371

 

الاختلاف بين الأمر والنهي في العنوان

المقام الثاني: ما إذا كان الاختلاف عبارة عن التغاير في العنوان من قبيل (الصلاة) و(الغصب)(1).

فقد يقال بأنّ مجرّد الاختلاف في العناوين يوجب في المقام رفع التضادّ حتّى ولو فُرض الاتّحاد في الوجود الخارجيّ؛ وذلك لأنّ الأحكام في الحقيقة إنّما تعرض على الصور الذهنيّة للعناوين لا الوجودات الخارجيّة.

ويمكن إثبات عروضها على الصور الذهنيّة بأحد تقريبات ثلاثة:

الأوّل: أنّ الحكم يتوجّه إلى الممتثل والعاصي معاً، بينما في فرض العصيان لا يتحقّق الوجود الخارجيّ للمأمور به، إذن لابدّ من التفتيش عن معروض آخر للحكم غير الوجود الخارجيّ مشتركاً بين فرض الامتثال والعصيان، وليس إلاّ الوجود الذهنيّ.

الثاني: أنّ الحكم يحرّك نحو العمل، فهو من مبادئ وجوده ومتقدّم عليه، فكيف يمكن أن يكون متأخّراً عنه تأخّر العارض عن المعروض؟ وهذا معنى ما يقال من أنّ العلّية تنافي العروض.

وأجاب على ذلك المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) بأنّ العلّة لوجود الصلاة هو الأمر بوجوده العلميّ، وما يعرض على الصلاة هو الأمر بوجوده الواقعيّ، فلم يلزم التهافت(2).


(1) وهنا أيضاً لا إشكال من ناحية القدرة والتحريك، فيجب أن يقع البحث من ناحية مشكلة المبادئ.

(2) نهاية الدراية، ج 2: 312 ـ 313 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

372

والجواب: إنّ الأمر إذا كان بوجوده الواقعيّ متأخّراً عن وجود الصلاة فيستحيل أن يكون العلم به محرّكاً؛ لأنّ العلم إنّما يكون محرّكاً باعتبار كاشفيّته وتنجيزه لمعلومه، والمعلوم الذي يكون في طول وجود الفعل لا يقبل التنجيز. وبتعبير آخر: العلم بالأمر الفعليّ يكون منجّزاً لا العلم بالأمر التعليقيّ، والأمر لا يكون فعليّاً إلاّ بعد تحقّق معروضه؛ فإنّ فعليّة العارض فرع فعليّة معروضه(1).

الثالث: أنّ الأحكام الشرعيّة من الصفات ذات الإضافة، والصفات التي من هذا القبيل متقوّمة في مرتبة ذاتها بالمضاف إليه، فلا يعقل ـ مثلا ـ حبّ بلا محبوب ولو في مرتبته، اذن فالمضاف إليه يجب أن يكون موجوداً بنفس وجود الصفة وفي صُقعها؛ إذ لو كان موجوداً بوجود مستقلّ لكانت الإضافة عرضيّة قابلة للانفكاك بحسب الذات(2).

إلاّ أنّه يقال في مقابل هذا البيان لجواز اجتماع الأمر والنهي: إنّ مجرّد التغاير في العناوين لا يكفي لرفع الغائلة؛ وذلك لأنّ الأحكام الشرعيّة وإن كانت متعلّقة في واقعها بالعناوين الذهنيّة ولكن لا بما هي هي، بل باعتبارها فانية في الخارج، ولولا فناؤها لما أحبّ المولى شيئاً من هذه العناوين، إذن فمستقرّ الأحكام في


(1) وبكلمة اُخرى: الأمر بوجوده الواقعيّ جُعل بهدف أن يصبح علّة للعلم به الذي هو علّة للعمل، فكيف يتأخّر علّة علّة العمل عن العمل تأخّر العارض عن معروضه؟!

(2) قد يدّعى أنّ معروض الأحكام هي ماهيّة العمل في صُقع التقرّر لا الوجود الخارجيّ ولا الوجود الذهنيّ، وهذا وإن كان لا يبطله الدليل الأوّل والثاني ولكن يبطله الدليل الثالث، وهو أنّ الأحكام من الاُمور الذهنيّة ذات الإضافة، فهي متقوّمة بالمضاف إليه في مرتبة ذاتها.

على أنّه لو لم يمكن إبطال ذلك لا يضرّنا؛ لأنّ الماهيّتين في ذاتهما مختلفتان، فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي أو الحبّ والبغض على مركز واحد.

373

الحقيقة هو المعنونات، فميزان رفع الغائلة هو تعدّد الخارج، ومن هنا قالوا: إنّ المقياس هو أن نرى هل التركيب اتّحاديّ أو انضماميّ؟ وكأنّ هذا المقدار من البيان يشترك فيه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ وإن اختلفوا في كون التركيب الخارجيّ اتّحاديّاً أو انضماميّاً، وفي حدود الاتّحاديّة والانضماميّة على ما سيأتي إن شاء الله.

إلاّ أنّ الصحيح أنّنا وإن كنّا نؤمن بصحّة عبارة: «أنّ الأحكام الشرعيّة تتعلّق بالعناوين الذهنيّة بما هي فانية في الخارج» على إجمالها، ولكن ليس معنى لحاظها بما هي فانية في الخارج سريان الحكم حقيقة إلى الخارج، بحيث يكون العنوان قنطرة حقيقة لوصول الحكم إلى المعنون، فإنّ هذا مستحيل، سواء اُريد به أنّ الحكم يسري إلى خارج عالم الذهن والإدراك ويعرض على ما في الخارج، أو اُريد به أنّ ما في الخارج يدخل في عالم الذهن والإدراك بوسيلة الصور المُدركة فيعرض عليه الحكم: أمّا الأوّل فهو مستحيل؛ لما تقدّم من الأدلّة على استحالة تقوّم الحكم بالوجود الخارجيّ. وأمّا الثاني فلاستحالة دخول الخارج إلى عالم الذهن والإدراك، وإنّما المدرَك هو الصورة الذهنيّة.

وليس معنى الفناء إنّ الصورة الذهنيّة حيثيّة تعليليّة لإدراك الخارج، وإنّما معنى الفناء أنّ الصورة الذهنيّة إنّما عرض عليها الحكم بما هي ملحوظة بالنظر التصوّريّ، أو قل: بالحمل الأوّليّ، لا بما هي ملحوظة بالنظر التصديقيّ، أو قل: بالحمل الشايع، كما تقدّم شرح ذلك في الأبحاث السابقة. إذن، فالحكم غير سار إلى الخارج وإنّما هو متعلّق بالصور بما هي مرئيّة عين الخارج. وحينئذ نقول: إنّ هذه العناوين لا إشكال في تعدّدها ومجرّد أنّها تُرى خارجيّة لا يخرجها عن تعدّدها، فلا بأس بتعلّق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر، وهذا بخلاف ما لو قلنا بالفناء الحقيقيّ فيمتنع حينئذ اجتماع الأمر والنهي؛ إذ لا يوجد في الخارج إلاّ

374

وجودٌ واحد لو كان التركيب اتّحاديّاً، فكيف يكون مبغوضاً ومحبوباً معاً؟(1).

فتحصّل إلى هنا أنّ مجرّد الاختلاف في العناوين الذهنيّة يكفي في حلّ غائلة اجتماع الضدّين.

إلاّ أنّه يجب أن نلحظ: أنّ البيانين اللذين ذكرناهما أخيراً في مثل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) كتقريب للتعارض وعدم انحلال الغائلة على تقدير تماميّتهما هناك، هل يمكن إسراؤهما إلى ما نحن فيه، أو لا؟


(1) في الواقع يوجد وجهان لدعوى استحالة اجتماع الأمر والنهي:

أحدهما: دعوى سريان الحكم إلى ما في الخارج.

وهذا جوابه:

أوّلا: ما بيّن في المتن من عدم إمكان السريان الحقيقيّ.

وثانياً: أنّه لو فُرض السريان إلى ما في الخارج فالذي يسري إليه إنّما هو النهي لكونه شموليّاً، وأمّا الأمر فلا يمكن أن يسري إلى الخارج بمعنى الفرد الخارجيّ، وغاية الأمر افتراض سريانه إلى واقع الطبيعة ويبقى عندئذ واقفاً على الطبيعة؛ لأنّها اُخذت بدليّة.

وثانيهما: دعوى أنّ الفناء بمعناه الصحيح كاف في وقوع التضادّ بين الأمر والنهي أو الحبّ والبغض؛ لأنّ الآمر والناهي أو المحبّ والمبغض حينما ينظر إلى العنوانين بالنظر التصوّريّ أو الحمل الأوّليّ أو النظر الفنائيّ يرى المعنون الذي هو واحد، فلا يستطيع أن يحبّه ويبغضه في آن واحد أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد، ولذا لو قال: (صلّ بكلّ صلاة) وقال: (لا تغصب)، لوقع التضادّ بينهما.

والجواب: أنّ الفناء في الفرد أو في الحصّة إنّما هو ثابت في طرف النهي فقط ـ وهو: (لا تغصب) ـ لشموليّته، وأمّا في طرف الأمر ـ وهو: (صلّ) ـ فلا فناء بلحاظ الأفراد أو الحصص؛ لأنّه اُخذ بدليّاً فلا يفنى مفهومه الذهنيّ إلاّ في ذات الطبيعة والماهيّة، لا في أفرادها وحصصها.

375

فنقول: أمّا البيان الأوّل وهو دعوى أنّ الإطلاق يدلّ بالملازمة على الترخيص في التطبيق على أيّ حصّة أرادها المكلّف فيتصادم مع النهي، فلو تمّ هناك لا يتمّ هنا؛ لأنّ غاية ما يمكن أن يُفرض هي دلالة الإطلاق بالملازمة على التطبيق على الحصّة، أي: على التحصيص، فلو كان النهي نهياً عن التحصيص كما في (لا تصلّ في الحمّام) وقع الانصدام. أمّا لو كان النهي عن القيد كما في (لا تغصب) فلا انصدام بين الترخيص في تحصيص الصلاة بالغصب ـ مثلا ـ وعدم الترخيص في نفس الغصب، فإنّه عنوان مستقلّ والترخيص في التقيّد غير الترخيص في القيد. نعم، لو كان الترخيص في التقيّد والتحصيص وارداً في دليل مستقلّ أصبحت له دلالة التزاميّة عرفيّة على الترخيص في القيد، ولكنّ الترخيص بدلالة التزاميّة للإطلاق ليس له دلالة التزاميّة من هذا القبيل، فتحصّل: أنّه لا يوجد أيّ تناف بين الترخيص في الإضافة وعدم الترخيص في نفس المضاف إليه.

وأمّا البيان الثاني وهو أنّ حبّ الجامع بنحو صِرف الوجود يستلزم حبّ كلّ حصّة حبّاً تقديريّاً، أي: على تقدير عدم الإتيان بسائر الحصص، فهذا أيضاً إنّما يوجب التصادم في مثل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) لا في مثل المقام؛ وذلك لأنّ حبّ الحصّة على تقدير إنّما ينافي بُغض الحصّة على كلّ تقدير المستفاد من (لا تصلّ في الحمّام) ولا ينافي بُغض القيد المستفاد من (لا تغصب).

وقد تحصّل: أنّ المختار كفاية تعدّد العنوان في جواز اجتماع الأمر والنهي، إلاّ أنّه توجد لدينا حول هذا المختار تحفّظات:

الأوّل: أنّنا لا نقول بصحّة العمل في العبادات كما في الصلاة؛ وذلك لا بنكتة استحالة أن يكون الفرد الواحد مصداقاً للحرام والواجب معاً، بل بنكتة أنّ الواجب إذا كان عباديّاً لم يصحّ إلاّ إذا اُتي به على وجه قربيّ، وبعد فرض وحدة الفعل خارجاً ووجود المندوحة يستقلّ العقل بعدم جواز هذه الحركة وقبحها، ومعه

376

يستحيل أن يكون هذا الفعل مقرّباً من قِبَل العقل إلى المولى فلا يقع عبادة، وهذا بخلاف الحال في التوصّليّات.

ويترتّب على هذا التحفّظ بعض آثار عمليّة سوف يأتي في التنبيهات إن شاء الله، وذلك كما في فرض عدم تنجّز الحرمة، فإنّ العقل حينئذ لا يحكم بقبحه فيمكن التقرّب به، بينما بناءً على عدم جواز الاجتماع ـ بنكتة أنّ الحبّ والبغض متضادّان فلا يجتمعان على المجمع ـ لا أثر لموضوع التنجّز وعدمه، فكما لا يجوز اجتماع الضدّين مع علم المكلّف، كذلك لا يجوز مع جهله على تحقيق وتفصيل يأتي في تنبيهات المسألة إن شاء الله.

الثاني: أنّه لو كان العنوان الجامع عنواناً رمزيّاً كعنوان (أحدها) لا حقيقيّاً فلا يجوز الاجتماع، فإنّ الأمر متعلّق في الواقع بذي الرمز، فإذا أمر بإحدى الخصال الثلاث فلا يمكن أن ينهى عن إطعام ستّين مسكيناً(1).

الثالث: أنّه قد يفترض عنوانان متغايران لكنّهما يشتركان في ركن أساس كعنوان (القيام لتعظيم العادل) و(القيام لتعظيم الفاسق)، فهما يشتركان في أصل القيام إلاّ أنّ أحدهما مقيّد بخصوصيّة والآخر مقيّد بخصوصيّة اُخرى، فلو اجتمع العنوانان في معنون واحد فالصحيح أنّه لا يمكن اجتماع الأمر والنهي، فإنّ القيام بعنوانه يكون تحت الحبّ ولو حبّاً ضمنيّاً، والقيام تعظيماً للفاسق مبغوض فيدخل تحت المطلق والمقيّد لاتحت تغاير العنوانين.


(1) وبكلمة اُخرى: إنّ الجامع لو كان حقيقيّاً فالحبّ منصبّ على صِرف الوجود ويقع الكلام في أنّه هل يستلزم ذلك حبّ كلّ حصّة حبّاً تقديريّاً أو لا، في حين أنّه لو كان الجامع رمزيّاً فالحبّ أوّلا وبالذات منصبّ على كلّ حصّة حبّاً تقديريّاً، ويقع الكلام في أنّه هل يستلزم ذلك حبّاً مطلقاً للجامع الرمزيّ المنتزع أو لا.

377

إلى هنا قد أثبتنا ـ مع التحفّظات التي مضت ـ جواز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين بعدم الفناء الحقيقيّ للعنوان في المعنون. والآن نتنزّل عن هذا ونفترض الفناء لكن غاية ما يمكن أن يتنزّل إليه هي افتراض أنّ الذهن يدرك الخارج بواسطة الصورة الذهنيّة، فكأنّه انتقل من رؤية العنوان إلى رؤية المعنون وعندئذ نقول: إنّه رغم هذا التنازل يكون تعدّد العنوان كافياً في رفع الغائلة بلا حاجة إلى إثبات تعدّد المعنون بالدقّةِ، وهذا خلافاً للآخَرين، فإنّه إذا فسّرنا الفناء بهذا التفسير، أي: إنّه يُرى العنوان أوّلاً وبواسطته يُرى المعنون، فمن الواضح أنّه إنّما يُرى المعنون بمقدار ما يحكي عنه العنوان لا بالمقدار الموجود في الخارج، وعندئذ نقول: إنّ هذه العناوين تنقسم إلى قسمين: عناوين ذاتيّة، وعناوين انتزاعيّة. والأوّل له قسمان:

الأوّل: عناوين ذاتيّة نوعيّة، أي: ما هو تمام الماهيّة، كعنوان الإنسان بالنسبة لأفراده، فهو يحكي تمام ماهيّة الوجود الخارجيّ.

والثاني: عناوين ذاتيّة جنسيّة وفصليّة، كالحيوان أو الناطق بالنسبة لأفراد الإنسان، فعنوان من هذا القبيل يفنى في الوجود الخارجيّ لا بمعنى إراءته لتمام الوجود الخارجيّ لزيد مثلا، بل بمعنى إراءته حيثيّة ضمنيّة لهذا الوجود، فالوجود الخارجيّ وإن كان لا يتبعّض في الخارج ولكنّه يتبعّض في الذهن وفيما دخل إليه من عالم الإدراك، فأحياناً لا يُرى الوجود الخارجيّ بتمام حجمه؛ إذ من الضروريّ أنّ ما يراه الذهن بالإنسانيّة يختلف عمّا يراه الذهن بالحيوانيّة، إذن فلا محذور في أن يتعلق الأمر بأحد العنوانين والنهي بالعنوان الآخر.

وأمّا العناوين العرضيّة الانتزاعيّة ـ مثل التقدّم والتأخّر ـ فأيضاً يجوز فيها اجتماع الأمر والنهي على عنوانين، كأن يتعلّق الأمر بتقدّم الصلاة على التسبيح وينهى عن تقدّم الصلاة على الأكل، فقدّم المكلّف الصلاة على التسبيح و الأكل

378

معاً، والصلاة فعل واحد، فهنا أيضاً نقول: إنّ السراية والفناء لا يقتضيان إلاّ رؤية معنون هذا العنوان، ومعنون ذاك العنوان، ومعنون كلّ منهما حيثيّة واقعيّة تكون خارجيّة بنفسها لا بوجودها، وليس مجرّد أمر اعتباريّ ينشئه العقل، وعندئذ فمعنون كلّ من العنوانين حيثيّة مغايرة لمعنون الآخر وإن كانت كلتا الحيثيّتين قائمة بذات الصلاة، فلو فُرض أنّ العنوان صار سبباً لرؤية المعنون فالمعنون ليس هو وجود الصلاة، وإنّما هو تلك الحيثيّة الواقعيّة، وهي متعدّدة في لوح الواقع.

ثُمّ إنّنا وإن أثبتنا جواز اجتماع الأمر والنهي بمجرّد تغاير الصور الذهنيّة بلا حاجة إلى إثبات التغاير في الوجود الخارجيّ، ولكن بما أنّنا استثنينا من ذلك باب العبادات على أساس ما فيها من قصد القربة فنحن أيضاً بحاجة عن البحث عن التغاير وعدمه في الوجود الخارجيّ وأنّ التركيب هل هو اتّحاديّ أو انضماميّ؟

وقد ذهب المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) إلى اتّحاديّة التركيب ووحدة الوجود الخارجيّ.

ولكنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ذكر مقياساً لاتّحاديّة التركيب وانضماميّته، وهو: أنّه متى ما كانت حيثيّة صدق العنوان على المعنون وحمله عليه حيثيّة تعليليّة فالتركيب اتّحاديّ؛ لأنّ تعدّد الحيثيّات التعليليّة لا يُعدّد الشيء، وهذا هو الحال في العناوين الاشتقاقيّة، فحيثيّة صدق (العالم) أو (الفاسق) على الشخص عبارة عن قيام المبدء به، والمبدء حيثيّة تعليليّة، فليس المبدء هو الذي يُحمل عليه العنوان الاشتقاقيّ كي يكون حيثيّة تقييديّة، وإنّما يُحمل العنوان الاشتقاقيّ على الذات التي قام بها المبدء، فقيام المبدء بها إنّما هو علّة لصدق العنوان الاشتقاقيّ على الذات، وتعدّد علل الصدق طبعاً لا يوجب تعدّد الذات.

أمّا في نفس مبادئ الاشتقاق كـ (العلم) و(الفسق) و(الصلاة) و(الغصب) فصدق

379

العنوان على الحالة المخصوصة تكون حيثيّته عبارة عن نفس تلك الحالة المخصوصة، وهذا يعني أنّ حيثيّة الصدق تقييديّة وتعدّد الحيثيّة التقييديّة يُعدِّد لا محالة المصداق.

يبقى أن نعرف أنّ حيثيّة صدق أحد العنوانين متى تغاير حيثيّة صدق الآخر، أي: متى تكون حيثيّة الصدق فيهما متعدّدة كي يوجب ذلك ـ بتقييديّته ـ تعدّد المصداق؟ فهذا ضابطه أن تكون النسبة بين العنوانين عموماً من وجه كما هو الحال في الصلاة والغصب، فإنّ هذا يكشف عن أنّه توجد في مادّة الاجتماع حيثيّتان متغايرتان؛ إذ لو كانت هناك حيثيّة واحدة توجب صدق كلا العنوانين فلماذا لم توجب ذلك في مادّتي الافتراق؟(1)، وإذا تعدّدت حيثيّة الصدق بهذا البرهان فمتى ما كانت تقييديّة تعدّد المصداق لا محالة.

واعترض على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّ عناوين المبادئ تكون على قسمين: فتارةً تكون ماهويّة ومتأصّلة، وعندئذ يكون تعدّد العنوان موجباً


(1) كأنّ المقصود أنّه إذا كانت الجهتان التقييديّتان إحداهما غير الاُخرى فهما وإن كانتا قد تجتمعان صدفةً في مورد واحد، ولكن قد توجد كلّ واحدة منها بدون الاُخرى لما بينهما من المغايرة، فتكون النسبة عموماً من وجه. أمّا إذا تساوت فهذا شاهد على وحدة الجهتين، وأنّه لا يوجد في الخارج وجودان. وإذا كانت النسبة بين مصاديقهما العموم المطلق، إذن فالأخصّ هو مصداق للأعمّ والعامّ يوجد في ضمن الخاصّ بوجود واحد، ويتّحد معه في الوجود سنخ اتّحاد الهيولى بالصورة، فليس وجود العامّ ضمن الخاصّ إلاّ بمعنى خروج ما بالقوّة إلى الفعل، إذن فلكي يكون التركيب انضماميّاً يجب أن تكون النسبة بين الحيثيّتين التقييديّتين عموماً من وجه.

أقول: من الممكن أن يُفترض أحياناً التلازم من أحد الطرفين أو كلا الطرفين رغم تعدّدهما هويّة، فتصبح النسبة بينهما العموم المطلق أو التساوي لا بنكتة كون إحداهما مصداقاً للاُخرى أو عين الاُخرى.

380

لتعدّد المصداق؛ لاستحالة أن تكون لمصداق واحد ماهيّتان. واُخرى تكون انتزاعيّة(1)، فلا يلزم من تعدّد العنوان تعدّد المصداق، فإنّ العنوان الانتزاعيّ لا يلزم أن يكون منشؤه حيثيّة واحدة ثابتة دائماً، بل يمكن أن تكون في مورد الاجتماع لعنوانين انتزاعيّين ماهيّة واحدة تصلح أن تكون منشأً لانتزاع كلا العنوانين العرضيّين(2)، وتكون في مورد الافتراق ماهيّة اُخرى تصلح أن تكون منشأً لانتزاع أحد العنوانين دون الآخر(3).

وتحقيق الكلام في هذا المقام بنحو يتّضح به أنّ هذا النزاع بين العَلَمين ليس في الكبرى كما يتراءى، بل في جهة اُخرى لم يتكلّما فيها: أنّ الحمل على قسمين: حمل مواطاة، أي: حمل الهوهويّة كأن نشير إلى لون ونقول: (إنّه بياض). وحمل اشتقاق، أي: حمل ذو هو كقولنا: (هذا الجسم ذو بياض) أو (هذا الجسم أبيض) ـ فإنّ الهيئة الاشتقاقيّة تغني عن كلمة (ذو) ـ ولا يقال: هذا الجسم بياض.

وعناوين المبادئ ـ كما ذكر السيّد الاُستاذ ـ على قسمين:

الأوّل: العناوين الماهويّة كالقدرة والعلم والبياض، وهذا القسم لا إشكال في أنّ له كلا الحملين، فإنّه يُحمل على مصداقه الحقيقيّ بحمل هو هو، ويُحمل على معروض المصداق بحمل ذو هو.


(1) كعنوان (الغصب) الذي هو منتزع عند السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من التصرّف في مال الغير.

(2) أو يكون لها عنوان ذاتيّ وتكون منشأً لعنوان آخر انتزاعيّ.

(3) ومقصود السيّد الخوئيّ(رحمه الله): أنّه إنّما يتمّ ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) كضابط في المقام بالنسبة للعناوين المتأصّلة دون الانتزاعيّة، لا بمعنى أنّه لا يجوز الاجتماع في موارد العناوين الانتزاعيّة مطلقاً، بل بمعنى أنّه في موارد العناوين الانتزاعيّة قد تتّفق وحدة منشأ انتزاع هذا مع منشأ انتزاع ذاك أو مع ذاتيّة ذاك، فلا يجوز الاجتماع، وقد يتّفق التعدّد فيجوز.

381

والثاني: العناوين الانتزاعيّة، وهذا القسم لا إشكال في تحقّق حمل ذو هو بالنسبة إليه، فنشير إلى السقف ـ مثلا ـ ونقول: (هذا ذوفوقيّة)، أو (هذا فوق)، لكن يبقى سؤال واحد، وهو أنّ هذه العناوين هل لها حمل الهوهويّة أو لا؟ أي: هل في الخارج شيء نقول عنه: (هذا فوقيّة) أو لا؟ فإن قلنا بما هو المشهور بين الحكماء: من أنّ هذه الاُمور الانتزاعيّة ظرف عروضها هو الذهن وظرف الاتّصاف بها هو الخارج (قالوا: وهذا بخلاف الاُمور الاعتباريّة الصِرف كالبحر من زئبق، فإنّ ظرف الاتّصاف فيها أيضاً هو الذهن) أصبح حمل هو هو متعذّراً؛ فإنّ ظرف العروض هو الذهن، فليس ما وراء الذهن شيء يكون هو الفوقيّة. نعم، يوجد في الخارج الفوق، وهذا معنى: أنّ ظرف الاتّصاف هو الخارج.

وإن قلنا بما اخترناه ـ من أنّ هذه العناوين الانتزاعيّة سواءً كانت من مقولة الإضافة كالفوقيّة والتحتيّة أو لا ثابتة بقطع النظر عن عالم الذهن، ولا يُعقل أن يكون ظرف العروض عالماً وظرف الاتّصاف عالماً آخر، بل ظرفهما هو الخارج، غاية الأمر أنّ هذه الاُمور الانتزاعيّة بذاتها خارجيّة لا بوجودها ـ أصبح حمل هو هو ممكناً، فيمكن الإشارة إلى هذا الأمر الخارجيّ ويقال عنه أنّه فوقيّة.

وواقع النزاع بين المحقّق النائينيّ(رحمه الله)والسيّد الاُستاذ لعلّه مربوط بتحديد الموقف تجاه هذه النكتة، أعني: أنّ العناوين الانتزاعيّة هل لها حمل مواطاة أو لا؟ فإن بُني على أنّها تُحمل في الخارج بالحمل المواطاتيّ فالاتّجاه العامّ لكلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هو الصحيح مع ما ستأتي من ملاحظات. وإن بُني على أنّه ليس لها حمل مواطاة فالاتّجاه العامّ لكلام السيّد الاُستاذ هو الصحيح. ومع أنّ حقيقة النزاع كانت من نتائج تحقيق هذه النكتة لم يلتفتا في بحثهما إلى ذلك ولم يبحثا في ذلك، ومن هنا جاءت كلمات العلمين غير متقابلة.

وتوضيح الحال في ذلك: أنّنا لو بنينا على أنّ هذه العناوين الانتزاعيّة لها حمل

382

مواطاة فتحمل على تلك الحيثيّات الخارجيّة، إذن فالاتّجاه العامّ لكلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هو الصحيح؛ لوضوح أنّ هذه العناوين بالنسبة لتلك الحيثيّات تكون نسبة العنوان الذاتيّ لمعنونه، فيكون المعنون مصداقاً لذاك العنوان بالذات، فكما لا يمكن أن تكون لموجود في الخارج ماهيّتان، كذلك لا يمكن هنا أن يكون لمعنون واحد عنوانان عرضيّان يكون كلّ واحد منهما تمام ماهيّته، من دون فرق بين أن تكون النسبة بينهما بحسب المورد عموماً من وجه أو مطلقاً أو التساوي، فإنّ المحمول عليه بالذات في هذا العنوان غيره في ذاك العنوان. وتمام النكتة أنّ هذا العنوان نسبته إلى هذا الخارج نسبة الماهيّة إلى الوجود في الماهيّات الحقيقيّة.

وفي مقابل هذا لا يرد كلام السيّد الاُستاذ من أنّه في العناوين الانتزاعيّة قد ينتزع عنوانان متباينان من منشأ انتزاع واحد، كالسقف فيكون فوقاً وتحتاً، وقد ينتزع عنوانٌ واحد من منشأين، كالفوق ينتزع من أمرين متباينين ماهيّةً يكونان بالنسبة إلى شيء آخر تحتهما فوقاً؛ وذلك لأنّ هذا الحمل حمل اشتقاق(1)، وفي الحمل الاشتقاقيّ يمكن أن يُفترض وحدة المحمول عليه مع تعدّد الحيثيّة حتّى في المبادئ الحقيقيّة، فيقال: (زيد عالم وعادل)، فإنّ المبدء يكون حيثيّة تعليليّة لا تقييديّة. ولابدّ من الالتفات إلى أنّ هاتين الحيثيّتين حيث إنّهما خارجيّتان بأنفسهما فلا محالة تكون خارجيّة إحداهما غير خارجيّة الاُخرى، فإنّ كلّ واحدة منهما بنفسها خارجيّة فهنا خارجيّتان.


(1) فتبيّن أنّ النزاع لم يكن بالدقّة كبرويّاً، فإنّ العناوين الانتزاعيّة ـ التي قال عنها السيّد الخوئيّ(رحمه الله): إنّ كون النسبة بينها عموماً من وجه لا يدلّ على تعدّد المعنون ـ ترجع إلى العناوين الاشتقاقيّة لا إلى مبادئ الاشتقاق، وقد اعترف المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في العناوين الاشتقاقيّة بعدم دلالة العموم من وجه على تعدّد المعنون.

383

أمّا لو بنينا على أنّ العناوين الانتزاعيّة ليس لها حمل مواطاة كان الاتّجاه العامّ لكلام السيّد الاُستاذ هو الصحيح، فإنّ مجرّد تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون في الخارج، فإنّه ليس مصداقاً للمبدء بل مصداق لذي المبدء، وعندئذ يمكن أن ينتزع من شيء واحد عنوانان، لا بمعنى أن يكون نفس المبدء بل بمعنى أن يكون ذا مبدئين، فالسقف ليس فوقيّةً وتحتيّةً معاً ولكنّه فوق وتحت معاً، وبما أنّنا عرفنا أنّ الصحيح أنّ هذه المبادئ لها حمل مواطاة فيصحّ ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) مع ملاحظتين عليه:

1 ـ ما أشرنا إليه من أنّ نكتة كون تعدّد العنوان موجباً لتعدّد المعنون تجري حتّى في المتساويين والعموم المطلق ولا تختصّ بالعموم من وجه. نعم، يشترط أن يكون العنوانان عرضيّين لا من قبيل الجنس والفصل الذي يكون أحدهما متمّماً للآخر.

2 ـ إنّ هذه الطريقة لإثبات جواز اجتماع الأمر والنهي لا تنطبق على مثال الصلاة والغصب ونحوه، فإنّها ـ كما اعترف به المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ إنّما تتمّ في نفس المبادئ لا في المشتقّات، وفي مثال العبادة والغصب عندنا عرضان وهما عباديّة العمل وغصبيّته، والمعروض واحد وهو هذه الصلاة، وحينئذ إذا كان الأمر متعلّقاً بالعباديّة ونفس الإضافة، والنهي متعلّقاً بإضافة الغصبيّة كان متعلّق أحدهما غير الآخر. وأمّا إذا كان متعلّق الأمر والنهي هو الفعل العباديّ والفعل الغصبيّ ـ كما هو الواقع، فإنّ العبادة والغصب وإن كانا مصدرين إلاّ أنّ المقصود منهما هو العمل العباديّ والعمل الغصبيّ ـ فالحمل يصير حمل ذوهو ولا تعدّد في الوجود الخارجيّ حينئذ.

ثُمّ إنّه ظهر من مجموع ما ذكرناه ثلاثة ملاكات لجواز اجتماع الأمر والنهي:

الأوّل: ما قد يقال حتّى فيما إذا كان الاختلاف بين المتعلّقين بالإطلاق

384

والتقييد، كما في: (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، لا بتعدّد العنوان، وهو: أنّ الأمر لا يسري من صِرف الوجود إلى الحصص. ونحن لم نقبل هذا الملاك بنكتة وجدانيّة أنّ حبّ الجامع بنحو صِرف الوجود يلازم الحبّ على تقدير بالنسبة لكلّ حصّة.

والثاني: كفاية تعدّد العنوان لرفع الغائلة.

والثالث: كشف تعدّد العنوان عن تعدّد المعنون.

والآن نريد أن نلحظ النسبة بين نتائج هذه الملاكات:

أمّا المقارنة بين الملاك الثاني والثالث: فهما يتصادقان غالباً باستثناء مورد واحد، وتوضيحه:

إنّه في المبادئ الحقيقيّة ـ التي تعتبر من المقولات الأوّليّة ـ يصدق كلا الملاكين، فتعدّد العنوان محفوظ، وبما أنّ الحمل حمل مواطاة يستلزم ذلك تعدّد المعنون. وأمّا في المبادئ الانتزاعيّة المحمولة بحمل مواطاة فالأمر أيضاً كذلك، فالعنوان متعدّد وكلّ من المعنونين له خارجيّة مستقلّة عن خارجيّة الاُخرى.

وأمّا إذا فرضنا أنّ العنوانين قد تعلّق بهما الأمر والنهي بما هما محمولان في الخارج بحمل ذو هو لا بحمل هو هو ـ إمّا بأن ننكر الحمل المواطاتيّ في العناوين الانتزاعيّة، أو بأن نعترف بذلك، أو كانت المبادئ من المقولات الأوّليّة ولكن مع هذا كان الحكم متعلّقاً بالعنوان بما هو محمول اشتقاقيّ على الخارج ـ فهنا كلا الملاكين لا يتمّ:

أمّا الملاك الثالث فلوضوح أنّ تعدّد العناوين الاشتقاقيّة لا يستلزم تعدّد المعنون؛ فإنّ الحيثيّة تعليليّة لا تقييديّة، فالمحمول عليه قد يكون واحداً رغم تعدّد العناوين.

وأمّا الملاك الثاني فلأنّ الأمر والنهي لم يتعلّقا بالحيثيّة محضاً بل تعلّقا بذي

385

الحيثيّة، إذن فهناك محور مشترك بين متعلّق الأمر والنهي وهو نفس الفعل، فالفعل الواحد قد يكون غصبيّاً وعباديّاً في نفس الوقت وقد قلنا في التحفّظ الثالث بأنّ الملاك الثاني لا يجري فيما إذا كان بين العنوانين محور مشترك.

نعم، يمكن تصوير الانفكاك بين هذين الملاكين بنحو يتمّ الثاني دون الثالث فيما لو تعلّق الأمر بعنوان حيثيّة الجنس والنهي بعنوان حيثيّة الفصل، فالجنس والفصل رغم اتّحادهما خارجاً قابل في عالم الذهن للتحليل إلى عنوانين.

فلو تعلّق الأمر بالجنس وتعلّق النهي بعنوان حيثيّة الفصل، كما لو تعلّق الأمر بإيجاد الخطّ والنهي بإيجاد خصوصيّة الانحناء الذي هو الفصل لا بالخطّ المنحني الذي هو الحصّة، فهذا الاجتماع يجوز بناءً على الملاك الثاني، بينما لا يتأتّى فيه الملاك الثالث؛ فإنّ العنوان متعدّد ولكنّ المعنون واحد خارجاً، فإنّ الجنس والفصل خارجيّتهما ليست بأنفسهما بل بوجودهما، فإنّهما جزءا ماهيّة أوّليّة لها وجودٌ واحد في الخارج، وهذا بخلاف الحيثيّات الانتزاعيّة، فإنّه هناك لا يُعقل وحدة خارجيّة لعنوانين منها(1)، فإنّها تكون خارجيّة بأنفسها، فمع تعدّدها لا يُعقل اتّحاد خارجيّتها. ولكن في الجنس والفصل يمكن أن يوجد لكليهما


(1) لا يخفى أنّ الجنس والفصل لعنوان انتزاعيّ واحد في لوح الواقع، حالهما حال الجنس والفصل لشيء متأصّل خارجاً في لوح الوجود، فهما خارجيّان بخارجيّة واحدة؛ لأنّ أحدهما مقوّم للآخر، وخارجيّة جنسه تكون بخارجيّة فصله، كما أنّ الجنس والفصل في الأشياء المتأصّلة خارجاً وجودهما بوجود واحد. فالمقياس ليس هو كون العنوانين متأصّلين أو انتزاعيّين، وإنّما المقياس كون أحدهما مقوّماً للآخر وعدمه، فمع فرض المقوّميّة هما متّحدان خارجاً، ومع فرض عدم المقوّميّة ليسا متّحدين.

386

مصداق واحد في الخارج؛ فإنّ العنوانين طوليّان وليسا عرضيّين، وقد قلنا سابقاً: إنّه مع العرضيّة لا يمكن اتّحاد المصداق، ومع الطوليّة يتّحد المصداق، وحيث إنّ الوجدان قاض بجواز اجتماع الأمر والنهي في مثل: (ارسم خطّاً ولا تجعله منحنياً)، فهذا دليل إنّيٌّ على صحّة الملاك الثاني.

وأمّا الملاك الأوّل فنسبته إلى الملاكين الآخرين بحسب المورد عموم من وجه، فقد يصدق الملاك الأوّل دون الآخرين، كما هو الحال في فرض وجود محور مشترك بين العنوانين، سواءً كان ذاك المحور هو تمام المأمور به وكان العنوانان من قبيل المطلق والمقيّد كما في: (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، أو كان ذاك المحور جزء المأمور وكان بين العنوانين عموماً من وجه، فعلى أيّ حال لا يصدق الملاكان الأخيران؛ لاتّحاد العنوان وكذا المعنون ولو في بعض الأجزاء، ولكن يصدق الملاك الأوّل لو تمّ في نفسه.

وقد يصدق الأخيران دون الأوّل، كما لو لم يوجد محور مشترك بين عنوانين عرضيّين ولكن كان الأمر كالنهي متعلّقاً بمطلق الوجود، ومطلق الوجود يقتضي السريان إلى الحصص، فلا يتمّ الملاك الأوّل(1) بينما يتمّ الملاك الثاني والثالث. ولو كان الأمر في ذلك بنحو صِرف الوجود تمّت كلّ الملاكات الثلاثة.


(1) مثاله: أن نفترض أنّنا اُمرنا بصلاتيّة الكون لا بالكون الصلاتيّ، أي: إنّ الأمر تعلّق بالمبدء لا بالعنوان الاشتقاقيّ، وكان المأمور به صلاتيّة كلّ كون نحقّقه، فالأمر تعلّق بمطلق الوجود ولكن لا بمعنى أن نضطرّ إلى الكون الغصبيّ، فإنّ المأمور به إنّما هو صلاتيّة كلّ كون نحقّقه، وبإمكاننا أن لا نحقّق الكون الغصبيّ إمّا بالتجنّب عن ذاك المكان أو بإرضاء صاحبه.

387

 

تطبيق البحث على الصلاة في اللباس أو المكان المغصوبين:

بقي الكلام في تطبيق الأفكار على خصوص مثال (الصلاة في المغصوب) وهذا المثال ينحلّ إلى فرعين: (الصلاة في لباس مغصوب) و(الصلاة في مكان مغصوب):

أمّا الصلاة في لباس مغصوب: فيوجد تقريبان لدعوى تحقّق محذور الاجتماع فيها:

الأوّل: مخصوص بالساتر، وهو ما بنى عليه الأصحاب، وحاصله: أنّ التستّر فعل واحد لا يُعقل أن يقع مصداقاً للواجب والحرام.

ونحن قبل أن نحتاج إلى التحقيق عن أنّ هذا فعل واحد أو لا، أو أنّ العنوان متعدّد أو لا نرى أنّ المورد ليس من موارد الاجتماع؛ وذلك لأنّ التستّر قيد في الصلاة كالاستقبال، وليس جزءاً؛ إذ لا دليل على جزئيّته. على أنّه لو كان جزءاً للصلاة لوجبت فيه القربة كسائر أجزاء الصلاة، بينما من المسلّم فقهيّاً كفاية التستّر بلا قربة بل مع الغفلة الكاملة، والأمر بالمقيّد لا ينبسط على القيد، خلافاً لما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في بحث الطهارات الثلاث من انبساط الأمر بالمقيّد على القيد. ومن هنا نقول في الفقه بأنّ مقتضى الصناعة ـ إذا لم يقم إجماع تعبّديّ على اشتراط إباحة الساتر ـ هو صحّة الصلاة في الساتر المغصوب.

الثاني: يأتي في مطلق اللباس، وهو أنّ ما هو الفعل الصلاتيّ يكون مصبّاً للأمر والنهي، فإنّ الركوع والسجود يكون علّة لتحريك الثوب، والتحريك تصرّف في المغصوب فهو حرام، وعلّة الحرام حرام، فلزم اجتماع الأمر والنهي؛ وذلك إمّا بأن يُبنى على أنّ الهُويّ جزء للصلاة، وهو علّة لتحريك الثوب فيحرم. أو يقال: إنّ الهُويّ وإن لم يكن جزءاً وإنّما الجزء هو نتيجة الهُويّ، وهو الركوع، لكن الركوع

388

علّة لطيّ الثوب بنحو مخصوص، وهو أيضاً تصرّف في الغصب.

وهذا التقريب أيضاً غير تامّ؛ فإنّ هذا الجزء لو سلّم فيه ما قيل فلا نسلّم كونه علّة للحرام، فإنّ حصول الطيّ في الثوب يحتاج إلى اُمور اُخرى ككون الثوب على بدنه، فلو كان ينزع الثوب لما أوجب هويّه طيّ الثوب، إذن فاحتفاظ الثوب بموقعه المخصوص جزء العلّة(1).

وأمّا الصلاة في مكان مغصوب: فنتكلّم في ذلك من زاوية مسألة اجتماع الأمر والنهي، لا من زاوية الأدلّة الخاصّة التي قد يستدلّ بها على عدم الجواز، كما استدلّ به الحرّ العامليّ حيث ادّعى وجود روايات على ذلك.

وتفصيل الكلام في ذلك هو: أنّه يوجد عندنا عنوانان: عنوان (الصلاة)، وعنوان (الغصب)، فلابدّ وأن يُرى أنّ تعدّد العنوان هل يكفي لرفع غائلة الاجتماع بأحد الملاكات الثلاثة المتقدّمة أو لا؟ وطرح هذه المسألة بهذا الشكل يكون انطلاقاً من دعوى أنّ (الصلاة) هي المأمور بها و(الغصب) هو المنهيّ عنه، ولكنّ الواقع أنّ الحرام ليس هو عنوان (الغصب) بل هو من مصاديق الغصب، فأكل مال الغير ليس مصداقاً للحرام بل هو بما هو أكل مال الغير حرام وهكذا؛ وذلك بدليل أنّه ورد في الكتاب والسنّة النهي عن جملة من هذه العناوين التفصيليّة كقوله تعالى:


(1) قد يقال: كون الركوع جزء العلّة كاف في بطلان الصلاة بعد فرضها عبادة. بيانه: إنّه إذا كان مجموع أجزاء العلّة حراماً ومبغوضاً فهو يستلزم بطبعه مبغوضيّة كلّ جزء على تقدير تحقّق باقي الأجزاء. على أنّه لو سُلّم أنّ طيّ الثوب تصرّف في المغصوب فيصبح نفس الركوع أيضاً الذي هو جزء العلّة لهذا التصرّف ـ بعد الفراغ عن حصول باقي الأجزاء ـ تصرّفاً عرفاً، فيدخل في الرواية المرويّة عن الإمام صاحب الزمان(عليه السلام) الدالّة على حرمة التصرّف في مال الغير.

389

﴿لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾(1)، فنفس عنوان الدخول بلا إذن حرام، ولا فرق بينه وبين تمزيق ثوب الغير، فلابدّ أن يكون هو أيضاً حراماً بما هو كذلك، إذن فيجب أن نرجع إلى العناوين التفصيليّة لمصاديق (الغصب) لنرى أنّ أحد العناوين التفصيليّة هل يكون مصبّاً للأمر أو لا.

والتصرّف في مال الغير يكون بأحد اُمور: إمّا بالكون في ملك الغير، وإمّا بتغيير في ملك الغير بنقله مكاناً أو صبغه أو نحو ذلك، وإمّا بإلقاء الثقل على مال الغير، فمجرّد المماسّة لا يصدق عليها أنّها تصرّف في مال الغير ولكن الثقل عليه يعتبر تصرّفاً.

فلنرَ أنّه هل أنّ واحداً من أجزاء الصلاة أصبح واحداً من هذه المصاديق حتّى يجتمع الأمر والنهي أو لا؟ فنقول: أمّا النيّة فليست شيئاً منها، وأمّا القراءة فأيضاً ليست شيئاً منها، إلاّ أنّ هناك شبهة تقول بأنّ القراءة مرجعها إلى الصوت، والصوت يموّج الهواء، وهذا تغيير في ملك الغير.

وهذه الشبهة غير صحيحة؛ إذ:

أوّلا: الصوت يحصل بتمويج الهواء، لا أنّه عينه.

وثانياً: لا دليل على كون هذا الهواء المتموّج مملوكاً لصاحب البيت، فصاحب البيت إنّما يملك الفضاء، أمّا الهواء فلا دليل على مالكيّته له.

وثالثاً: لو سلّمنا أنّه مالك للهواء فلا نسلّم أنّ الصوت تصرّف عرفيّ، فالعرف لا يفهم كون الصوت موجاً في الهواء وكون التمويج تصرّفاً.

ورابعاً: لو سُلّم أنّه تصرّف فلا إطلاق لدليل حرمة التصرّف في ملك الغير.


(1) وكقوله: ﴿لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِل﴾ وكرواية: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه».

390

وأمّا بالنسبة للأفعال كالركوع والسجود والقيام فقد يقال بأنّ أحد الواجبات هو الاستقرار، والاستقرار هو الكون في المكان فاجتمع الأمر والنهي. إلاّ أنّ الاستقرار المعتبر في الصلاة بمعنى عدم الاضطراب يمنةً ويسرةً من دون أن يستبطن معنى المكان، فهذا الاستقرار غير الكون في المكان.

وقد يقال بأنّ الاجتماع يكون بلحاظ نفس الركوع والسجود، فإنّه ركوع في مكان الغير.

والجواب: إنّ الركوع تصرّف في الراكع لا في المكان، فإنّه بعد أصل الكون في المكان المغصوب لا أثر لهذه الهيئات في المقام.

وقد يقال بأنّه يحصل الاجتماع بلحاظ الهُويّ، فإنّ الهُويّ إلى الركوع حركة في الكون في المكان، والحركة في الكون في المكان مصداقٌ للكون فهو كون. إلاّ أنّ الهُويّ من مقدّمات الأجزاء لا أنّه جزءٌ للصلاة.

نعم، يبقى شيء واحد في المقام مربوط بتحقيق في معنى السجود، وهو أنّ السجود هل هو مماسّة الأرض أو إلقاء الثقل على الأرض؟ فبناءً على الأوّل لا يكون تصرّفاً في ملك الغير، وعلى الثاني يكون تصرّفاً في ملك الغير. وحينئذ فمن يقول بجواز الاجتماع بملاك تعدّد العنوان أو المعنون لابدّ وأن يقول بالامتناع؛ فإنّ إلقاء الثقل بنفسه متعلّق للنهي وهو بنفسه معنى السجود. نعم، لو قيل بالجواز بالملاك الأوّل لأمكن الاجتماع(1).

 


(1) ولكن في مثل الصلاة يبطل العمل؛ لاستحالة التقرّر بالحرام.

391

 

تنبيهات

 

هل المسألة فقهيّة أو اُصوليّة أو كلاميّة أو غيرها؟

التنبيه الأوّل: هل المسألة فقهيّة أو اُصوليّة أو كلاميّة أو غيرها؟ وجوه مذكورة في الكتب. وقد اختار المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أنّها اُصوليّة، فإنّ ضابط الاُصوليّة عنده أن تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعيّ، ومسألة اجتماع الأمر والنهي يترتّب عليها استنباط الحكم بصحّة العبادة وعدم صحّتها.

واعترض على ذلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّها ليست اُصوليّة؛ لأنّ ضابطها ليس هو مجرّد وقوع النتيجة في طريق الاستنباط، وإلاّ دخلت مسائل اُصول الدين ـ مثلا ـ في علم الاُصول، وإنّما الضابط أن تقع نتيجتها في طريق الاستنباط بحيث لا تحتاج مع ضمّ صغرياتها إلى كبرى اُخرى. فمثلا حجّيّة خبر الواحد مع ضمّ الخبر ـ الذي هو صغرى ـ يستنبط منها وجوب السورة، وكذلك كبرى الاستصحاب مع ضمّ اليقين السابق والشكّ اللاحق يستنبط منها حكم، بينما مسألة الاجتماع وإن كانت في طريق الاستنباط إلاّ أنّها تحتاج إلى كبرى اُخرى اُصوليّة، فإنّ القول بالامتناع يحقّق التعارض بين (صلّ) و(لا تغصب)، فلابدّ من أن نطبّق قوانين باب التعارض، فمثلا يقال بأنّ إطلاق النهي مقدّم على الأمر، وهذا أيضاً لا يكفي بل نحتاج إلى قاعدة اُخرى، وهي أنّ النهي عن العبادة موجبٌ لفسادها.

واعترض على ذلك السيّد الاُستاذ ـ بعد تسليم ما ذكره ضابطاً للمسألة الاُصوليّة ـ بأنّه منطبق على المقام، فإنّه يكفي أن تقع النتيجة على أحد الأقوال في طريق الاستنباط بلا ضمّ إلى كبرى اُخرى، وفي المقام الأمر كذلك، فإنّه على تقدير جواز الاجتماع يحكم بصحّة العبادة بلا حاجة إلى ضمّ كبرى اُخرى.

392

وهذا الكلام يمكن للمحقّق النائينيّ(رحمه الله) أن يدفعه بأن يقول: إنّ الجواز أيضاً لا يستفاد منه الصحّة إلاّ بضمّ كبرى اُخرى؛ وذلك لأنّ الجواز: تارةً يكون بملاك أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، واُخرى يكون بملاك آخر مع التسليم بوحدة المعنون:

فعلى الثاني لا يكفي الجواز وحده لتصحيح العبادة؛ فإنّ هذه العبادة منهيّ عنها، فنحتاج إلى استيناف بحث عن أنّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد أو لا.

وأمّا على الأوّل ـ أعني: فرض تعدّد المعنون ـ فمع عدم المندوحة، بأن دار أمره بين أن يكون في مكان مباح من دون أن يصلّي وبين أن يصلّي في المكان المغصوب، يقع التزاحم بين الواجب والحرام، فلابدّ من تطبيق قواعد باب التزاحم.

وحينئذ فتصحيح العبادة يتوقّف على أحد اُمور ثلاثة: إمّا القول بترجيح الواجب على الحرام، أو القول بإمكان الترتّب، أو القول بتصحيح العبادة بالتقرّب بالملاك. ومع المندوحة يكون هناك فردان من الصلاة، أحدهما غير مقدور شرعاً وهو الصلاة في المكان المغصوب، فإن قلنا بما يقوله المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّ الأمر لا يمكن أن يتعلّق بالجامع بين المقدور وغير المقدور، دخل مورد الاجتماع في باب التزاحم، فقد يثبت الأمر في طول عصيان النهي وتصحّ الصلاة بالأمر الترتّبي. وإن قلنا بإمكان تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور، ثبتت صحّة الصلاة، ولكن احتاج ذلك إلى مسألة اُصوليّة اُخرى(1) وهي نفس إمكان


(1) قد يقال: إنّ جواز اجتماع الأمر والنهي يستبطن إمّا إمكان الترتّب، أو إمكان تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور؛ إذ لو لم يكن شيء منهما يجب: إمّا أن

393

تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور.

ولو بدّل المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1) الحكم المستنبط إلى نفس الوجوب والحرمة، فكان يقول بأنّه على الجواز يثبت الوجوب والحرمة بخلاف فرض الامتناع، لكان أبعد من الإشكال.

وعلى أيّ حال فالصحيح أنّ المسألة اُصوليّة، وضابط الاُصوليّة عندنا عبارة


يختصّ الأمر بسائر الحصص، أو ينسحب النهي عن المجمع، وهذا يعني عدم جواز اجتماع الأمر والنهي.

إلاّ أن يكون المقصود هنا المشي على تصوّرات المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، فإنّ المحقّق النائينيّ يبدو أنّه يقصد بجواز الاجتماع معنى يجتمع حتّى مع القول بعدم إمكان تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور، والقول بعدم إمكان الترتّب في المجمع، ولهذا ذهب هو(رحمه الله) إلى إمكان اجتماع الأمر والنهي رغم أنّه قال بعدم إمكان تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور، وبعدم إمكان الترتّب في المجمع، وكأنّ مقصوده من جواز اجتماع الأمر والنهي مجرّد أنّ التركيب انضماميّ مثلا لا اتّحاديّ، أو خروج ذلك عن باب التعارض، بأن يُفرض غفلته عن أنّ التزاحم مع عدم إمكان الترتّب يرجع إلى التعارض.

وكأنّ الأثر العمليّ للجواز بهذا المعنى عنده عبارة عن أنّه يصحّ العمل في المجمع في التوصّليّات حتّى مع تقديم النهي؛ لأنّ انسحاب الأمر من الجامع إلى الحصص الاُخرى لم يكن بنكتة لزوم اجتماع الضدّين بل كانت بنكتة التزاحم وعدم القدرة، والقدرة ليست عنده دخيلة في الملاك فيصحّ العمل بالملاك، بل وكذا الحال في العباديّات لولا القبح الفاعليّ عنده.

(1) لا يخفى أنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في الكفاية لم يصرّح بما هو مقصوده من الحكم المستنبط هل هو الصحّة والفساد أو الوجوب والحرمة، وأنّ المظنون كون نظره إلى الصحّة والفساد؛ إذ هما الأثران العمليّان.

394

عن اشتمال المسألة على ثلاث خصائص كلّها متوفّرة في المقام:

1 ـ أن يكون استخراج الحكم منها بنحو الاستنباط، من قبيل استخراج وجوب المقدّمة من قانون الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، لا بنحو تطبيق الكلّيّ على مصاديقه من قبيل القواعد الفقهيّة كـ «لا ضرر ولا ضرار»، وفي المقام الحكم ـ سواء كان هو الوجوب والحرمة أو الصحّة والفساد ـ يكون استخراجه من الإمكان والامتناع بنحو الاستنباط لا التطبيق.

2 ـ أن تكون المسألة بحسب مادّتها مشتركة وأوسع من باب واحد من أبواب الفقه لا كقاعدة الطهارة، وفي المقام الأمر كذلك.

3 ـ أن يكون ما يبحث عنه أمراً راجعاً إلى الشارع لا أمراً أجنبيّاً عنه، فمثلا البحث عن حجّيّة الاستصحاب يكون مرتبطاً بالشارع، وكذا البحث عن دلالة صيغة (افعل) على الوجوب، فإنّ الصيغة ترد في كلام الشارع، وهذا بخلاف البحث عن وثاقة الراوي، فليست الوثاقة صفة قائمة بفعل من أفعال الشارع وإنّما هي حالة شخصيّة للراوي. وهذه الخصيصة أيضاً متوفّرة في المقام، فتكون المسألة اُصوليّة.

 

هل الإمكان والامتناع في المقام يراد بهما خصوص العقليّين أو ما يشمل العرفيّ؟

التنبيه الثاني: في أنّ الإمكان والامتناع المبحوث عنهما في المقام هل يراد بهما خصوص العقليّين أو ما يشمل العرفيّ، حيث قد يقال بأنّ اجتماع الأمر والنهي غير ممتنع عقلا ولكنّه ممتنع عرفاً؟

وقد استشكل في التعميم للنظر العرفيّ بأنّ العرف ليس له شأن في إدراك الاُمور الواقعيّة.

395

وقد قيل في توجيه دخل العرف بأنّ العقل هو الذي يحكم بأنّه لا يجوز اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد، وأمّا أنّ هذا هل هو شيء واحد أو لا، فالنظر العرفيّ فيه قد يختلف عن النظر الدقّيّ.

وأشكل عليه الأصحاب ـ كالسيّد الاُستاذ وغيره ـ بأنّ هذا مرجعه إلى تشخيص المصداق، وفي باب تشخيص المصداق النظر العرفيّ ليس حجّةً، وإنّما النظر العرفيّ حجّة في تشخيص مدلول اللفظ، فمثلا لو عرفنا بحكم العرف أنّ الصعيد اسم لخصوص التراب أخذنا به، ولا نأخذ بتشخيصه أنّ هذا ترابٌ أو لا.

وهذا الذي قالوه صحيح في نفسه، فإنّ العرف غير حجّة في المصاديق ولكنّ العرف بمعنى العقل المسامحيّ والممزوج بالاستحسانات والأذواق الاجتماعيّة قد يدرك الملازمات والاُمور الواقعيّة بنحو يخالف المُدرَك بالدقّة العقليّة، فقد يدرك تلازماً بين شيئين لا يرى العقل الدقّيّ تلازماً بينهما، وهذا الدرك العرفيّ قد يكوِّن دلالةً التزاميّةً عرفيّة للألفاظ وتكون حجّة.

فمثلا العرف يرى أنّ مطهّريّة الشيء تستلزم طهارته، بينما لا يرى العقل تلازماً من هذا القبيل، وهذا يثبت دلالةً التزاميّة عرفيّة لدليل مطهّريّة الماء على طهارته وتكون حجّة. والعرف يرى تنافراً بين أن يكون الماء الواحد نصفه نجساً وأن يكون نصفه طاهراً، بينما العقل المحض لا يرى تنافراً بين الأمرين، وهذا يجعلنا نستدلّ بدليل نجاسة بعض الماء على نجاسة البعض الآخر بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة.

ففي المقام أيضاً من المعقول أن يقال بوجود التنافر بين الأمر والنهي على شيء واحد عرفاً ولو لم يثبت التنافر عقلا، وهذا يوجب دلالةً التزاميّة عرفيّة لدليل كلّ من الأمر والنهي على نفي الآخر فيتعارضان، إذن فهناك معنى معقول للبحث عن الإمكان والامتناع العرفيّ. نعم، أثر ذلك إنّما يظهر فيما لو كان الدليل على