187

الرابع: أن يرد خطاب ثانويّ في أحد الحكمين بلحاظ الطوارئ والأحوال، كما يقال في الصلاة مثلا: إنّ الصلاة لا تُترك بحال ـ طبعاً هذه العبارة بذاتها غير واردة، لكنّه قد ورد ما يقاربها في المعنى ـ فيُفهم من مثل هذا الخطاب أنّ الصلاة أهمّ من مزاحماتها. نعم، إنّما يُفهم من ذلك أهمّيّة جامع الصلاة، لا أهمّيّة مرتبة معيّنة منها، فجامع الصلاة ـ الشامل للصلاة الاختياريّة والصلوات الاضطراريّة بمراتبها المختلفة: من صلاة جلوسيّة واضطجاعيّة وإيمائيّة وصلوات الخوف والمطاردة على اختلاف مراتبها، حتّى تصل إلى التكبير بدلا عن كلّ ركعة، ونحو ذلك من الصلوات الاضطراريّة ـ هي التي ثبت أنّها لا تُترك بحال، وتكون أهمّ ممّا يزاحمها. وهذا الطريق أيضاً صحيح.

الخامس: أن يكون الحكمان من الأحكام الارتكازيّة العقلائيّة المفهوم نكتتها عرفاً، فتصبح لدليل الحكم دلالة التزاميّة عرفيّة على أنّه بنفس تلك النكتة. وحينئذ فبالإمكان معرفة الأهمّ حينما نعرف أهمّيّة أحد الحكمين في نكتته، حيث إنّنا مطّلعون على نكتة الحكمين. مثاله: دليل حرمة دم الإنسان ودليل حرمة ماله، فإنّهما بنكتة عرفيّة، وهي: عبارة عن التحفّظ على شؤون هذا الشخص، وعليه من الواضح أنّه إذا غرق مثلا هذا الشخص، وتوقّف إنجاؤه على سحْق زرعه، فدار الأمر بين إنجائه من الغرق والتجنّب من هلاك زرعه، كان الأوّل أهمّ. وهذا الطريق لمعرفة الأهمّ أيضاً صحيح.

 

4 ـ التقديم بالأسبقيّة زماناً:

المرجّح الرابع: هو الأسبقيّة زماناً، وتحقيق الكلام في ذلك: أنّه إذا كان الواجبان مشروطين بالقدرة العقليّة، بأن لم تكن القدرة دخيلة في الملاك، فلا موجب للترجيح بالأسبقيّة زماناً، فلو كانا متساويين في الأهمّيّة تمّ التوارد من كلا

188

الطرفين؛ إذ المقيّد اللبّيّ نسبته إليهما على حدٍّ سواء، وهو عدم الانشغال بضدٍّ مساو أو أهمّ. ولو كان أحدهما أهمّ فلا محالة هو الذي ـ بامتثاله ـ يرفع موضوع الآخر؛ لتقيّده عقلا بعدم الانشغال بضدّ مساو أو أهمّ، دون العكس.

وإذا كانا مشروطين بالقدرة الشرعيّة صحّ الترجيح بالأسبقيّة زماناً في صورتين:

الصورة الاُولى: أن يُفرض أنّ القدرة الدخيلة في ملاك الواجب كانت عبارة عن القدرة التكوينيّة على الواجب في ظرفه، لا القدرة التكوينيّة عليه مطلقاً ولو بلحاظ زمان سابق. وحينئذ فلو أتى بالواجب الأوّل لم يخسّر المولى شيئاً من الملاكين؛ فإنّ ملاك الواجب الأوّل قد حصل، وملاك الواجب الثاني قد ارتفع موضوعاً؛ لأنّه في زمانه أصبح عاجزاً تكويناً. بينما لو عكس الأمر فقد خسّر المولى ملاك الواجب الأوّل؛ لأنّه كان قادراً حينه(1).

الصورة الثانية: أن يُفرض أنّه من الدخيل في الملاك أيضاً القدرة بمعنى عدم


(1) لا يخفى: أنّ هذا الفرض يكون خارجاً عمّا نحن فيه؛ لأنّه في هذا الفرض يجوز تفويت القدرة للزمان الثاني حتّى بالانشغال بضدٍّ غير واجب في الزمان الأوّل، فوجوب الواجب الأوّل لا أثر له في المقام.

فالأولى تبديل هذا الفرض بفرض آخر، وهو: فرض أنّ القدرة الدخيلة في ملاك الواجب عبارة عن الجامع بين القدرة التكوينيّة على الواجب في ظرفه، والقدرة بلحاظ زمان سابق التي فُوّتت بغير معذّر شرعيّ، وعندئذ ففي الزمان الأوّل يصبح الواجب فعليّاً عليه؛ لأنّ الفرد الأوّل من هذا الجامع ـ وهي القدرة التكوينيّة ـ موجودة، فيكون الملاك تامّاً، فإذا صرف القدرة في الواجب الأوّل انتفى ملاك الواجب الثاني؛ لأنّه عنده لا يوجد شيء من فردي هذا الجامع، فلا هو قادرٌ قدرة تكوينيّة في وقت العمل على العمل، ولا كان قادراً بقدرة سابقة فُوّتت بغير معذّر، فإنّ صرفها كان بمعذّر.

189

الانشغال بواجب آخر مزاحم، لكن كان الدخيل عدم الانشغال بواجب مقارن أو سابق، دون المتأخّر، وهذا أمر معقول؛ فإنّ هذا ليس شأنه شأن القيد اللبّيّ الذي نسبته إلى الواجبَين على حدٍّ سواء، وإنّما هو تقييد شرعيّ أمره بيد الشارع، فقد يكون القيد هو عدم الانشغال بواجب مقارن أو سابق، دون اللاحق، فيصبح الواجب السابق بامتثاله رافعاً لموضوع الواجب اللاحق، دون العكس. هذا، والعكس أيضاً معقول، إلاّ أنّه غير عرفيّ.

هذا تمام الكلام في مرجّحات باب التزاحم.

 

الوظيفة عند فقدان المرجّح:

وأمّا بيان الوظيفة عند فقدان المرجّح لأحد المتزاحمين، فلا إشكال في أنّهما لا يتساقطان؛ لوجود الملاكين في الجملة، فلا معنى للتساقط، ويكون مخيّراً لا محالة؛ لفقد المرجّح.

وإنّما يقع الكلام في أنّ التخيير بينهما هل هو تخيير عقليّ أو شرعيّ؟ ويقصدون بالتخيير العقليّ: ثبوت خطابين كلّ منهما مشروطٌ بترك الآخر. وبالتخيير الشرعيّ: ثبوت خطاب واحد بالجامع بينهما.

وقد ذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّه إن كانت القدرة فيهما عقليّة فالتخيير عقليّ، وإن كانت شرعيّة فالتخيير شرعيّ.

أقول: تحقيق الكلام في المقام هو: أنّه إن كانت القدرة فيهما عقليّة فالتخيير بينهما عقليّ؛ إذ هذا هو مقتضى المقيّد اللبّيّ الذي يقيّد كلّ واحد من الخطابين بعدم الاشتغال بالأهمّ أو المساوي، فإنّ هذا معناه هو: كون كلّ واحد من الخطابين مشروطاً بترك الآخر، ولا مبرّر لسقوط هذين الخطابين المشروطين؛ إذ لا منافاة بينهما بعد إمكان الترتّب.

190

نعم، لو قلنا باستحالة الترتّب لوقع التعارض بين الخطابين، ودخل التزاحم في باب التعارض، وكان مقتضى القاعدة سقوطهما، وعدم ثبوت أيّ خطاب في المقام لو لم يثبت إجماعٌ أو شبهه على ثبوت خطاب في الجملة، وإلاّ جاء احتمال ثبوت الخطاب بهذا معيّناً أو بذاك معيّناً أو بأحدهما، فلتشخيص الوظيفة نرجع إلى الاُصول الحكميّة.

وإن كانت القدرة فيهما شرعيّة:

فتارة: نفترض أنّ المقصود بالقدرة الشرعيّة: دخْل عدم الانشغال بالواجب الآخر في الملاك، فالصحيح حينئذ أنّ التخيير أيضاً عقليّ، وإن ذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّ التخيّير شرعيّ، بتقريب: أنّ القدرة دخيلة في الملاك، وهو غير قادر على المجموع، فلا ملاك في المجموع، لكنّه قادرٌ على أحدهما، أي: الجامع بينهما، فيثبت الملاك في أحدهما، أي: الجامع بينهما، والخطاب يتبع الملاك، فيثبت خطابٌ واحد بالجامع بينهما، وهذا هو التخيير الشرعيّ.

أقول: مقتضى القاعدة كون التخيير عقليّاً؛ وذلك لأنّ معنى دخل القدرة في ملاك كلّ واحد منهما، ليس هو عدم ثبوت الملاك إلاّ في الجامع بينهما، وإنّما معناه كون كلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر، فهناك ملاكان مشروطان، لا ملاكٌ واحد في الجامع، والخطاب يتبع الملاك. إذن، يثبت في المقام خطابان مشروطان، وهو معنى التخيير العقليّ.

واُخرى: نفترض كون المقصود بالقدر الشرعيّة: اشتراط عدم المانع الشرعيّ عن الفعل، وحينئذ فإن قُصد بذلك عدم ما هو مانع شرعيّ عن الفعل ـ لولا الحكم بوجوب هذا الفعل ـ فمقتضى القاعدة عدم ثبوت شيء من الحكمين؛ لوجود المانع اللولائيّ، فإنّ كلّ واحد من الحكمين مانع عن الفعل الآخر لولا وجوبه بلا إشكال، فشرط أيّ واحد من الحكمين غير موجود، فيسقطان معاً لو لم يقم إجماع أو شبهه

191

على ثبوت الحكم في الجملة، وإلاّ ثبت الحكم في الجملة، ورجعنا أيضاً إلى الاُصول الحكميّة.

وإن قُصد بذلك: عدم ما هو مانع شرعيّ بالفعل، فجعل خطابين من هذا القبيل يستلزم الدور؛ إذ فعليّة كلّ واحد منهما موقوفة على عدم منع الآخر الموقوف على فعليّة الأوّل؛ إذ لولا فعليّة الأوّل لأصبح الثاني فعليّاً ومانعاً، وعليه فجعل حكمين من هذا القبيل مستحيل، فيقع التعارض بينهما.

هذا تمام الكلام في حكم التزاحم من حيث الترجيح والتخيير.

وينبغي التنبيه على اُمور:

 

استحالة الترتّب لنكتة خاصّة:

الأمر الأوّل: أنّه متى ما تقدّم أحد المتزاحمين على الآخر بأحد المرجّحات، فبشكل عامّ قد ثبت فيما سبق عدم استحالة الأمر بالآخر على نحو الترتّب ـ أي: الأمر به مشروطاً بترك الأوّل ـ إلاّ أنّه قد تتّفق استحالة هذا الترتّب لنكتة خاصّة.

والضابط الصحيح عندنا في إمكانه واستحالته لنكات خاصّة هو: أنّه يصحّ الترتّب في الواجبين المتزاحمين بشرطين:

الشرط الأوّل: أن لا يكون الواجب الآخر مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، بمعنى عدم توجّه واجب آخر مزاحم له إليه، فإن كان كذلك لم يتمّ الأمر به مترتّباً على ترك الواجب الأوّل؛ لأنّه على أيّ حال مأمور بالواجب الأوّل، فشرط الواجب الثاني غير حاصل. أمّا إذا كان مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، بمعنى عدم الاشتغال بواجب آخر، أو لم يكن مشروطاً إلاّ بالقدرة العقليّة ثبت الأمر به بنحو الترتّب، مع توفّر الشرط الثاني.

الشرط الثاني: أن لا يكون ترك امتثال الواجب الأوّل ملازماً لموافقة الثاني،

192

كما لو كان الواجبان من الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ـ لو قلنا بأنّهما من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ـ فإن كان كذلك لم يصحّ الأمر بالثاني على تقدير ترك الأوّل؛ إذ على هذا التقدير يكون الثاني ضروريّاً، فلا يعقل البعث نحوه. هذا هو الضابط الصحيح في المقام.

والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) ذكر لتحقيق الحال في المقام: أنّ التزاحم على خمسة أقسام، فيُنظر في كلّ قسم منها لكي يُرى أنّه هل يعقل الترتّب فيه أو لا؟

الأوّل: التزاحم الناشئ عن عجز المكلّف وضيق قدرته، كعجزه عن إنقاذ كلا الغريقين لضعف عضلاته مثلا.

الثاني: فرض التضادّ بين المتعلّقين، كما لو ورد: (إذا أمطرت السماء فقم). وورد: (إذا وقع الخسوف فاجلس)، فصادف أنّه أمطرت السماء وانخسف القمر في وقت واحد.

الثالث: توقّف الواجب على مقدّمة محرّمة، كتوقّف إنقاذ الغريق على اجتياز أرض مغصوبة، فيقع التزاحم بين الواجب وترك الحرام.

الرابع: التلازم صدفةً بين واجب وحرام، لا بمعنى التوقّف كما في الفرض السابق، بل بأن يكونا متلازمين عرَضيّين، كما لو وجب استقبال القبلة وحرم استدبار الجدي، فاتّفق التلازم بينهما بلحاظ بعض البلاد.

الخامس: مورد اجتماع الأمر والنهي مع عدم المندوحة، بناءً على جواز اجتماعهما عند تعدّد العنوان، وإلاّ وقع التعارض(1).


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 320 ـ 321 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 284 ـ 285 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

193

هذه هي الأقسام الخمسة للتزاحم التي ذكرها المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وقبل أن نشرع في تفصيل الكلام في الموارد التي يقول المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فيها بعدم إمكان الترتّب نذكر ملاحظتين حول ما ذكره من أقسام التزاحم:

الملاحظة الاُولى: ملاحظة عامّة ترجع إلى كلّ هذه الأقسام الخمسة، وهي: أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)قد قيّد كلّ واحد من هذه الأقسام الخمسة ـ تصريحاً أو تلويحاً ـ بأن يكون التزاحم اتّفاقيّاً، فمثلا يقيّد التزاحم الناشئ من عجز المكلّف عن الجمع بكون العجز اتّفاقيّاً، والناشئ من تضادّ المتعلّقين بكون التضادّ اتفاقيّاً، والناشئ من التلازم بين الواجب والحرام بكون التلازم اتّفاقيّاً... وهكذا، بنكتة: أنّه لو كان التزاحم دائميّاً رجع إلى التعارض.

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّه إذا كان التزاحم دائميّاً:

فإن كان الواجبان ضدّين لا ثالث لهما فمن الواضح وقوع التعارض بين ذات الحكمين؛ إذ لا يُعقل ثبوتهما، لا مطلقاً ولا مشروطاً: أمّا مطلقاً، فواضح؛ إذ يؤدّي إلى طلب الجمع بين الضدّين. وأمّا مشروطاً؛ فلأنّ الأمر بأحدهما مشروطاً بترك الآخر لا مجال له؛ إذ مع ترك الآخر يكون هذا ضروريّاً، فلا معنى للأمر به.

وأمّا إذا كانا ضدّين لهما ثالث، فلا ينبغي الإشكال في أنّه لا يوجد تعارض بين ذات الحكمين بغضّ النظر عن إطلاقهما؛ إذ من المعقول الأمر بكلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر؛ إذ ترك أحدهما ليس مساوقاً للإتيان بالآخر، فيُعقل الأمر به، فيقع الكلام في أنّه هل يقع تعارضٌ بين إطلاقهما أو لا؟

فقد يقال: إنّه لا يوجد بينهما تعارض حتّى بلحاظ الإطلاق؛ وذلك لأنّ كلّ واحد منهما مقيّد لا محالة بالمقيّد اللبّيّ، وهو عدم الانشغال بالمساوي أو الأهمّ، فلا يتحقّق في كلٍّ منهما إطلاق لصورة الانشغال بالآخر حتّى يلزم التعارض. وهذا المقيّد اللبّيّ هو الذي أثبتنا على أساسه عدم دخول باب التزاحم في باب التعارض.

194

إلاّ أنّ الصحيح وقوع التعارض بين الحكمين بلحاظ الإطلاق، فإذا قال مثلا: (قم عند طلوع الفجر)، وقال أيضاً: (اجلس عند طلوع الفجر)، كانا متعارضين بلحاظ الإطلاق؛ حيث إنّ إطلاق كلّ واحد منهما يشمل فرض الانشغال بالآخر، ولا يمنع عن هذا الإطلاق تقيّد كلّ واحد منهما بعدم الانشغال بالأهمّ أو المساوي.

وتوضيح ذلك: أنّ عدم جواز التمسّك بإطلاق الأمر لفرض الانشغال بواجب آخر، وإثبات كونه أهمّ منه كان له ـ على ما سبق ـ تقريبان:

أحدهما: عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، وأنّ المقام من هذا القبيل حينما نحتمل كون ما اشتغل به لا يقلّ أهمّيّة عن المأمور به، كما هو المفروض.

والثاني: أنّ المولى العرفيّ ـ عادة ـ ليس في أمره بشيء بصدد المقارنة بين الواجبات المتزاحمة، وبيان أهمّيّة بعضها عن بعض.

وهذا التقريب الثاني لا يأتي في المقام؛ فإنّه إنّما يتمّ ما قلناه ـ من أنّ المولى العرفيّ ليس بصدد المقارنة وإحراز الأهمّيّة ـ بلحاظ ما يزاحمه صدفةً. أمّا بلحاظ ما يزاحمه دائماً فعادة المولى يحسب حسابه ويلحظه في بيانه، فحينما أمر بالقيام ـ مثلا ـ مع علمه بكون الجلوس مضادّاً له دائماً، كان هذا دالاًّ على أنّ القيام أهمّ من الجلوس في نظر المولى، وكذلك العكس.

وبمثل هذا البيان أيضاً نُبطل التقريب الأوّل في المقام؛ فإنّ المولى حينما يكون هو بصدد إحراز قيد، لا معنى لتقييد جعله بذلك القيد. والمولى بلحاظ المزاحمات الدائميّة يكون هو بصدد إحراز أهمّيّة المأمور به عنه، فليس الأمر مقيّداً بعدم الانشغال بها.

الملاحظة الثانية: أنّه كان بالإمكان إدراج القسم الأوّل والثاني من الأقسام

195

الخمسة في قسم واحد؛ لأنّ عنوان القسم الأوّل ـ وهو عجز المكلّف وضيق قدرته عن الجمع بين الواجبين ـ ينطبق على الثاني، ولا نكتة فنّيّة يمكن أن تُذكر للفرق بينهما من حيث الحكم بإمكان الترتّب وعدمه.

ولعلّ النكتة في إفراز المحقّق النائينيّ(رحمه الله) أحدهما عن الآخر هي: أنّ القسم الأوّل هو الذي ينقسم إلى متزاحمين طوليّين زماناً ومتزاحمين عرضيّين، بينما في القسم الثاني ـ وهو التزاحم بملاك التضادّ ـ لا يتصوّر الطوليّة زماناً؛ إذ الضدّان يكونان في عرض واحد، حيث إنّ أحدهما بديل الآخر في الوجود في نفس ظرفه، وهو(رحمه الله) يرى أنّ الترتّب في الطوليّين زماناً غير معقول، فحيث إنّ هذا لا يتصوّر في القسم الثاني ويتصوّر في الأوّل أفرز أحدهما عن الآخر، وإلاّ فلا فرق واقعيّ بينهما(1).

وبعد ذلك نشرع في ذكر الموارد التي ذكرها المحقّق النائينيّ(رحمه الله) لعدم إمكان الترتّب فيها، مع مورد آخر ذكره ولكن اختار فيه إمكان الترتّب. وهي على قسمين: فبعضها يجري في كلّ الأقسام الخمسة للتزاحم، وبعضها يختصّ ببعض تلك الأقسام:

المورد الأوّل: ما إذا كان المرجوح مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، فحينئذ لا ملاك


(1) لا يخفى: أنّ الشيخ النائينيّ(رحمه الله) ـ بحسب ما ورد في فوائد الاُصول للشيخ الكاظميّ(رحمه الله) ـ خصّ القسم الأوّل ـ وهو فرض ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين الواجبين ـ بفرض الطوليّة الزمنيّة بين الواجبين. أمّا لو كانا في زمان واحد فهو داخل ـ في تقسيمه هذا ـ في القسم الثاني، وهو فرض التضادّ بين المتعلّقين.

نعم، في أجود التقريرات لم يصرّح بهذه النكتة حينما ذكر الأقسام، لكنّها مقصودة حتماً؛ بدليل أنّه حينما بدأ بالحديث عن القسم الأوّل لم يصبّ الحديث إلاّ على فرض الطوليّين زمناً. راجع الكتاب، ص 318 ـ 320.

196

فيه عند المزاحمة حتّى يتمّ فيه الترتّب(1).

ولا أدري ماذا فهم السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من ذلك فأورد عليه: بأنّ هذا دور؛ لأنّ الملاك نستكشفه من الأمر، فلو كان الأمر الترتّبيّ نستكشفه في فرض إحراز الملاك ـ بغضّ النظر عن الأمر ـ للزم الدور، ولبطل الترتّب في كلّ الموارد؛ إذ لا علم لنا فيها بالملاك بغضّ النظر عن الأمر(2).

أقول: إنّ هذا الإشكال لا يمكننا مساعدته، كما أنّ إطلاق كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) غير صحيح. والتحقيق ما ذكرناه من أنّ القدرة الدخيلة في الملاك: تارة تُفسَّر بمعنى عدم وجود المانع الشرعيّ، واُخرى تُفسَّر بمعنى عدم الانشغال بالواجب الآخر:

فلو اُريد القدرة بالمعنى الأوّل، فطبعاً لا معنى للقول بالترتّب، لا لعدم إحراز الملاك في المرتبة السابقة على إحراز الأمر الترتّبيّ، حتّى يلزم الدور، بل لأنّ الترتّب بحاجة إلى دليل، ودليله هو ورود الأمر بالمهمّ، والمفروض أنّ الأمر بالمهمّ مشروط بالقدرة بعدم مانع شرعيّ، والمانع الشرعيّ موجود، فلم يثبت أمر بالمهمّ؛ لانتفاء موضوعه، فما معنى الترتّب؟ ولعلّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ينظر لبّاً إلى هذا القسم.

ولو اُريد القدرة بالمعنى الثاني، فشرط الأمر إنّما هو عدم الانشغال بالواجب


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 367 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وراجع أجود التقريرات، ج 1، ص 309 ـ 310 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، ج 3، ص 98 بحسب طبعة مطبعة النجف في النجف الأشرف.

197

الآخر، وهو حاصل عند ترك المزاحم الراجح، فيثبت الأمر ويتمّ الترتّب، وبالأمر نستكشف الملاك. ولعلّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ينظر لبّاً إلى هذا القسم، هذا.

وقد يُطبّق هذا القانون المدّعى في المقام ـ أعني: عدم ثبوت الأمر الترتّبيّ في المشروط بالقدرة الشرعيّة ـ على بعض موارد سقوط وجوب الوضوء، فيقال بأنّ الوضوء إذن يبطل في المقام.

ولا بأس بالتكلّم هنا في جملة من موارد سقوط وجوب الوضوء، فنقول:

الأوّل: ما لو كان الوضوء مزاحماً بواجب أهمّ، كما لو وجب صرف الماء في حفظ نفس محترمة، فيسقط الوضوء وينتقل إلى التيمّم. وقد ذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله) والمشهور: أنّه لو توضّأ كان باطلا؛ لأنّ الوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة(1).

إلاّ أنّ التحقيق صحّة الوضوء، وتوضيح ذلك: أنّ ما يُذكر لإثبات كون القدرة في الوضوء شرعيّة عبارة عن مجموع مقدّمتين:

الاُولى: أنّ قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ يدلّ على أنّ موضوع التيمّم عدم وجدان الماء، وبما أنّ التفصيل يقطع الشركة يدلّ على أنّ موضوع الوضوء هو وجدان الماء.

الثانية: أنّ المقصود بوجدان الماء ليس هو تيسّر ذات الماء، بل هو تيسّر الوضوء بالماء، بقرينة ذكر المريض كما ذكر المسافر في قوله: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 367 ـ 368 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 309 ـ 310 بحسب الطبعة الماضية.

198

عَلَى سَفَر﴾(1)، فمن الواضح أنّ السفر وإن كان قد يسبّب عدم تيسّر الماء، لكن المرض لا يسبّب عدم تيسّر الماء، وإنّما يسبّب عدم تيسّر الوضوء.

فتحصّل ـ من مجموع المقدّمتين ـ: أنّ عدم تيسّر الوضوء اُخذ في موضوع التيمّم، وبالتالي تيسّر الوضوء اُخذ في موضوع الحكم بالوضوء، وهذا معناه أخذ القدرة في موضوع الحكم، فتكون القدرة شرعيّة إذن، فعند مزاحمة الوضوء مع ما هو أهمّ لا يبقى ملاكٌ للوضوء، فيبطل الوضوء.

ويرد على ذلك:

أوّلا: أنّ أخذ القدرة الشرعيّة في موضوع الوضوء لم يُعلم، ومجرّد أخذ عدم القدرة في موضوع التيمّم لا يدلّ على ذلك، فإنّ غاية ما يدلّ عليه هي أخذ القدرة في موضوع خطاب الوضوء؛ لأنّ التفصيل قاطعٌ للشركة. أمّا كونها دخيلة في الملاك فهذا أمرٌ زائد لا يقتضيه كون التفصيل قاطعاً للشركة.

نعم، لو ذُكرت القدرة في لسان دليل الوضوء، لأمكن القول بأنّ هذا قرينة على دخلها في الملاك، من باب كون الأصل هو التأسيس لا التأكيد، أمّا مجرّد ذكر عدم القدرة في دليل بديل الوضوء، فلا نكتة لدلالته على أكثر ممّا يدلّ عليه العقل من اشتراط القدرة في موضوع الخطاب.


(1) لا يخفى: أنّ من المحتمل ـ أو المرجَّح ـ كون قيد عدم الوجدان راجعاً إلى الفروض الثلاثة الأخيرة المذكورة في قوله: ﴿عَلَى سَفَر أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء﴾ دون الفرض الأوّل المذكور في قوله: ﴿إِن كُنتُم مَّرْضَى﴾، فالأولى: تبديل هذه المقدّمة الثانية ببيان: أنّ عدم المرض ـ الشامل بإطلاقه للمرض الذي لم يصل إلى حدّ حرمة الوضوء الضارّ بسببه ـ بما أنّه ليس قيداً عقليّاً للحكم بالوضوء، فأصبح القاسم المشترك المأخوذ في الموضوع في كلّ الفروض الأربعة قيداً أوسع من القيد العقليّ، إذن فهمنا أنّ هذا القيد هو قيدٌ شرعيٌّ ودخيل في الملاك.

199

وثانياً: أنّه حتّى بناءً على أخذ القدرة الشرعيّة في موضوع الحكم بالوضوء، لا نسلّم كون القدرة ـ بمعنى عدم توجّه المانع الشرعيّ ـ مأخوذة في موضوعه؛ إذ غاية ما يقتضيه قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ هي اشتراط عدم تيسّر الوضوء في التيمّم، ولو بلحاظ الانشغال بالأهمّ، فيكون موضوع الحكم بالوضوء تيسّر الوضوء بمعنى يشمل عدم الانشغال بالأهمّ. أمّا مجرّد وجود حكم بالأهمّ يعصيه المكلّف، فهذا لا يوجب صدق قوله: ﴿لَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ بمعنى: لَم تتمكّنوا من الوضوء. وقد ذكرنا فيما سبق: أنّ القدرة الشرعيّة إذا كانت بمعنى عدم الاشتغال بالأهمّ أو المساوي، لا بمعنى عدم المانع الشرعيّ لم يوجب أخذها في موضوع الحكم بطلان الترتّب.

وثالثاً: لو سلّمنا أنّ وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة، بمعنى عدم المانع الشرعيّ، بدعوى: أنّ هذا هو المستفاد من آية ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ قلنا: إنّ الوضوء كما أنّه مأمورٌ به بأمر وجوبيّ مقدّميّ، كذلك هو مأمورٌ به بأمر استحبابيّ نفسيّ، ولا دليل على أخذ القدرة الشرعيّة بذاك المعنى في استحبابه؛ إذ دليل الأمر الاستحبابيّ يكون من قبيل قوله: «الوضوء على الوضوء نور على نور» أو قوله: ﴿يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ممّا لم يؤخذ في لسانه قيد عدم الوجدان. فليتمّ في المقام الأمر الترتّبيّ الاستحبابيّ وبه يصحّ الوضوء.

هذا كلّه إذا كان عصيان الأهمّ يتمّ بنفس الوضوء. أمّا إذا كان الوضوء في طول معصية الأهمّ زماناً، كما لو صبّ الماء على العضو، فاستحال حفظ النفس المحترمة به، فأرجع الماء بيده إلى أعلى بنيّة الوضوء، فلا إشكال في صحّته، وهو خارج عن محلّ البحث كما هو واضح.

الثاني: ما لو كان الوضوء حراماً لكونه غصباً للماء مثلا، أو مضرّاً بضرر موجب للحرمة، وفي ذلك لا يصحّ الترتّب؛ لأنّ الوضوء بذاته أصبح حراماً، فلا يعقل أن

200

يكون في نفس الوقت مأموراً به، بناءً على عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي لمجرّد تعدّد العنوان. أمّا بناءً على إمكانه فيدخل في القسم الخامس من التزاحم.

وأمّا إذا لم تصل الحال إلى مرتبة الضرر المحرّم، وإنّما كان الوضوء حرجيّاً، فارتفع الوجوب بدليل نفي الحرج، فالوضوء صحيح؛ للأمر الاستحبابيّ، فإنّ الأمر الاستحبابيّ لا يرتفع بالحرج؛ إذ لا حرج في الاستحباب(1).

 


(1) لقائل أن يقول: إنّ دليل نفي الحرج وإن كان لا يحكم على الأحكام الاستحبابيّة، لكن نفس الآية الكريمة في المقام تدلّ على تعيّن التيمّم، قال الله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾ ـ س 4 النساء، الآية: 43، وس 5 المائدة، الآية: 6 ـ فالآية الشريفة في كلتا السورتين أمرت المرضى بالتيمّم، وظاهر الأمر هو الوجوب التعيينيّ.

وكذلك الحال بلحاظ الروايات من قبيل: صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن الرضا(عليه السلام) «في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يكون يخاف على نفسه البرد، فقال: لا يغتسل، يتيمّم» ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 348 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 7 ـ وصحيحة داود بن سرحان عن أبي عبدالله(عليه السلام) «في الرجل تصيبه الجنابة وبه جروح أو قروح أو يخاف على نفسه من البرد، فقال: لا يغتسل ويتيمّم». وسائل الشيعة، ج 3، ص 348 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 8.

فهذه الأوامر ـ سواء القرآنيّة أو الروائيّة ـ بالتيمّم ظاهرة ككلّ أمر آخر في التعيينيّة، فتدلّ على بطلان الوضوء، فليس السبب في الحكم ببطلان الوضوء عدم ثبوت الأمر به، حتّى تنحلّ المشكلة عن طريق التمسّك بدليل الاستحباب النفسيّ للوضوء، وإنّما السبب في ذلك ظهور آيات التيمّم والروايات في وجوبه التعيينيّ.

ويمكن حلّ هذا الإشكال بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ الأمر بالتيمّم في المقام لا يدلّ على الوجوب التعيينيّ؛ لأنّ


201


تعيينيّته وردت في مقام توهّم الحظر، فلا يدلّ على أكثر من جواز الانتقال من الطهارة المائيّة إلى التيمّم، أمّا وجوب الانتقال فلا.

إلاّ أنّه يمكن النقض على ذلك بآية الصوم، قال الله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ...﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 184 ـ ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ...﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 185 ـ وقد ذكر الفقهاء: أنّ المرض الذي يضرّ بسببه الصوم مبطلٌ للصوم، في حين أنّه بالإمكان أن يقال هنا أيضاً: إنّ الأمر بعدّة من أيّام اُخر وإن كان بحسب طبعه ظاهراً في التعيين، لكنّه واردٌ في مورد نفي توهمّ الحظر، فلا يدلّ على أكثر من رفع الوجوب التعيينيّ، فمن لم يكن ضرر الصوم بالنسبة له بالغاً مرتبة الحرمة، يكون مخيّراً بين أن يصوم شهر رمضان، أو يصوم عدّة من أيّام اُخر.

قد تقول: إنّ الفرق بين الموردين هو أنّه في باب الوضوء وجدنا دليلا يدلّ على استحباب الوضوء في نفسه، فإذا سقط الوجوب الغيريّ للوضوء ـ الذي يضرّ بسبب المرض ضرراً غير محرّم ـ تمسّكنا بدليل الاستحباب الذي لا تحكم عليه قاعدة نفي العسر والحرج؛ لكونها امتنانيّة، ولا امتنان في نفي الاستحباب. ولكن في باب صوم شهر رمضان، بعد أن ثبت سقوط وجوبه التعيينيّ ـ بصريح الآيتين ـ لم يردنا دليلٌ على أمر آخر به تخييراً مثلا، أو استحباباً.

ولكنّا نقول:

أوّلا: إنّ هذا لازمه كون المرض غير البالغ ضرره حدّ الحرمة، يكون شرطاً في صحّة صوم شهر رمضان، ولا يكون شرطاً في صحّة الصوم المستحبّ، ولا أظنّ قائلا بذلك.

وثانياً: حتّى بالنسبة لصوم شهر رمضان نستطيع أن نقول: لو لم تدلّ الآية على أكثر من نفي الوجوب التعيينيّ، كفانا ذلك في تجويز الصوم رغم عدم دليل اجتهاديّ على

202


الوجوب التخييريّ؛ وذلك لأنّ الاحتمال البدويّ للوجوب التخييريّ يكفينا في الرجوع إلى أصالة عدم تعيين عدّة من أيّام اُخر، بناءً على ما نقّحناه في علم الاُصول من جريان أصالة عدم التعيين لدى دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وبالإمكان أن يقال: إنّ فرق مسألة الصوم عن مسألة الوضوء هو أنّ موثّقة سماعة دلّتنا في مسألة الصوم على أنّ ترك الصوم لدى المرض عزيمة لا رخصة، تماماً كترك الصوم لدى السفر. فقد ورد في موثّقة سماعة قال: «سألته ما حدّ المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار كما يجب عليه في السفر: ﴿وَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر﴾؟ قال: هو مؤتمن عليه، مفوّض إليه، فإن وجد ضعفاً فليفطر، وإن وجد قوّة فليصمه، كان المرض ما كان» ـ وسائل الشيعة، ج 11، ص 220 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت،ب 20 ممّن يصحّ منه الصوم، ح 4 ـ فترى أنّ السائل كان يعتقد أنّ الإفطار لدى المرض كالإفطار لدى السفر، والإمام(عليه السلام) سكت عنه، وهذا إقرار له عليه، ولم يرد شيء من هذا القبيل في باب الوضوء.

بل نستطيع أن نقول: إنّ نفس الآية الشريفة في باب الصوم ـ بوحدة السياق بين المرض والسفر، بضميمة علمنا بأنّ ترك الصوم في السفر عزيمة لا رخصة ـ تدلّ على أنّ تركه في المرض أيضاً عزيمة لا رخصة، في حين أنّه لا توجد قرينة من هذا القبيل في باب الوضوء.

إلاّ أنّه رغم كلّ هذا نقول: إنّ حمل آية الوضوء على كونها في مقام نفي توهّم الحظر بعيد جدّاً؛ فإنّ قاعدة حمل الأمر في مورد توهّم الحظر على نفي الحظر ـ دون الوجوب ـ إنّما تكون عرفيّة لدى ورود ذات الأمر بالشيء في مورد توهّم حظره من قبيل: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ ـ س 5 المائدة، الآية: 2 ـ ﴿عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ

203


عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 187 ـ ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 187 ـ وما إلى ذلك، ولا تكون عرفيّة في حمل الأمر على الأمر التخييريّ في مورد توهّم تعيينيّة الأمر الأوّل، بعد إحراز أنّ الأمر الثاني أيضاً في ذاته لإنشاء الوجوب، لا للإباحة ونفي الحظر.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ أصل كون الأمر بالتيمّم لإيجاب التيمّم ممّا لا شكّ فيه، وإنّما الكلام في كونه واجباً تعيينيّاً أو تخييريّاً، والمرجع عندئذ إنّما هو ظهور الأمر في التعيين، فهذا الوجه الأوّل لحلّ الإشكال لا يرجع إلى محصّل، ولا زلنا نقول: إنّ ظاهر الآية كون التيمّم واجباً تعيينيّاً.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ شمول المرض في الآية الشريفة لما يضرّ معه الصوم ضرراً غير محرّم لم يثبت، وتوضيح ذلك: أنّ المرض في الآية غير باق على إطلاقه يقيناً؛ وذلك بمقيّد ارتكازيّ كالمتّصل؛ لوضوح أنّ المرض لو لم يكن يضرّ معه الوضوء، لم يُحتمل ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ إبطاله للوضوء أو إسقاطه عن الوجوب، فلابدّ من أخذ قيد في المقام، وهذا القيد كما يناسب أن يكون عبارة عن قيد مضرّيّة الوضوء، كذلك يناسب أن يكون عبارة عن قيد حرمته؛ لأنّ حرمته تسلب القدرة الشرعيّة من المكلّف على الوضوء.

ولا معيِّن في المقام للقيد الأوّل على الثاني، والإطلاق لا يثبت الأوّل في مقابل الثاني؛ لأنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة إنّما ينفي القيد الجديد المحتمل، ولا يعيّن القيد المحذوف المردّد بين مفهوم واسع ومفهوم ضيّق في المفهوم الواسع.

وعليه فالآية الشريفة لم تدلّ على أكثر من الانتقال إلى التيمّم في مورد كون الوضوء

204


موجباً لتحمّل ضرر محرّم، وهي مجملة في مورد الضرر الطفيف الذي يجوز ارتكابه، وإنّما الدليل على سقوط الوضوء في مورد الضرر الحرجيّ هي قاعدة نفي الحرج، وهي إنّما تسقط الوجوب المقدّميّ للوضوء، ولا تسقط استحبابه النفسيّ، فيبقى الوضوء مستحبّاً نفسيّاً تجوز الصلاة به، كما تجوز الصلاة بالتيمّم.

ولا يخفى: أنّ هذا الوجه أيضاً يمكن توجيه النقض عليه بآية الصوم، فيقال: إنّ لازم هذا الكلام أن يقال بنفس التقريب في آية الصوم، فيقال: لم يُعرف شمول المرض في آية الصوم ـ بعد وضوح عدم إرادة الإطلاق منه؛ لبداهة عدم منع المرض الذي لا يضرّ معه الصوم عن وجوبه أو صحّته ـ للمرض الذي يكون تحمّل الضرر معه حرجيّاً وغير محرّم، فيكون دليل نفي وجوب الصوم معه عبارة عن قاعدة نفي الحرج، وهي تنفي الوجوب ونبقى نثبت التخيير بين صوم شهر رمضان وعدّة من أيّام اُخر، ولو بأصالة التخيير لدى الدوران بينه وبين التعيين، وأيضاً نبقى نتمسّك في غير شهر رمضان بأدلّة استحباب الصوم.

والحلّ: أنّ المناسب للتقدير ـ سواءً في آية الوضوء أو آية الصوم ـ إنّما هو مطلق الإضرار، لا حرمة الوضوء أو الصوم؛ فإنّ حرمة الوضوء أو الصوم لدى شدّة الضرر لم تكن واضحة عند نزول الآية، حتّى يفترض كون فقدان القدرة الشرعيّة لدى شدّة الضرر، هو الموجب لمناسبة تقدير قيد الحرمة، وصرف الآية إلى بيان مجرّد البديل عن الوضوء وهو التيمّم، أو عن صوم شهر رمضان وهو صوم عدّة من أيّام اُخر، بل نفس الآيتين هما بصدد بيان سقوط الوضوء أو الصوم وبيان البديل، فالمناسب العرفيّ إنّما هو تقدير قيد الإضرار ولو على مستوى الحرج، دون الحرمة.

هذا مضافاً إلى أنّه لو فُرض إجمال الآية في كون المقصود الضرر الواصل إلى حرمة

205


التحمّل أو مطلق الضرر الحرجيّ، فإطلاق الروايات في المقام ـ كالصحيحتين الماضيتين ـ واضح.

الوجه الثالث: أن يقال: إنّه وإن كان مقتضى إطلاق الآية كون وجوب التيمّم تعيينيّاً، لكن ورد في الروايات ما هو ظاهرٌ في كون وجوبه وجوباً تخييريّاً، من قبيل: صحيحة محمّد بن مسلم «قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن الرجل تكون به القرح والجراحة يجنب؟ قال: لا بأس بأن لا يغتسل، يتيمّم» ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 347 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 5 ـ وفي نقل الصدوق: «لا بأس بأن يتيمّم ولا يغتسل» ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 348 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 11 ـ وذلك بدعوى أنّ كلمة «لا بأس» تدلّ على التخيير.

إلاّ أنّ الشأن في أنّ كلمة «لا بأس» هل تدلّ حقّاً على التخيير، أو غاية ما تؤثّر هي المنع عن ظهور العبارة في التعيين؟ فإن كان الثاني فهذا لا يقف أمام ظهور الآية في التعيين. ويؤيّد عدم إرادة الرواية التخيير: أنّ السؤال فيها ليس مخصوصاً بفرض كون المرض مؤدّياً إلى الضرر الحرجيّ، بل يشمل بإطلاقه فرض وصوله إلى درجة الحرمة، والتي لا تخيير معها حتماً.

الوجه الرابع: أن يقال: إنّه وقع التعارض بين إطلاق الآية الدالّ على كون وجوب التيمّم المقدّميّ وجوباً تعيينيّاً، وإطلاق دليل استحباب الوضوء الدالّ على استحبابه حتّى ولو كان حرجيّاً، وبعد فرض التساقط نبقى شاكّين في كون التيمّم واجباً تخييريّاً أو تعيينيّاً، فنرجع إلى أصالة التخيير.

وهذا الوجه أيضاً يصعب الاعتماد عليه: إمّا لأنّ التعارض بين إطلاقي الكتاب والخبر يوجب سقوط الخبر؛ لدخوله في المخالف للكتاب الذي يجب ضربه عرض الحائط، وإمّا

206


لأنّ الأمر بالتيمّم الدالّ بإطلاقه على التعيين، كما ورد في الكتاب ورد في الأخبار أيضاً كما مضى، فيدخل الباب في تعارض الخبرين، ويكون الترجيح مع ما وافق الكتاب، وهو الخبر الذي دلّ على تعيين التيمّم.

هذا كلّه بعد تسليم الاستحباب الذاتيّ للوضوء بعنوان الوضوء.

إلاّ أنّه يمكن أن يقال: إنّ الاستحباب ليس للوضوء بعنوان الوضوء، وإنّما للطهارة الحدثيّة التي قد تتجسّد في الوضوء، واُخرى في الغسل، وثالثةً في التيمّم، وتجسّد الطهارة في الوضوء فيما نحن فيه أوّل الكلام، وإثبات جواز الوضوء بدليل الاستحباب الذاتيّ للطهارة لا يكون إلاّ من قبيل إثبات الصغرى بالكبرى.

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّه قد يستدلّ على الاستحباب النفسيّ للوضوء بمرسلة الديلميّ في الإرشاد «قال: قال النبيّ(صلى الله عليه وآله): يقول الله تعالى: من أحدث ولم يتوضّأ فقد جفاني، ومن أحدث وتوضّأ ولم يصلّ ركعتين فقد جفاني، ومن أحدث وتوضّأ وصلّى ركعتين ودعاني، ولم اُجبه فيما سألني من أمر دينه ودنياه فقد جفوته، ولست بربٍّ جاف» وسائل الشيعة، ج 1، ص 382 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 11 من الوضوء، ح 2.

ومرسلة الفقيه: «الوضوء على الوضوء نور على نور» المصدر نفسه، ص 377، ب 8 من تلك الأبواب، ح 8.

ورواية محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) «قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهّروا» المصدر نفسه، ح 10، ص 378، وكذلك ورد في حديث الأربعمأة في وسائل الشيعة، ج 1، ص 247 من تلك الطبعة، ب 1 من نواقص الوضوء، ح 6.

ورواية المفضّل بن عمر عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «من جدّد وضوءه لغير حدث(وفي نسخة: لغير صلاة) جدّد الله توبته من غير استغفار» وسائل الشيعة، ج 1، ص 377،

207


ب 8 من الوضوء، ح 7 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

وهذه الروايات كلّها ضعيفة السند.

وهناك روايات اُخرى دلّت على استحباب تجديد الوضوء للصلاة ـ راجع الوسائل، ج 1 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 8 من الوضوء ـ فلا يعرف منها استحباب الوضوء مستقلاًّ عن الصلاة، إلاّ أنّ هذا أيضاً قد يكفينا؛ لأنّه لو ثبت استحباب الوضوء للصلاة زائداً على الوجوب المقدّميّ، فدليل نفي الحرج لا ينفيه؛ لعدم حكومته على الأحكام الاستحبابيّة.

وما يمكن أن يكون منها تامّاً سنداً ما عن سماعة بن مهران «قال: قال أبو الحسن موسى(عليه السلام): من توضّأ للمغرب كان وضوؤه ذلك كفّارةً لما مضى من ذنوبه في نهاره ما خلا الكبائر. ومن توضّأ لصلاة الصبح كان وضوؤه ذلك كفّارةً لما مضى من ذنوبه في ليلته ما خلا الكبائر» ـ المصدر الماضي، ص 316 ـ 317، ح 4 ـ وإنّما عبّرنا بإمكان تماميّة سنده ولم نجزم بذلك؛ لأنّه ورد في سنده ـ بحسب ما هو مذكور في الوسائل ـ جرّاح الحذّاء، ولكن ذكر المعلّق تحت الخطّ: «في المصدر: صباح». فإن اعتمدنا على ما في المصدر ـ بحسب ما ذكره هذا المعلّق ـ تمّ سنده. وإن لم نعتمد على ذلك ـ لأنّ نقل صاحب الوسائل قد يشهد لاختلاف نسخ المصدر، وهو ثواب الأعمال، فلعلّ النسخة التي وصلت إلى صاحب الوسائل كان فيها جرّاح الحذّاء ـ إذن لا تثبت تماميّة السند.

وعلى أيّة حال فهذه الطائفة من الروايات غير تامّة دلالةً على المقصود؛ وذلك لأنّها إنّما وردت في تجديد الوضوء، فالشرائط التي تكون دخيلة في صحّة أصل الوضوء تؤخذ فيها مفروضة الوجود.

نعم، لو شككنا في شرط جديد في الوضوء التجديديّ، ككون الماء حارّاً أو بارداً أو غير ذلك، رفعنا احتمال دخله بإطلاق هذه الروايات. أمّا لو شككنا في دخل شرط من

208


الشروط في أصل الوضوء، كما لو احتملنا شرطيّة عدم إضراره بالإنسان، فلا يمكن نفي احتمال دخله بإطلاق هذه الروايات؛ لأنّها إنّما تكون في مقام بيان رفع مشكلة التجديد، أو قُل: دفع احتمال أنّ التجديد باطل؛ لأنّه على وضوء فلا حاجة إلى تجديده، وليست في مقام بيان شرائط أصل الوضوء.

وهناك طائفة ثالثة قد يستدلّ بها على المقصود، وهي الروايات التي يتخيّل أنّها تدلّ على أنّ الوضوء طهور، فيقال: إنّنا نضمّ ذلك إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 222 ـ ونحوها آية: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ ـ سورة 9 التوبة، الآية: 108 ـ فنُثبت بذلك استحباب الوضوء النفسيّ.

قد تقول: إنّ الآية تنظر إلى الطهارة الخبثيّة ـ كما هي مورد نزولها على ما ورد في الروايات. راجع وسائل الشيعة، ج 1 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 34 من أحكام الخلوة ـ دون الطهارة الحدثيّة.

وقد يقال في الجواب: إنّ إطلاق الآية يشمل الطهارة الحدثيّة، والمورد لا يخصّص الوارد. راجع التنقيح، ج 4 من الطهارة، ص 514.

وقد تقول: إنّ الطهارة الحقيقيّة هي الطهارة الخبثيّة، أمّا الطهارة الحدثيّة فهي تعبّديّة بحت، وإدخالها تحت إطلاق الآية بحاجة إلى دليل خاصّ.

ويمكن الجواب عن ذلك بوجهين:

1 ـ إنّ الطهارة عن الحدث طهارة بحسب الحقيقة الشرعيّة، وليست حقيقة متشرّعيّة فحسب. فقرآن الشريعة يحمل على هذا المصطلح، ولو فُرض أنّ الناس في زمان نزول الآية لم يكونوا بعدُ فاهمين لهذه الحقيقة الشرعيّة.

209


2 ـ إنّ دليل طهارة الوضوء ـ سواءً فُرض تنزيلا أو اعتباراً ـ يُفهم منه نظره إلى آثار الطهارة، ومن آثارها: أنّ الله يحبّ المتطهّر، فيثبت هذا الأثر لهذه الطهارة.

أمّا ما هي الروايات التي دلّت على كون الوضوء طهارة؟ فمن قبيل: صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام): «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، ولا صلاة إلاّ بطهور»ـ وسائل الشيعة، ج 1، ص 372 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 4 من الوضوء، ح 1 ـ وصحيحة زرارة أيضاً عن أبي جعفر(عليه السلام): «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» ـ المصدر نفسه، ص 372، ب 3 من تلك الأبواب، ح 8 ـ ومرسلة الصدوق عن الصادق(عليه السلام): «الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلثٌ طهور، وثلثٌ ركوع، وثلثٌ سجود» ـ المصدر نفسه، ص 366، ب 1 من تلك الأبواب، ح 8 ـ ونحوها من الروايات. راجع نفس المصدر والباب.

وكأنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لدى استشهاده في التنقيح ـ ج 4 من الطهارة، ص 513 ـ 515 ـ بهذه الروايات على كون الوضوء طهوراً، وتطبيق آية: ﴿يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ عليه، أحسّ بنقطة قد تؤخذ كضعف على هذا الاستدلال؛ إذ كيف نُثبت أنّ المقصود بالطهارة نفس الوضوء والطهارة المائيّة في مقابل التيمّم؟! فذكر عبارتين كلّ منهما يصلح أن يكون وجهاً مستقلاًّ لملء هذا الفراغ ورفع هذا الضعف، فأثبت تارةً: أنّ الطهارة اسم للعمل، فتنطبق الآية على ذات الوضوء، لا للنتيجة التي يُفترض ترتّبها تارةً على الوضوء، واُخرى على التيمّم. وذكر اُخرى: أنّ قوله تعالى: ﴿يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ واردٌ في الاستنجاء بالماء، فبعد أن نتعدّى منه ـ بالإطلاق ـ إلى الطهارة الحدثيّة، نراه ناظراً إلى خصوص الطهارة المائيّة دون الترابيّة، فهو يدلّ على استحباب خصوص الوضوء ويكون أجنبيّاً عن التيمّم.

210


إلاّ أنّ كلّ هذا البحث من قِبَل السيّد الخوئيّ(رحمه الله) يبدو غريباً، فإنّه لم يضع يده على النقطة الحقيقيّة للضعف ولم يعالجها:

أمّا قوله: إنّ الطهور اسم للعمل لا للنتيجة، فجوابه: أنّه ليست نقطة الضعف في هذا الاستدلال مرتبطة بكون الطهارة هل هي اسم للعمل أو للنتيجة، وإنّما نقطة الضعف: أنّ الطهارة ـ سواءً كانت اسماً للعمل أو للنتيجة ـ ليست في الطهارة الحدثيّة إلاّ أمراً تعبّديّاً بحتاً، ومشروطاً بشروط لو فُقد أحدها لم تحصل الطهارة ولو توضّأ ألف مرّة. فلو احتملنا كون عدم الضرر شرطاً من شروط الوضوء، كان معنى ذلك احتمال أنّ الوضوء مع الضرر لا يكون طهارة، أو لا يحقّق الطهارة، فكيف نستطيع أن نُثبت استحبابه بقوله: ﴿يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، وهل هذا إلاّ تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ؟!

وأمّا قوله: إنّ الآية نزلت في الطهارة المائيّة، فأيضاً يكون بعيداً عن نقطة الضعف الموجودة في الاستدلال، فالآية وإن كانت ناظرةً إلى الطهارة المائيّة ولا علاقة لها بالطهارة الترابيّة، ولكن نقطة الإشكال هي أنّ كون الوضوء طهارة ليس أمراً تكوينيّاً حقيقيّاً ـ كالطهارة الخبثيّة ـ بل أمرٌ تعبّديٌّ اعتباريٌّ مشروط بشروط، لو فُقد أيّ واحد من تلك الشروط سقط الوضوء عن كونه طهارة مائيّة. فإذا احتملنا أن يكون من تلك الشروط عدم الضرر، فكيف نستطيع أن نرفع الشكّ بالآية الشريفة، وهل هذا إلاّ تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ؟!

والمهمّ عندنا من كلّ ما مضى هو دلالة آية التيمّم على تعيّن التيمّم؛ لأنّ الأمر به ظاهر في التعيين. أمّا الإشكال بعدم ثبوت الاستحباب الذاتيّ للوضوء فليس مهمّاً؛ لأنّه لولا دلالة الآية على تعيّن التيمّم لم نكن بحاجة إلى الاستحباب الذاتيّ للوضوء؛ لما مضى من أنّه مع فرض عدم دلالة الآية على تعينّ التيمّم، نبقى مردّدين بين تعيين التيمّم والتخيير

211

الثالث: ما لو توقّف الوضوء على مقدّمة محرّمة، كما لو كان الماء في إناء مغصوب، فكان الوضوء متوقّفاً على التصرّف في الإناء بالاغتراف منه. والكلام في الوضوء بالاغتراف من الإناء، لا بالارتماس في الإناء، وإلاّ لكان نفس الوضوء تصرّفاً في مال الغير وحراماً ودخل في المورد الثاني.

كما أنّ الكلام إنّما هو فيما لو اغترف من الإناء بالتدريج لوضوئه، أمّا لو أخذ من الإناء ما يكفي لتمام الوضوء، ثمّ توضّأ به فلا إشكال في أنّ هذا الوضوء واجب وصحيح وواجدٌ للقدرة بكلّ معانيها، فالكلام إنّما هو في الاغتراف التدريجيّ بأن يغترف غرفةً ويغسل به وجهه، وغرفةً اُخرى ويغسل به يده اليمنى، وهكذا.

والمشهور فصّلوا بينما لو وُجد عنده ماء آخر، أو انحصر الماء بهذا الفرد:

فعلى الثاني يبطل الوضوء؛ لأنّه مشروط بالقدرة الشرعيّة المنتفية في المقام؛ لتوقّفه على المقدّمة المحرّمة، وهي التصرّف الغصبيّ في الإناء بالاغتراف.

وعلى الأوّل يصحّ الوضوء؛ لأنّ القدرة الشرعيّة على الجامع موجودة، غاية


بين التيمّم والوضوء، ومعه نجري أصالة التخيير، ولا يهمّنا أن لا يثبت استحباب الوضوء الذاتيّ.

وأيضاً لو ثبت أنّ كلمة «لا بأس» فيما مضى من صحيحة محمّد بن مسلم ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 347 و348 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 5 و 11 ـ تدلّ على التخيير لم نحتج إلى إثبات استحباب الوضوء.

وعلى أيّ حال فقد تلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّ إثبات صحّة الوضوء ـ حينما يكون مضرّاً ضرراً حرجيّاً ولم يكن محرّماً ـ في غاية الإشكال. ولا أقلّ معها من الاحتياط الوجوبيّ بالتيمّم وعدم كفاية الوضوء.