القائلين بالترتّب إلى عدم صحّة هذا التخريج هنا، ومنهم المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، فقد أورد المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على ذلك بوجوه:

أحدها: أنّ الترتّب إنّما يعقل في ضدّين لهما ثالث؛ إذ لو لم يكن لهما ثالث فلا معنى للأمر بأحدهما على تقدير ترك الآخر؛ إذ على تقدير ترك الآخر لا محيص عن الإتيان بهذا الضدّ، فلا معنى للأمر به، والجهر والإخفات ضدّان لا ثالث لهما.

وقد أجاب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ عن ذلك بأنّ مصبّ الترتّب لا نجعله هو الجهر والإخفات حتّى يرد هذا الإشكال، بل هو القراءة الجهريّة والقراءة الإخفاتيّة، ولهما ثالث وهو ترك القراءة.

أقول: إنّ مصبّ الترتّب يجب أن نجعله الصلاة المشتملة على القراءة الجهريّة


(1) وإن شئت الحديث عن باقي الوجوه فراجع كتابنا هذا في بحث مسألة وجوب الفحص في الاُصول المؤمّنة وعدمه.

126

والصلاة المشتملة على القراءة الإخفاتيّة، لا الجهر والإخفات، ولا القراءة الجهريّة والقراءة الإخفاتيّة؛ وذلك لأنّ الترتّب في الوجوبات الضمنيّة غير معقول؛ إذ هل يُفرض أخذ عدم القراءة الجهريّة ـ مثلا ـ قيداً في القراءة الإخفاتيّة بمعنى قيد الواجب، أو يُفرض أخذه في موضوع وجوب القراءة الإخفاتيّة بمعنى قيد الوجوب؟

فإن فُرض الأوّل لم يكن هذا ترتّباً، ويكون طلباً للجمع بين القراءة الجهريّة والقراءة الإخفاتيّة المقيّدة بعدم الجهريّة، وهذا غير معقول.

وإن فُرض الثاني ـ أي: أخذه في موضوع وجوب القراءة الإخفاتيّة الضمنيّ ـ فهذا أيضاً غير معقول؛ لأنّ هذا الوجوب ضمنيٌّ وجزء من وجوب واحد، فلا معنى لاختصاصه بموضوع لم يكن داخلا في موضوع وجوب باقي الأجزاء، ولم يكن موضوعاً لذلك الوجوب الواحد. إذن، فلابدّ من كون القيد مأخوذاً في موضوع الوجوب الاستقلاليّ وهو وجوب الصلاة، وطبعاً لا معنى لأخذه في موضوع وجوب الصلاة المشتملة على القراءة الجهريّة؛ إذ معنى ذلك تقيّد وجوب القراءة الجهريّة بترك القراءة الجهريّة، وهذا غير معقول، وإنّما يؤخذ قيداً في موضوع وجوب الصلاة المشتملة على القراءة الإخفاتيّة، وهذا معنى ما قلناه: من أنّ الترتّب إنّما يكون بين الأوامر الاستقلاليّة المتعلّقة بالصلاة الجهريّة والصلاة الإخفاتيّة، ومن المعلوم أنّ الصلاة الجهريّة والصلاة الإخفاتيّة لهما ثالث. هذا.

ولو غضضنا النظر عن ذلك، وافترضنا معقوليّة الترتّب بين الوجوبات الضمنيّة، أمكن الترتّب بين وجوب الجهر ووجوب الإخفات، بلا فرض الرجوع إلى القراءة الجهريّة والقراءة الإخفاتيّة ـ كما ذكره السيّد الاُستاذ دامت بركاته ـ شريطة أن يفترض أنّ وجوب الإخفات مثلا مشروط بعدم الجهر الأعمّ من السالبة بانتفاء المحمول والسالبة بانتفاء الموضوع، دون عدم الجهر بمعنى خصوص السالبة

127

بانتفاء المحمول، وحينئذ فليس ترك الجهر مساوقاً للإخفات حتّى لا يعقل حينئذ الأمر بالإخفات؛ إذ قد يكون ترك الجهر بترك الموضوع والقراءة.

وثانيها: أنّ الترتّب إنّما يعقل في ضدّين يكون تضادّهما اتّفاقيّاً لا دائميّاً، والتضادّ بين الجهر والإخفات دائميّ.

وقد أجاب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ عن ذلك بمنع اشتراط عدم دائميّة التضادّ في الترتّب. وسيأتي ـ إن شاء الله ـ تحقيق الحال في ذلك في بحث التزاحم، إلاّ أنّ الذي نقوله هنا: إنّه حتّى مع تماميّة هذا الشرط لا يشكّل هذا مشكلة أمام الترتّب في المقام؛ لما عرفت من أنّ الترتّب إنّما هو بين الوجوبين الاستقلاليّين، أي: وجوب الصلاة الجهريّة ووجوب الصلاة الإخفاتيّة، ولا تضادّ بين الصلاتين أصلا حتّى يكون التضادّ دائميّاً.

وثالثها: أنّ الأمر بالتمام ـ مثلا ـ المشروط بعصيان القصر مع الجهل، لا يمكن أن يصل إلى المكلّف، والأمر الذي لا يمكن وصوله إلى المكلّف لا يعقل جعله؛ لعدم قابليّته للتحريك.

والوجه في عدم إمكان وصوله إلى المكلّف: أنّ موضوعه لا يصل إلى المكلّف؛ لأنّ موضوعه مركّب من الجهل بوجوب القصر، وعصيان وجوب القصر، وهذان الجزءان من الموضوع يستحيل وصولهما معاً؛ إذ لو جهل بوجوب القصر لم يعلم بالعصيان، ولو علم بالعصيان لم يكن جاهلا.

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على ذلك بأنّ هذا إنّما يكون لو قيّدنا الأمر بالتمام بعنوان عصيان الأمر بالقصر، أمّا لو قيّدناه بترك القصر بلا أخذ عنوان العصيان، فلا يرد هذا الإشكال؛ إذ يصل إلى المكلّف كلا جزئي الموضوع: ترك القصر مع الجهل بوجوبه.

أقول: إنّ موضوع وجوب القصر على المسافر ـ المركّب من ترك القصر مع

128

الجهل بوجوبه ـ وإن أمكن وصوله إلى المكلّف بكلا جزئيه، لكنّه لا يمكنوصول موضوعيّة هذا الموضوع إلى المكلّف؛ فإنّ التمام يصحّ ممّن جهل بوجوب القصر بمعنى أنّه اعتقد بحكم التمام، فالموضوع مركّب من ترك القصر والاعتقاد بوجوب التمام، فإن فُرض أنّ هذا موضوع لشخص وجوب التمام المعتقد به، لزم أخذ العلم بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم، وهو مستحيل، وهذا الحكم لا يمكن وصوله. وإن فُرض أنّه موضوع لوجوب آخر فأيضاً لا يصدّق المكلّف به؛ إذ لا مبرّر للتصديق بوجوبين للتمام، إذن فالأمر بالتمام على سبيل الترتّب بنحو توجد فيه قابليّة التحريك بالوصول غير معقول، وبدون التحريك لا يكون أمراً وحكماً، وإنّما يرجع إلى الإخبار بالمصلحة والمحبوبيّة مثلا. إذن، فهذا الإشكال الثالث بعد تطويره بالنحو الذي بيّنّاه يكون تامّاً في المقام.

وهناك إشكال رابع يمكن أن يورد في المقام على الأمر الترتّبيّ لم يورده المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وهو: أنّ الأمر بالتمام هل هو مشروط بترك القصر إلى آخر الوقت، أو مشروط بتركه ولو ساعة مثلا؟

فإن فُرض الأوّل لزم أنّه لو علم بالحكم في أثناء الوقت بعد أن صلّى تماماً، وجب عليه أن يصلّي قصراً؛ لأنّ المفروض أنّه أهمّ، وهو قادر على الإتيان به، وإذا صلّى قصراً انكشف عدم صحّة ما أتى بها، ولم تترتّب آثار صحّتها لو كانت لصحّتها آثار، وهذا كلّه خلاف المسلّم الفقهيّ الذي فُرض تخريجه فنّيّاً بالأمر الترتّبيّ.

وإن فُرض الثاني لزم أنّه إذا ترك القصر ساعة من الزمان ـ مثلا ـ وجب عليه القصر والتمام معاً في عرض واحد: أمّا القصر فلبقاء الوقت، وأمّا التمام فلتماميّة

129

موضوعه، وهو ترك القصر ساعة من الوقت، بينما هذا غير صحيح فقهيّاً أيضاً.

إلاّ أنّ هذا إشكال على صياغة المطلب، ويمكن رفعه بإدخال تعديلين في صياغة الأمرين:

الأوّل: أن يقال: إنّ الأمر بالتمام مقيّد بترك القصر إلى أقرب الأجلين: مضيّ الوقت، والإتيان بالتمام(1)، فإذا صلّى تماماً ثمّ التفت إلى الحكم صحّت صلاته.

الثاني: أن يقال: إنّ الأمر بالقصر ليس مطلقاً من ناحية إتيان التمام وعدمه، حتّى يلزم من ذلك وجوب القصر عليه حتّى بعد إتيانه بالتمام، ولا مقيّداً من أوّل الأمر بعدم الإتيان بالتمام، حتّى يلزم الترتّب من الطرفين، وكون القصر عِدلا مساوياً للتمام، بل يكون مقيّداً بعدم الإتيان بالتمام بقاءً، أي: إنّه بمجرّد زوال الشمس يجب القصر، لكنّه ينتهي وقت هذا الوجوب بالإتيان بالتمام، فكأنّ الإتيان بالتمام صار بالنسبة إلى وجوب القصر من قبيل غروب الشمس.

وبكلمة اُخرى: إنّ شرط وجوب القصر في كلّ آن عدم الإتيان بالتمام جهلا إلى ذلك الآن، لا عدم الإتيان بالتمام إلى آخر الوقت. وإن شئت فافرض عدم الإتيان بالتمام قبل القصر من قيود الواجب وشروط ترتّب المصلحة على الفعل، لا من شروط اتّصاف الفعل بالمصلحة.


(1) ولا يلزم من ذلك أنّه إذا ترك الصلاة إلى أن انتهى الوقت وجب عليه قضاء القصر والتمام معاً؛ لأنّ المستفاد من الدليل: أنّ وجوب التمام يكون من باب أنّه مشتمل على مرتبة خفيفة من مصلحة القصر، لا أنّه واجب مستقلّ، فيكفي قضاء القصر. وإنّما لم نقل بأنّ الأمر بالتمام مقيّد بترك القصر إلى خصوص زمان الإتيان بالتمام لأنّ ذلك يصبح من قبيل الأمر بالتمام على تقدير الإتيان بالتمام، وهو تحصيل للحاصل.

130

 

الكلام فيما اُورد على مقالة المحقّق الثاني في تزاحم الواجب الموسّع والمضيّق:

الجهة العاشرة: تكلّمنا إلى الآن في الترتّب بين أمرين مضيّقين، وعرفنا أنّه لابدّ فيه من الترتّب عند التزاحم بينهما لإمكانه ثبوتاً، ومساعدة دليلي الواجبين عليه إثباتاً.

وأمّا إذا كان الواجبان أحدهما موسّعاً والآخر مضيّقاً فقد مضى عن المحقّق الثاني(رحمه الله) القول بثبوت الخطاب بالموسّع في عرض الخطاب بالمضيّق؛ لأنّ متعلّقه هو الجامع، وهو مقدور. فمبنيّاً على هذا الكلام لا تصل النوبة إلى الترتّب، إلاّ أنّ هناك تعليقات على كلام المحقّق الثاني(رحمه الله) ترجع كلّها إلى التفصيل في صحّة كلامه وعدمه بين تقدير وتقدير:

الاُولى: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان شرط القدرة بحكم العقل لقبح تكليف العاجز، ولكنّ الصحيح: أنّ الخطاب بنفسه يتطلّب قابليّة التحرّك نحو العمل، فيختصّ لا محالة بالحصّة المقدورة.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّ الحكم الشرعيّ ليس إلاّ عبارة عن الاعتبار الذي هو سهل المؤونة ويمكن تعلّقه بالمستحيل أيضاً، فلا تشترط القدرة على متعلّقه، لا بحكم العقل، ولا بتطلّب الخطاب الحصّة المقدورة.

وقد مضى منّا الإيراد على هذا الكلام: بأنّه وإن كان ذات الاعتبار والجعل يمكن تعلّقه بالمستحيل، لكنّه يكشف ـ بدلالة سياقيّة ـ عن مدلول تصديقيّ أقصى، وهو داعي البعث والمحرّكيّة، وهو الذي يوجب اشتراط القدرة على المتعلّق؛ لعدم معقوليّة البعث عند عدم إمكانيّة الانبعاث.

131

نعم، يرد على المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّ الخطاب إنّما يتطلّب القدرة على متعلّقه حتّى يعقل البعث نحوه، وهذا غير اختصاصه بالحصّة المقدورة؛ فإنّ الجامع بين الحصّة المقدورة وغير المقدورة مقدور، فيمكن تعلّق الخطاب به.

نعم، قد يوجّه كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّه عند التزاحم بين الواجب الموسّع والواجب المضيّق، لا تكون في الخطاب الموسّع قابليّة البعث والتحريك بلحاظ تلك القطعة من الزمان التي وقع فيها التزاحم، وهي أوّل الوقت مثلا؛ فإنّ المكلّف المطيع الذي يأتي بالمضيّق لا يمكنه أن ينبعث في ذلك الوقت بالخطاب الموسّع، في حين أنّ الخطاب يكون بداعي البعث والتحريك. فلابدّ من تقييده بالحصّة المقدورة، أي: اختصاصه بالفرد غير المزاحم، تحفّظاً على شرط إمكانيّة الانبعاث والقدرة، ولا يعقل إطلاقه للفرد المزاحم إلاّ بنحو الترتّب.

إلاّ أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ كون الخطاب بداعي البعث إنّما فهمناه من ناحية الاستظهار العرفيّ لذلك من الخطاب، والعرف لا يستظهر من الخطاب في الواجب الموسّع أزيد من كونه بداعي حصول الانبعاث في آن من آنات عمود الزمان، ولا يشترط إمكانيّة الانبعاث في كلّ آن.

الثانية: أنّ كلام المحقّق الثاني(رحمه الله) إنّما يتمّ بناءً على عدم امتناع الإطلاق بامتناع التقييد، بدعوى: أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، وإلاّ فبما أنّ التقييد بالفرد المزاحم غير ممكن، فالإطلاق أيضاً غير ممكن.

وفيه: إنّ فرض امتناع الإطلاق بامتناع التقييد لأجل كون التقابل بينهما العدم والملكة، معناه: امتناع الإطلاق بمعنى عدم ذلك التقييد الممتنع، وهنا التقييد بالفرد غير المزاحَم ممكن، فالإطلاق ـ بمعنى عدم ذلك التقييد، وشموله للفرد المزاحم ـ ممكن. وهذا هو الإطلاق المنظور إليه في محلّ البحث، فتطبيق قاعدة امتناع الإطلاق بامتناع التقييد على المقام تطبيق معكوس.

132

الثالثة: أنّ كلام المحقّق الثاني(رحمه الله) إنّما يتمّ بناءً على الإيمان بالواجب المعلّق، أمّا بناءً على إنكاره فلا يتمّ هذا الكلام؛ لأنّه لو فُرض تحقّق الوجوب بالنسبة للواجب الموسّع من أوّل الوقت ـ بينما هو غير قادر عليه في أوّل الوقت؛ لأجل المزاحمة بواجب مضيّق ـ كان هذا عبارة عن الوجوب التعليقيّ؛ حيث إنّ الوجوب حاليٌّ والواجب استقباليّ، وهو مستحيل بحسب الفرض.

وبصدد تحقيق هذا الكلام نذكر نموذجين للاستدلال على استحالة الواجب المعلّق:

النموذج الأوّل: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من أنّ الخطاب يدلّ على البعث، وهو بحكم تضايفه مع الانبعاث يكون ملازماً له في الإمكان والتحقّق، وطبعاً ليس المقصود من كشف الخطاب عن البعث كشفه عن تحقّق البعث خارجاً؛ بداهة أنّ الخطاب يشمل العاصين أيضاً، وإنّما المقصود كشفه عن داعي البعث بمعنى إيجاد ما يمكن أن يكون باعثاً، وإمكانيّة البعث تلازم إمكانيّة الانبعاث، بينما في الواجب المعلّق لا توجد إمكانيّة الانبعاث قبل زمان الواجب، إذن فتقدّم زمان الوجوب على زمان الواجب مستحيل.

أقول: إنّ هذا الوجه ـ لاستحالة الواجب المعلّق ـ لو تمّ ثبتت في المقام استحالة تعلّق الوجوب بالجامع بين الفرد المزاحم وغيره من أوّل الأمر في عرض وجوب المضيّق، بل لابدّ من اختصاص الوجوب بالفرد غير المزاحم، وتأخّره إلى زمان انتهاء المزاحمة أو ثبوته من أوّل الأمر بنحو الترتّب.

إلاّ أنّ هذا الوجه غير تامّ؛ فإنّه وإن كان الخطاب يكشف عن البعث، ولكن هذا لا يتطلّب أزيد من إمكانيّة الانبعاث في عمود الزمان في الجملة، أي: في وقت من أوقات عُمر الخطاب، ولا يلزم فرض إمكانيّة الانبعاث طيلة المدّة في كلّ آن.

وتوضيح ذلك: أنّ الوجه في دلالة الخطاب على البعث ـ مع أنّه بطبعه الأوّليّ

133

وبلحاظ عالم اللغة لا يدلّ على أكثر من الجعل والاعتبار الذي لا يتوقّف على إمكانيّة الانبعاث ـ هو أحد أمرين:

الأمر الأوّل: ما يوجد في الخطاب من ظهور سياقيّ ـ بحسب فهم العرف ـ في مدلول تصديقيّ، وهو داعي البعث، وهذا كما ترى يتحدّد وفقاً لمقدار ما يفهمه العرف من سياق الخطاب، والعرف لا يفهم من سياق الخطاب أزيد ممّا قلناه: من أنّه بداعي إيجاد ما فيه إمكانيّة البعث بلحاظ مجموع مدّة عُمر الخطاب، لا بلحاظ كلّ آن من آنات عمره.

الأمر الثاني: ما يظهر من كلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من دعوى: أنّ الخطاب ـ كأيّ فعل آخر ـ يكشف لا محالة عن داع، وهذا الداعي مردّد بين اُمور، كداعي الاستهزاء وداعي التعجيز وداعي البعث ونحو ذلك. والخطاب حينما يكون بأيّ داع من هذه الدواعي يصبح بنفسه مصداقاً لهذا الداعي، فمثلا إذا قال: (ذُق)، بداعي الاستهزاء، كان هذا استهزاءً، وإذا قال: (طِر)، بداعي التعجيز كان هذا تعجيزاً، وإذا قال: (صُم)، بداعي البعث كان هذا بعثاً. ومن الواضح أنّ الاستهزاء مباين للحكم، وأنّ التعجيز مباين للحكم، وهكذا. ولا يبقى شيء يمكن أن يكون هو الحكم ـ حتّى يصبح الخطاب مصداقاً له ـ عدا البعث. فبهذا السبر والتقسيم تثبت دلالة الخطاب على البعث.

وهذا غير الوجه الأوّل، فكأنّه(رحمه الله) يريد أن يدّعي برهاناً ثبوتيّاً على المقصود، غير ذاك الاستظهار العرفيّ، ولو تمّ ذلك لم يدلّ على أكثر من كون الخطاب بداعي البعث بلحاظ إمكانيّة الانبعاث في مجموع عمود زمان عمْر الخِطاب؛ فإنّ هذا كاف في كون الخطاب حكماً، ولا يلزم أن يكون الخطاب بداعي إيجاد ما يمكن باعثيّته في تمام تلك الآنات.

النموذج الثاني: ما ذكره المحقّق النائينيّ من أنّ الوجوب التعليقيّ يستبطن

134

الشرط المتأخّر، فمثلا إذا وجب من أوّل الغروب الصوم من طلوع الفجر، فطلوع الفجر يكون شرطاً متأخّراً؛ إذ نقول: هل إنّ طلوع الفجر قيدٌ في الواجب أو لا؟ فإن قيل: إنّه ليس قيداً فيه، إذن لصحّ الصوم من الليل، بينما هو غير صحيح. وإن قيل: إنّه قيد في الواجب، قلنا: إنّه قد ثبت في محلّه: أنّ مثل طلوع الفجر إذا أصبح قيداً للواجب كان شرطاً في الوجوب أيضاً. وعندئذ فإن فُرض أنّ الوجوب مقارنٌ لطلوع الفجر لم يكن الوجوب تعليقيّاً، وإن فُرض تقدّمه عليه أصبح طلوع الفجر شرطاً متأخّراً.

وأمّا ما يتراءى في الشريعة كونه شرطاً متأخّراً فيدّعي المحقّق النائينيّ(رحمه الله)رجوعه إلى الشرط المقارن، بإرجاعه إلى شرطيّة التعقّب، ويكون هذا الإرجاع بحاجة إلى دليل خاصّ، وإلاّ فظاهر ما يجعل طلوع الفجر ـ مثلا ـ شرطاً كونه شرطاً بعنوانه، من دون إرجاعه إلى عنوان التعقّب.

هذا ما يرتئيه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في الواجب المعلّق. ولو تمّ ذلك ـ وغضضنا النظر عن بطلان أساسه؛ لعدم استحالة الشرط المتأخّر على ما حقّقناه في محلّه ـ قلنا: إنّ هذا الكلام لا يمكن إسراؤه إلى ما نحن فيه لإثبات بطلان الأمر بالجامع في الموسّع من أوّل الوقت، في عرض الأمر بالمضيّق؛ وذلك لأنّ الشرط المتأخّر المفترض في المقام عبارة عن القدرة على المتعلّق التي تحصل بعد انتهاء المزاحمة، بينما يمكن إرجاع هذا الشرط إلى شرط تعقّب القدرة. ولا يأتي هنا القول بأنّ ذلك خلاف ظاهر الدليل؛ فإنّ اشتراط القدرة لم يكن بدليل لفظيّ، وإنّما بدليل لبّيّ كقبح تكليف العاجز مثلا، وهو لا يقتضي في المقام أكثر من اشتراط تعقّب القدرة؛ إذ مع التعقّب لا يوجد ـ مثلا ـ قبح في التكليف بالجامع.

الرابعة: أنّ كلام المحقّق الثاني(رحمه الله) إنّما يتمّ إذا قلنا إنّ التخيير العقليّ ووجوب الجامع لا يرجع إلى التخيير الشرعيّ ووجوبين مشروطين، بل لعلّ التخيير

135

الشرعيّ يرجع إلى التخيير العقليّ. أمّا إذا فُرض رجوعه إلى وجوبين مشروطين، فعند فرض ترك الفرد غير المزاحم يصبح شرط وجوب الفرد المزاحم فعليّاً، فيكون هناك أمر تعيينيّ بالفرد المزاحم، وهذا غير صحيح.

وبما أنّ المختار أنّ التخيير العقليّ لا يرجع إلى التخيير الشرعيّ، بل التخيير الشرعيّ يرجع إلى التخيير العقليّ، إذن فكلام المحقّق الثاني(رحمه الله) متين لا إشكال فيه. ففي تزاحم الواجب الموسّع مع واجب مضيّق يبقى وجوب الموسّع على حاله في عرض وجوب المضيّق.

هذا تمام الكلام في الترتّب. وقد عرفت أنّ ثمرة بحث الترتّب هي: أنّه لو صحّ الترتّب ـ وقد عرفت صحّته ـ فقد يكون باب التزاحم باباً مستقلاًّ عن التعارض، وإلاّ فلا. وبهذه المناسبة لا بأس بالدخول في بحث التزاحم فنقول:

 

136

 

التزاحم

وأمّا الكلام في التزاحم فيقع في مرحلتين:

الاُولى: في أنّ باب التزاحم هل هو باب مستقلّ عن باب التعارض، أو أنّه داخل في باب التعارض؟ وسوف نثبت أنّه باب مستقلّ عن التعارض.

الثانية: أنّه بعد أن ثبت أنّ باب التزاحم يمتاز عن باب التعارض فما هي أحكامه؟

 

1 ـ امتياز باب التزاحم عن التعارض وعدمه

أمّا المرحلة الاُولى: وهي امتياز باب التزاحم عن التعارض وعدمه، فنمهّد لتوضيح الكلام فيها بشرح مصطلح التعارض والتزاحم فنقول:

أمّا التعارض: فيقصد به التنافي بين الحكمين بمعنى التنافي بينهما في مرحلة الجعل لا الفعليّة؛ إذ التنافي في مرحلة الفعليّة فقط لا يولّد تصادماً بين الدليلين؛ فإنّ الدليل الشرعيّ إنّما يتكفّل مرحلة الجعل بمعنى القضيّة الشرطيّة، دون مرحلة الفعليّة التي هي ـ مثلا ـ بمعنى تنجيز القضيّة، أي: الجزاء بتحقّق شرطها خارجاً، فقوله مثلا: ﴿لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاع﴾ يدلّ على الجعل، ويصبح هذا الجعل فعليّاً ـ بمعنى من المعاني ـ حيث توجد الاستطاعة.

فمتى ما كانت القضيّتان الشرطيّتان لا يمكن اجتماعهما وصحّتهما معاً على ما هما عليه من الشرطيّة والتعليق، فهذا هو التعارض بين الدليلين. ومتى ما أمكن اجتماعهما وصحّتهما على ما هما عليه من الشرطيّة والتعليق، فلا تعارض بينهما ولو فرض التنافي بينهما في مرحلة الفعليّة، إمّا بمعنى عدم اجتماع فعليّة إحداهما مع فعليّة الاُخرى، أو بمعنى كون امتثال إحداهما الفعليّة رافعاً لموضوع فعليّة

137

الاُخرى. فمثلا لو ورد: (إذا نزل المطر وجب القيام)، وورد أيضاً: (إذا نزل المطر حرم القيام)، فهما متعارضان؛ للتنافي بين الجعلين بما هما قضيّتان شرطيّتان. أمّا لو ورد: (إذا نزل المطر وجب القيام)، وورد أيضاً: (إذا لم ينزل المطر حرم القيام)، فهما ليسا متعارضين؛ لعدم تناف بين جعليهما وإن كانا متنافيين في الفعليّة.

وأمّا التزاحم: فيقصد به كون الحكمين الإلزاميّين بنحو يكون التنافي بينهما من ناحية أنّ امتثال أحدهما إنّما يمكن مستقلاًّ عن الآخر، وامتثاله منضمّاً إلى امتثال الآخر غير ممكن، فأساس التنافي إنّما يكون في مرحلة الامتثال.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ البحث عن كون باب التزاحم متمايزاً عن باب التعارض، أو داخلا في التعارض مرجعه ـ على ضوء ما بيّنّاه ـ إلى أنّه هل التنافي في مرحلة الامتثال في باب التزاحم يستلزم التنافي بين الجعلين، فيقع التعارض بين الدليلين، أو لا يستلزم ذلك، فلا يقع التعارض بينهما؟

ومن الواضح أنّه بناءً على استحالة الترتّب لابدّ من التعارض بينهما؛ إذ حتّى لو فُرض اشتراط أحدهما بترك الآخر يكون الجعلان متنافيين لا يمكن أن يجتمعا، ومشروطيّة أحدهما بترك الآخر لا تشفع لرفع سريان المنافاة إلى الجعلين؛ فإنّ هذا هو معنى استحالة الترتّب، فعدم إمكان الجمع بينهما في الامتثال يستلزم عدم إمكان الجمع في الجعل.

أمّا بناءً على إمكان الترتّب فينفتح مجال البحث عن أنّه هل يوجد ـ مع ذلك ـ تناف بين الجعلين أو لا؟ وبكلمة اُخرى: إنّ عدم إمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال، هل يستلزم تنافي الجعلين أو لا؟ وذلك بأن نرى أنّ دليلي: (صلّ) و(أزل) هل يستفاد منهما ـ مع ضمّ الشرائط العامّة للتكليف كالقدرة ـ ما هو أوسع ممّا فرغنا عن إمكانه من حكمين مترتّبين، حتّى يُفرض التعارض بلحاظ تلك الأوسعيّة، أو لا يستفاد منهما ما هو أوسع من ذلك، وبالتالي فلا تعارض بينهما؛

138

لفراغنا عن إمكان الترتّب، فلا يبقى تناف بين الحكمين؟

والصحيح هو: عدم وجود تناف بينهما، فلا يرجع التزاحم إلى التعارض، ونبيّن ذلك أوّلا بتقريب بدائيّ، ثمّ نورد عليه إشكالا، ثمّ نعمّق التقريب بالصعود إلى تقريب آخر، إلى أن يثبت المقصود بالبيان المعمّق. فنقول:

التقريب الأوّل: ما ذكرته مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ كلّ إلزام شرعيّ مشروط لا محالة بالقدرة، ومن الواضح أنّ القدرة على أحد الفعلين تنتفي بالفعل الآخر؛ إذ المكلّف غير قادر على الجمع بينهما، ففي أيّ منهما يصرف قدرته يصبح عاجزاً عن الآخر، وبذلك ينتفي شرط الآخر، فيكون امتثال كلّ منهما نافياً لموضوع الآخر. فكأنّ اشتراط التكليف بالقدرة يرجع ـ بحسب التطبيق ـ إلى الاشتراط بعدم الإتيان بالآخر، فلم يصبح مفاد الدليلين أوسع من الحكمين المترتّبين، وقد فرضنا إمكان الترتّب، فلا يبقى بينهما تناف.

ولو اقتصرنا على هذا المقدار من التقريب لأمكن الإيراد على ذلك: بأنّ القدرة التي هي شرط عقليّ في الإلزام إنّما هي القدرة حدوثاً، لا القدرة حدوثاً وبقاءً في مقابل التعجيز الاختياريّ، وإلاّ لأمكن الفرار من الواجب بالانشغال بضدّه، ولو لم يكن ضدّه واجباً أصلا. والقدرة الابتدائيّة موجودة في الأمرين، فلا ينتفي موضوع أحدهما بامتثال الآخر. إذن، فالمستفاد من دليل الحكمين يكون أوسع من الحكمين المترتّبين ويقع التعارض بينهما.

التقريب الثاني: أنّنا سلّمنا أنّ التكليف غير مشروط عقلا بأزيد من القدرة حدوثاً، لكنّ القدرة حدوثاً لم تكن إلاّ على الجامع، ولا تتعيّن في أحدهما إلاّ بترك الآخر، فرجع الأمر ـ مرّة اُخرى بحسب التطبيق ـ إلى اشتراط التكليف بترك الآخر، فلم يصبح مفاد الدليلين أوسع من الخطابين المترتّبين، فلا تنافي بين الجعلين.

139

ولو اقتصرنا على هذا المقدار من التقريب لأمكن الإيراد عليه: بأنّ الدليل اللبّيّ الدالّ على اشتراط القدرة ـ وهو قبح تكليف العاجز مثلا ـ لم يدلّ على اشتراط أكثر من القدرة على الجامع، بمعنى القدرة على الواجب ولو بدلا عن أضداده، ولا تشترط القدرة عليه تعييناً. ولذا يكفي في صحّة إيجاب ما له أضداد غير واجبة، أن يكون المكلّف قادراً على ذلك الواجب بدلا عن باقي الأضداد، لا تعييناً، والقدرة على الجامع بهذا المعنى موجودة حدوثاً بالقياس إلى كلّ واحد منهما، فلا يرجع الأمر إلى اشتراط الحكم بترك الآخر، فيكون مفاد الدليلين أوسع من الحكمين المترتّبين، فعاد التنافي بين الجعلين.

التقريب الثالث: أنّ المخصّص اللبّيّ العامّ كما قيّد الأحكام بالقدرة التكوينيّة في مقابل العجز التكوينيّ، كذلك قيّدها بشيء آخر، ولنسمّه بالقدرة الشرعيّة. ففي التقريبين السابقين كنّا ننظر إلى القدرة التكوينيّة، فتارة قلنا: إنّ القدرة التكوينيّة على أحدهما تزول بالانشغال بالآخر. واُخرى قلنا: إنّها لم تتعلّق حدوثاً بأزيد من الجامع. وقد عرفت أنّ كلا التقريبين لا ينتج المقصود، والآن نقول:

إنّ هنا تخصيصاً لبّيّاً آخر على عموم الأحكام، وهو التخصيص بما نسمّيه بالقدرة الشرعيّة، ونقصد بها هنا: عدم انشغال المكلّف بالضدّ الأهمّ أو المساوي. وبتعبير جامع: عدم انشغاله بضدٍّ لا يقل أهمّيّة عن هذا الواجب.

والبرهان على هذا التقييد هو: أنّه لو فُرض أنّ المولى كان يهدف من إيجاب هذا الواجب على عبده ـ بالرغم من فرض انشغاله بما لا يقلّ أهمّيّة عنه ـ أن يأتي العبد بهذا الواجب منضمّاً إلى ذلك الفعل الآخر، فهذا غير مقدور للعبد. وإن كان يهدف أن ينصرف العبد من ذلك الفعل الآخر إلى هذا الواجب، فهذا خلف كون ذاك الفعل الآخر لا يقلّ أهمّيّة عن هذا الواجب.

فإذا ثبت بهذا البيان أنّ كلّ واحد من التكليفين مقيّد في نفسه بفرض عدم

140

الانشغال بما لا يقلّ أهمّيّة عنه، إذن فلا تعارض بينهما؛ لأنّهما لو كانا متساويين فمآل ذلك إلى تقييد كلّ منهما بفرض ترك الآخر؛ إذ الآخر لا يقلّ أهمّيّة عنه. وهذا هو الترتّب من الطرفين، وقد فرغنا عن إمكانه. ولو كان أحدهما أهمّ فمآل ذلك إلى تقييد المهمّ بفرض ترك الأهمّ، دون العكس؛ لأنّ المهمّ بالقياس إلى الأهمّ ليس مصداقاً لما لا يقلّ أهمّيّة عنه، بخلاف الأهمّ بالقياس إلى المهمّ. وهذا هو الترتّب من طرف واحد، وقد فرغنا عن إمكانه.

إلاّ أنّ هذا البيان قد تورد عليه شبهة، وهي: أنّ كلّ واحد من الحكمين إنّما عرفنا تقيّده بعنوان عدم الانشغال بما لا يقل أهمّيّة عن متعلّقه، ولم نعرف تقيّده بعنوان ترك الآخر. إذن، فنتمسّك بإطلاقه لصورة فعل الآخر، وبذلك نثبت أنّ فعل الآخر أقلّ أهمّيّة من متعلّقه. وهذا الإطلاق موجود في كلا الطرفين، فكلّ منهما يدلّ على أنّ الآخر أقلّ أهمّيّة منه، فهذان الإطلاقان يتعارضان.

وقد يجاب عن هذه الشبهة: بأنّ هذا تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص؛ فإنّ الآخر لو كان في الواقع مصداقاً لِما لا يقلّ أهمّيّة عن هذا، لكان فرض الانشغال به خارجاً عن إطلاق الحكم حتماً، ونحن نحتمل كونه كذلك، ولا يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

وقد يورد على هذا الجواب: بمنع عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص في مثل هذا المورد، وذلك بناءً على جملة من المباني في باب التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص:

الأوّل: مبنى جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص إذا كان المخصّص لبّيّاً؛ حيث إنّ المخصّص في المقام لبّيّ.

الثاني: مبنى التفصيل في المخصّص اللُبّيّ: بين ما لو عرفنا خروج مصداق بالفعل بذلك المخصّص عن تحت الإطلاق، وحينئذ فقد انثلم الإطلاق، فإذا

141

شككنا في فرد آخر أنّه هل هو داخل في الثالم أو في المنثلم، لم يمكن التمسّكبالإطلاق. وما لو لم نعرف ذلك أصلا، فاحتملنا عدم انثلام الإطلاق بوجه، فحينئذ يجوز التمسّك بالعامّ، ويكون إطلاق العامّ قرينةً على أنّ المولى هو فَحَص وأحرز عدم تحقّق عنوان المخصّص في مورد من الموارد أصلا، فلو قال مثلا: (لعن الله بني اُميّة قاطبة)، وعرفنا ـ بالمخصّص اللبّيّ ـ خروج المؤمن من ذلك، فإن علمنا بإيمان فرد من بني اُميّة، وشككنا في إيمان فرد آخر ـ كمعاوية بن يزيد مثلا ـ لم يمكن التمسّك بالعامّ لإثبات لعنه، وإلاّ جاز التمسّك به. وفيما نحن فيه لم نعرف خروج مصداق من إطلاق دليل الوجوب؛ إذ لعلّ كلّ أضداد هذا الواجب يقلّ أهمّيّة عن هذا الواجب.

الثالث: ما هو المختار لنا من التفصيل: بين ما لو كانت نسبة المولى بما هو مولى ـ بغضّ النظر عن علم الغيب ـ كنسبة العبد إلى الإطّلاع على صدق عنوان المخصّص على الفرد المشكوك وعدمه، فلا يجوز التمسك بالعامّ. وما لو لم تكن كذلك، بل كان المولى بما هو مولى أخبر بحال هذا الفرد ـ من ناحية صدق عنوان المخصّص وعدمه عليه ـ من العبد، وحينئذ فيجوز التمسّك بالعامّ. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ المولى أخبر منّا بحال متعلّقات أحكامه، وأنّ الواجب الفلاني هل يقلّ أهمّيّة عن الواجب الفلاني أو لا؟

والجواب: أنّ جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ـ بأحد الوجوه المتقدّمة ـ إنّما يكون في المخصّص المنفصل حيث تمّ ظهور المطلق في الإطلاق وانعقد، وليس شغل المخصّص إلاّ ثلم الحجّيّة، فيقال بعدم ثلمه للحجّيّة في الشبهة المصداقيّة في بعض الأحيان، بأحد التفاصيل المتقدّمة.

أمّا في المخصّص المتّصل ـ الذي لا يدع مجالا لأصل تكوّن الظهور ـ

142

فلا يجوز فيه بوجه من الوجوه التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهوميّة، فما ظنّكبالمصداقيّة؟ والمخصّص فيما نحن فيه متّصل؛ فإنّه لا فرق بين كون المخصّص لفظيّاً متّصلا، وكونه لبّيّاً كالمتّصل، بأن يكون مرتكزاً في ذهن العرف واضحاً، فيمنع عن انعقاد الظهور.

وما ذكرناه من عدم معقوليّة الأمر بالإتيان بشيء منضمّاً إلى ضدّه، ولا صَرفاً عن ضدّه الذي لا يقلّ أهمّيّة عنه، أمرٌ واضح مرتكز في الأذهان لا يُبقي مجالا لإطلاق الأمر لفرض الانشغال بضدٍّ لا يقلّ أهمّيّة عنه(1).

 


(1) لا يخفى: أنّ مجرّد بداهة قيد عدم الانشغال بضدٍّ لا يقلّ أهمّيّة عن الواجب، غير كاف لمنع التمسّك بشمول الأمر بالصلاة لفرض الانشغال بالإزالة؛ لأنّه تكفي في صحّة إرادة هذا الإطلاق عدم كون الإزالة أهمّ أو مساوياً، فمقتضى الإطلاق عدم كون الإزالة كذلك. نعم، لو كان التقييد لفظيّاً بأن قال المولى مثلا: (صلّ إن لم تنشغل بما لا يقلّ أهمّيّة عن الصلاة)، كان ظاهر ذلك أنّ المولى قد أحال على نفس العبد الكشف عن تحقّق هذا القيد وعدمه، وبهذه النكتة تبطل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة. وهذا الظهور غير موجود في المخصّص اللبّيّ وإن كان بديهيّاً.

وقد يقال: إنّ التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص إن كان صحيحاً، فالتمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة ليس صحيحاً قطعاً. والفرق: أنّ العموم يتوجّه إلى الأفراد ابتداءً، وتخصيص عنوان كالأعداء في مثل: (أكرم جيراني) مثلا، لا يخرج الفرد إلاّ عند كونه عدوّاً، فمادمنا شككنا في عدائه شككنا في خروجه بالتخصيص، فنتمسّك بالعموم الأفراديّ، فيصحّ إثبات وجوب إكرام الجار الفلاني ما لم نعلم كونه عدوّاً، فإنّ قوله: (أكرم جيراني) وإن لم يكن عامّاً بمعنى دخول أداة العموم فيه، ولكنّه عامّ بمعنى ثبوت الحكم فيه ابتداءً على الأفراد، بقرينة: أنّ الجيران صيغة الجمع، وصيغة الجمع تلحظ الأفراد.

143

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ باب التزاحم يمتاز عن باب التعارض. وعليه فيجب الانتقال إلى المرحلة الثانية فنقول:

 


وأمّا في مثل الأمر بالإزالة فشموله لحالات الانشغال بالصلاة وعدمه وغير ذلك يكون بالإطلاق، ولا يجوز التمسّك به في الشبهة المصداقيّة؛ لأنّ عنوان فرض الانشغال بالأهمّ أو المساوي قد خرج يقيناً، والحكم لم يكن مسلّطاً على المصاديق ابتداءً كي نتمسّك بإطلاقه للمصداق المشكوك.

والجواب: أنّنا نتمسّك عندئذ بإطلاقه لعنوان فرض الانشغال بالصلاة، أي نقول: إنّ مقتضى الإطلاق هو أن يكون المقصود الأمر بالإزالة، سواء انشغلت بالصلاة أو لا، وبه يثبت عدم كون الانشغال بالصلاة انشغالا بالأهمّ أو المساوي؛ وذلك لأنّ إخراج كلّ عنوان بالتقييد عن المطلق، يُخرج لا محالة كلّ عنوان أضيق من ذلك العنوان، حينما يكون بعنوانه داخلا في ذلك العنوان، كعنوان العالم وعنوان الفقيه.

فإذا خرج من المطلق عنوان، وشككنا في عنوان آخر هل هو من سنخ العنوان الأوّل ـ وإن كان أضيق ـ أو لا، كما شككنا هنا أنّ عنوان الانشغال بالصلاة هل يصدق عليه عنوان الانشغال بالأهمّ أو المساوي، أمكن إثبات دخوله في المطلق بمجرّد إطلاقه العنوانيّ برغم عدم عمومه الأفراديّ، وبالتالي ننفي عنه صدق ذاك العنوان الأوسع عليه.

فالمهمّ في حلّ الإشكال في المقام هو العلم الإجماليّ بكون أحد الواجبين لا يقلّ أهمّيّة عن الآخر؛ إذ لا يعقل أن يكون كلّ واحد منهما يقلّ أهمّيّة عن الآخر، وهذا يوجب عدم انعقاد الإطلاقين، بسبب أنّ وجود هذا العلم الإجماليّ أيضاً بديهيّ لكلّ أحد، فوضوحه زائداً وضوح أصل القيد يُفني الظهور في الشمول والإطلاق.

هذا مضافاً إلى ما يمكن أن يقال: من أنّ دليل كلّ واجب إنّما يكون عرفاً بصدد بيان وجوبه في ذاته، لا بصدد بيان نسبته من حيث الأهمّيّة وعدمها بالقياس إلى ما قد يزاحمه من واجب آخر.

144

 

2 ـ أحكام التزاحم

وأمّا المرحلة الثانية: وهي معرفة أحكام باب التزاحم بعد اتّضاح عدم رجوعه إلى التعارض، فيجب أن نرى ما هي مرجّحات باب التزاحم، وأنّه على تقدير عدم المرجّح ما هي الوظيفة في المقام؟

 

مرجّحات باب التزاحم:

أمّا مرجّحات باب التزاحم: فمن الطبيعي الحاجة إلى استيناف بحث عن المرجّحات في باب التزاحم، وعدم الاستغناء بمرجّحات باب التعارض، بعد أن أصبح باباً مستقلاًّ، ومن الواضح أنّه بعد عدم رجوعه إلى التعارض، لا معنى لمثل الترجيح بأقوائيّة الظهور أو أقوائيّة السند مثلا.

والميزان العامّ للترجيح في باب التزاحم هو: ورود أحد الحكمين على الآخر بنفسه أو بامتثاله، دون العكس. ويتّضح موارد هذا الورود بالتدقيق في النكتة التي تنفي التعارض بينهما، فتلك النكتة ـ بالتعمّق فيها ـ هي التي قد توجب تقديم أحدهما على الآخر. فمثلا حينما تكون نكتة عدم التعارض ما مضى من أنّ أحدهما بامتثاله يرفع موضوع الآخر؛ لأنّه لا يقل أهمّيّة عنه، فقد تكون هذه النكتة تنطبق على أحدهما دون الآخر، فيصبح أحدهما وارداً على الآخر بالامتثال دون العكس، فيكون ذاك الوارد هو الأرجح. وتفصيل الكلام في ذلك يكون بشرح الكلام في المرجّحات واحداً بعد آخر فنقول:

 

1 ـ تقديم المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة:

المرجّح الأوّل: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّه إذا كان أحد الواجبين مشروطاً بالقدرة الشرعيّة والآخر مشروطاً بالقدرة العقليّة، قُدّم المشروط بالقدرة