523

 

 

 

 

 

 

وهنا مقامان: أحدهما: أنّ الحرمة المولويّة هل تستلزم الفساد عقلا أو لا؟ الثاني: أنّه إذا ورد نهي متعلّق بالمعاملة فهل يستفاد منه الحرمة المولويّة، فيدلّ على الفساد لو قلنا بأنّ الحرمة المولويّة تستلزم الفساد، أو يكون ظاهره الإرشاد إلى شيء، فيتّبع المرشد إليه؟

 

هل الحرمة تستلزم الفساد عقلاً؟

أمّا المقام الأوّل: فنقول: إنّ النهي تارةً يتعلّق بالسبب، أعني: نفس إجراء الصيغة بقولنا مثلا: (بعت). واُخرى يتعلّق بالمسبَّب، أعني: الملكيّة المترتّبة على ذلك بحكم الشارع.

فإن تعلّق بالسبب فلا إشكال في عدم اقتضائه للفساد، سواءً كان تعلّقه به بعنوانه المعامليّ أو بعنوان كلّيّ ينطبق عليه، كأن ينهى عن الاشتغال في وقت النداء، فإنّ الوجوه المذكورة لاقتضائه للفساد إذا تعلّق بالمسبّب ـ لو تمّت ـ لا تجري في فرض تعلّقه بالسبب، كما يظهر ذلك من ملاحظة تلك الوجوه.

وإن تعلّق بالمسبَّب فذهب من المحقّقين المتأخّرين المحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى اقتضائه للفساد، وخالفه في ذلك المحقّق العراقيّ والمحقّق الإصفهانيّ وغيرهما من المحقّقين.

ويمكن الاستدلال على اقتضائه للفساد ـ بعد تصحيح تعلّق النهي بالمسبَّب بأنّ

524

الملكيّة وإن كانت مجعولة من قِبَل الشارع لكنّها مستندة أيضاً بنحو القدرة والاختيار إلى هذا المكلّف؛ لقدرته على سببها ـ بوجهين:

الأوّل: ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ على ما في التقريرات ـ وهو أنّه تشترط في صحّة المعاملة اُمور ثلاثة: الأوّل: كون كلّ من المتعاملين مالكين للعين أو بحكم المالك كالوكيل والوليّ. الثاني: أن تكون لهما السلطنة الفعليّة على التصرّف فيه ولا يكونا من محجوري التصرّف من قِبَل الشارع. الثالث: أن يكون إيجاد المعاملة بما يكون جامعاً للشرائط من قبيل الماضويّة والعربيّة ـ مثلا ـ بناءً على اشتراطهما. وإذا تعلّق النهي بالمسبَّب انتفى الشرط الثاني، فإنّه حجرٌ له من جانب الشارع عن التصرّف فتبطل المعاملة(1). وقد أفاد(رحمه الله) سنخ هذا الكلام أيضاً في مسألة فساد الإجارة على الواجبات.

ويرد عليه: أنّه إن كان مراده من اشتراط السلطنة الفعليّة: السلطنة التكليفيّة، بأن يكون هذا المسبَّب جائزاً له شرعاً ولا يكون حراماً، فاشتراطها أوّل الكلام ويكون مصادرة على المطلوب، وإن كان اشتراطها معقولا ثبوتاً؛ لأنّها منتزعة عن عالم التكليف ولا استحالة في أخذها موضوعاً للحكم في عالم الوضع.

وإن كان مراده: السلطنة الوضعيّة فلا معنى لكون السلطنة الوضعيّة مأخوذة في انتقال الملكيّة إلى المشتري مثلا، فإنّ هذه السلطنة أمر ينتزعه العقل من نفس جعل الشارع اعتبار ملكيّة المشتري لدى بيع العين إيّاه، أي: جعله اعتبار الملكيّة له على تقدير إجراء الصيغة ـ مثلا ـ بعد فرض قدرة المكلّف تكويناً على تحقيق


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 404 ـ 405 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول ج 1 و 2، ص 471 ـ 472 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

525

ذاك التقدير، فهذه السلطنة تكون في طول اعتبار الشارع، فلا يُعقل كونها شرطاً له وإلاّ لكان ذاك الاعتبار في طوله.

الثاني: أنّه لو لم يقتض النهي الفساد فمعنى ذلك ترتّب الملكيّة شرعاً على المعاملة الفلانيّة مع فرض الحرمة، ومن الواضح أنّ هذه الملكيّة فعلٌ للشارع، فإنّها أمر اعتباريّ اعتبرها الشارع، وإن صحّ استنادها إلى العبد أيضاً بنوع من الاستناد من ناحية أنّها مسببّة توليديّة من أمر مقدور للمكلّف وهو الصيغة مثلا، ولهذا صحّ تعلّق النهي بها.

وبعد فرض كونها فعلا للشارع يتّضح أنّ النهي لا يجتمع مع فرض الصحّة؛ لأنّ النهي كاشف عن المبغوضيّة، والشيء الذي يكون مبغوضاً لا يفعله المولى، فيثبت أنّ المولى لا يوجد هذه الملكيّة ولا يعتبرها، ولا نعني بالفساد إلاّ هذا.

ولا يقاس ذلك بالاُمور التكوينيّة، حيث إنّ المعصية مبغوضة للمولى والمولى قادر على منع العبد من المعصية تكويناً، بأن لا يهيّئ له المعدّات أو يوجد المانع عن تحقّقها.

فإنّ هذا قياس مع الفارق؛ وذلك لأنّ المعصية ليست فعلا للمولى وإنّما هي فعل للعبد، فيبقى الكلام في أنّها وإن كانت فعلا للعبد لكنّ المولى مع فرض قدرته على تعجيز العبد تكويناً عنها لماذا لا يفعل ذلك؟ فيجاب عن ذلك ـ مثلا ـ بأنّ في نفس التعجيز مفسدة غالبة، أو بغير ذلك(1).

وأمّا فيما نحن فيه فالملكيّة فعل لنفس المولى وإن كانت مسبّبة توليديّة للعبد أيضاً، ومن الواضح أنّه لا يعقل أن يفعل المولى ما هو مبغوض له، وهذا البيان


(1) كأن نقول: إنّ في إقدار العبد على المعصية مصلحة مهمّة، كمصلحة الامتحان أو مصلحة الترويض والتربية.

526

ـ كما ترى ـ لا يتأتّى في التكوينيّات؛ فإنّ المعصية لم تكن فعلا للمولى حتّى يقال: إنّه لا يُعقل أن يفعل المولى ما هو مبغوض له.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كون النهي عن المسبّب مفسداً للمعاملة بمعنى كون الحرمة المولويّة مستلزمة عقلا للفساد.

والجواب عنه هو: أنّه يمكن كون مركز المصلحة غير مركز المفسدة بحيث لا تقع المزاحمة بينهما؛ وذلك بأحد وجوه:

منها: أن تكون المصلحة في الجعل والمفسدة في تحقّق الملكيّة خارجاً، فالمصلحة تقتضي الجعل والاعتبار الذي هو فعلٌ للمولى، والمفسدة تقتضي النهي للعبد عن هذه الملكيّة، ونفرض المصلحة أهمّ حتّى لا تصلح المفسدة لمزاحمتها، فيصدر من المولى الجعل لمصلحة خالية عن المزاحم.

والمراد بأهمّيّة المصلحة ما يعمّ كون حصول المصلحة بالجعل قطعيّاً وحصول المفسدة غير قطعيّ، فلوحظ جانب المصلحة مع أنّها في نفسها مساوية للمفسدة مثلا، وهذه المصلحة أيضاً لا تزاحم المفسدة بأن تمنع المولى عن النهي؛ لأنّ من الممكن الجمع بين التحفّظ على المصلحة والتحرّز عن المفسدة، وذلك بأن يجعل الحكم على نحو القضيّة الحقيقيّة فتحصل المصلحة، وينهى العبد عن إيجاد الملكيّة خارجاً تحرّزاً عن المفسدة، فإن أطاع العبد فقد حصلت المصلحة مع عدم الابتلاء بالمفسدة، وإلاّ فقد حصل الابتلاء بالمفسدة لكنّها مفسدة مغلوبة في جانب المصلحة.

ومنها: أن تكون المصلحة فيما هو فعلٌ للمولى ولو فُرضت في نفس الملكيّة الخارجيّة ـ بناءً على التغاير بين الجعل والمجعول حتّى في هذه الاُمور الاعتباريّة الوضيعة ـ لا في إطلاق جعلها على نحو القضيّة الحقيقيّة، كما هو المفروض في الوجه الأوّل، وتكون المفسدة في الإضافة التي هي معنى حرفيّ الحاصلة بين

527

العبد وهذه الملكيّة، وبما أنّ هذه الإضافة ليست في نظر العرف عنواناً مستقلاّ يتعلّق بها النهي جعل المولى النهي متعلّقاً بنفس الملكيّة.

وهذه الإضافة ليست فعلا للمولى حتّى يقال: إنّه كيف فعل المولى ما هو مبغوض له؟ نعم، يكون المولى متمكّناً من تعجيز العبد عن إيجاده لهذه الإضافة بعدم جعله لتلك الملكيّة أو بشيء آخر، لكنّه لا يلزم عليه هذا التعجيز كما لم يلزم عليه التعجيز عن المعصية التي هي مبغوضة له بلا إشكال.

ومنها: أن يفترض أنّ في تحقيق الملكيّة خارجاً على تقدير إيجاد العبد لسببها مصلحة غالبة على المفسدة، ويفترض كون إيجاد العبد للسبب من شروط اتّصاف الملكيّة بالمصلحة ـ كالاستطاعة التي هي من شروط اتّصاف الحجّ بالملاك ـ لا من شروط تحقّق الملاك، كالطهارة التي هي من شروط تحصيل الملاك بالصلاة. وعليه فلا المفسدة تصلح مزاحمة للجري على المصلحة بإمضاء المسبّب، ولا المصلحة تصلح مزاحمة للجري على طبق المفسدة بتحريم المسبّب:

أمّا عدم مزاحمة المفسدة للجري على طبق المصلحة فلأنّ المفروض كونها أضعف من المصلحة فكيف تزاحمها؟

وأمّا عدم مزاحمة المصلحة للجري على طبق المفسدة فلأنّ الجري على طبق المفسدة ليس إلاّ عبارة عن النهي عن المعاملة، ونهيه عنها لو أثّر فإنّما أثره انتهاء العبد عن تلك المعاملة، وهذا لا يقتضي إلاّ انتفاء موضوع المصلحة، من قبيل عدم الاستطاعة الموجب لعدم المصلحة في الحجّ، لا تفويت المصلحة، من قبيل ترك الوضوء الموجب لعدم درك مصلحة الصلاة، فإذا لم يكن الجري على طبق المفسدة مضرّاً بحال المصلحة فلا وجه لكون المصلحة مزاحمة له.

والخلاصة: أنّ مركز المصلحة التي تتحقّق بالإمضاء هو تحقّق الملكيّة معلّقاً على إقدام العبد على ذلك، ومركز المفسدة الموجبة للنهي هو ذات الملكيّة. وإن

528

شئت فعبّر بأنّ ما تعلّق به الغرض من إمضاء المعاملة هو سدّ العدم من ناحية المولى، وما تعلّق به الغرض من التحريم هو سدّ العدم من ناحية العبد(1).

 

 


(1) ومنها: أنّ المسبّب في المعاملات يكون له عادة وجودان: وجودٌ في صفحة الاعتبارات العقلائيّة، ووجودٌ في صفحة الشريعة. فالبيع ـ مثلا ـ يحقّق الانتقال في صفحة اعتبارات العقلاء وفي صفحة التشريع، فنفترض أنّ المولى كان يبغض صِرف وجود الجامع بينهما ولكن لو تحقّق الوجود في صفحة الاعتبارات العقلائيّة فقد تحقّق المبغوض، ولا مانع لديه عندئذ من وجود المسبّب في صفحة الشريعة، ولذا حرّم تحقيق المسبّب ولكنّه أمضى وجود المسبّب في صفحة الشريعة على تقدير وجوده بفعل العبد في صفحة الاعتبار العقلائيّ. راجع مباحث الدليل اللفظيّ للسيّد الهاشميّ، ج 3، ص 127 ـ 128.

529

هل النهي عن المعاملة مولويّ أو إرشاديّ؟

وأمّا المقام الثاني: فنقول: إذا تعلّق النهي بالسبب أو المسبّب بعنوانه المعامليّ لا بعنوان عامّ منطبق عليه لا يبعد إجماله ـ على الأقلّ ـ وعدم ظهوره في الحرمة المولويّة، من ناحية أنّ المتعارف في القوانين العقلائيّة والمترقّب من الشارع هو أن يكون النهي في المعاملة من باب الإرشاد إلى الفساد لا نهياً تحريميّاً مولويّاً.

وعلى أيّ حال فمهما كان النهي ظاهراً في الحرمة المولويّة رجعنا في استلزامها للفساد وعدمه إلى ما مضى في بحث المقام الأوّل، فإن قلنا باستلزامها له فلا إشكال في الفساد. وإن لم نقل باستلزامها له: فإن كان دليل صحّة تلك المعاملة عبارة عن عموم أو إطلاق التزمنا بالصحّة بذلك الدليل وبالحرمة بدليل النهي.

وإن كان دليلها عبارة عن السيرة فإن لم نحتمل كون حرمته شائعة في زمان الأئمّة فلا بأس بإثبات الصحّة بالتمسّك بالسيرة ولا تنافيها الحرمة على الفرض؛ وإلاّ لم يصحّ إثبات الصحّة بذلك؛ لأنّ السيرة العقلائيّة إنّما تتّبع لو كانت شائعة في زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله) أو الإمام(عليه السلام) عند التابعين له بمرأى منه ومسمع، بحيث كان ذلك على فرض بطلان المعاملة موجباً للردع الشديد الشائع الذي لو كان لكان يصل إلينا ولو بخبر ضعيف، وفي ذلك العصر لم يكن تبقى سيرتهم مع فرض تحريم من هذا القبيل، وإذن فالمرجع أصالة الفساد سواءً علمنا بشيوع الحرمة في ذلك الزمان أو شككنا في ذلك واحتملناه.

نعم، لو صحّ جريان الاستصحاب في احتمال النسخ جرى استصحاب الحكم الممضى في أوّل الشريعة.

هذا كلّه لو كان النهي ظاهراً في الحرمة المولويّة.

ومهما كان ظاهراً في الإرشاد إلى الفساد فلا إشكال في الفساد.

530

ومهما كان مجملا بين الحرمة المولويّة والفساد فعندئذ:

إن قلنا بأنّ الحرمة المولويّة تقتضي الفساد فالفساد يتحقّق على كلا التقديرين، والحرمة مشكوكة فتجري البراءة عنها.

وإن قلنا بأنّ الحرمة المولويّة لا تقتضي الفساد فعندئذ:

إن كان الدليل الدالّ على صحّة تلك المعاملة عبارة عن إطلاق أو عموم فاحتمال الفساد منفيّ بذلك وتتعيّن الحرمة، فالعلم الإجماليّ بأحدهما انحلّ ببركة ذلك العموم أو الإطلاق.

وإن كان الدليل الدالّ على صحّتها هوالسيرة العقلائيّة الثابت إمضاؤها بعدم الردع فمجرّد احتمال الردع عنها بالنهي كاف في عدم إمكان التمسّك بالسيرة، حتّى مع فرض عدم شيوع هذا النهي واشتهاره في زمانهم(عليهم السلام). وحلّ العلم الإجماليّ يكون بالرجوع في جانب الفساد إلى أصالة الفساد، فينحلّ العلم الإجماليّ بالأصل المثبت لأحد طرفي العلم ونرجع في جانب الحرمة إلى البراءة.

وأمّا إذا تعلّق النهي لا بعنوان المعاملة بل بعنوان كلّيّ ينطبق عليها فلا إشكال في دلالته على الحرمة المولويّة، وليس فيه احتمال الإرشاد إلى الفساد؛ لعدم تعلّقه بعنوان المعاملة التي يترقّب كون النهي فيها إرشاداً إلى الفساد كما هو واضح.

وعندئذ فإن قلنا في المقام الأوّل باستلزام الحرمة المولويّة للفساد فلا إشكال في الفساد، وإلاّ فإن كان دليل صحّة هذه المعاملة العموم أو الإطلاق اللفظيّ فالحكم هو الصحّة مع الحرمة، وكذا إن كان دليل الصحّة هو السيرة مع فرض عدم كون انطباق ذلك العنوان الكلّيّ على هذه المعاملة واضحاً، بحيث يوجب وضوح حرمة تلك المعاملة في تلك العصور المانع عن انعقاد السيرة المقتضية ـ على فرض البطلان ـ لردع واصل. وأمّا مع فرض عدم وضوح انطباقه عليها وعدم وضوح الحرمة في تلك العصور فتثبت صحّة المعاملة بالسيرة وحرمتها بالنهي.

هذا تمام الكلام في النهي المتعلّق بالسبب أو المسبّب.

 

531

النهي إذا كان متعلّقاً بأثر المعاملة:

بقي الكلام فيما إذا كان النهي متعلّقاً بالأثر كالنهي عن أكل ثمن العذرة مثلا، فدلالته على الفساد إنّما تكون بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: أن يكون النهي عنه عرفاً مستلزماً لفساد المعاملة، ولا يبعد ذلك في مثل فرض تعلّق النهي بأكل الثمن الذي هو عمدة أفراد الأثر.

الثاني: أن يكون النهي عنه مستلزماً لفساد المعاملة عقلا، وذلك بأحد وجهين:

الأوّل: أن يكون النهي متعلّقاً بتمام الأثر فيلغو عندئذ إمضاء أصل المعاملة، أو يكون متعلّقاً بجُلّ الآثار بحيث فُرض أنّ الباقي غير مقتض لجعل اعتبار المعاملة.

الثاني: أن يبنى على أنّ الأحكام الوضعيّة منتزعة عن الأحكام التكليفيّة كما ذهب إليه الشيخ الأعظم(رحمه الله)؛ فإنّه من الواضح على هذا المبنى أنّه لا يعقل تصحيح المعاملة مع تحريم الآثار.

الثالث: أن يبنى على أنّه مهما دار الأمر بين التخصيص والتخصّص كما لو قال المولى: (أكرم العلماء)، وقال: (لا تكرم زيداً)، ولم نعلم أنّه عالم أو لا؟ يقدّم التخصّص على التخصيص فيحكم بعدم كونه عالماً. وعليه فبما أنّه لو قيل بصحّة المعاملة مع حرمة الأثر كان ذلك تخصيصاً لما دلّ على أنّه مهما صحّت تلك المعاملة حلّ أثرها، ولو قيل ببطلانها كانت حرمة ذلك الأثر من باب التخصّص لا التخصيص، فلأجل تقدّم التخصّص على التخصيص يحكم بفساد هذه المعاملة.

هذا إذا لم يكن هنا عموم أو إطلاق دالّ على صحّتها، وإلاّ وقع التعارض بين ذاك العموم أو الإطلاق وبين العموم أو الإطلاق لدليل كون صحّة المعاملة محلّلة للآثار، فإن تقدّم أحدهما بالأقوائيّة ـ مثلا ـ كانت النتيجة وفق ما تقدّم، وإن تعارضا وتساقطا رجعنا إلى أصالة الفساد.

 

532

تنبيهان:

 

هل النهي يدلّ على الصحّة؟

التنبيه الأوّل: أنّ أبا حنيفة ذهب إلى أنّ النهي يدلّ على الصحّة. ونحن نوقع الكلام تارة في النهي عن العبادة، واُخرى في النهي عن المعاملة:

أمّا النهي عن العبادة فهنا نقصر النظر على ما مضى من الملاك الأوّل من ملاكات البطلان، وهو: أنّ تعلّق النهي بالعبادة يوجب المبعّديّة ومعه لا يمكن التقرّب بها، فنقول:

لا شكّ في أنّ تعلّق النهي بالعبادة المقرّبة بالفعل مستحيل؛ لاستلزامه لمبعّديّة ما هو مقرّب، فلا يتعلّق النهي بذلك حتّى يقال: إنّه يدلّ على الصحّة أو لا يدلّ، وأمّا تعلّقه بالعبادة بمعنى ما يكون مقرّباً لولا النهي فهذا معقول، ولكنّه لا يدلّ على الصحّة.

وأمّا النهي عن المعاملة فإنّما يدلّ على الصحّة لو فُرض تعلّقه بالمسبّب، أعني: خصوص الملكيّة الشرعيّة لا الأعمّ من الشرعيّة والعقلائيّة، ووجه دلالته على الصحّة في هذا الفرض: أنّه مع فرض فساد المعاملة لا يكون المكلّف قادراً على إيجاد المسبّب، ومن المعلوم أنّ متعلّق النهي لابدّ أن يكون مقدوراً.

وقد يجاب عن ذلك بأنّه يكفي كون متعلّقه ـ وهو إيجاد المسبّب ـ مقدوراً لولا النهي، ولا يلزم كونه مقدوراً حتّى مع فرض النهي.

إلاّ أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ فإنّ الأمر بالعكس، أعني: أنّه يشترط في متعلّق النهي القدرة بعد النهي وفي وقت الامتثال أو العصيان، ولا أثر للقدرة قبل النهي أصلا، فلو فُرض كون تعلّق النهي بأمر داخل تحت القدرة موجباً لخروجه عنها

533

فمن المعلوم أنّ هذا زجر عن المحال وهو غير صحيح. ولو فُرض كون تعلّق النهيبأمر يعجز عنه المكلّف لشلل في يده ـ مثلا ـ رافعاً للعجز والشلل فمن المعلوم صحّة هذا النهي؛ لعدم كونه زجراً عن المحال.

كما أنّه لا يصحّ الجواب أيضاً عن ذلك بأنّ المسبّب ـ الذي هو أمر بسيط ـ لا يتّصف بالصحّة والفساد وإنّما هو موجود أو معدوم. ولا أدري أنّ المُورد لهذا الإشكال لماذا لم يورده على من قال بدلالة النهي المتعلّق بالمسبّب على الفساد، وأورده على من قال بدلالته على الصحّة، مع أنّه لو تمّ لكان مشترك الورود؟ وعلى أيّ حال فهذا الإشكال غير وارد؛ لأنّ المراد بدلالة النهي المتعلّق بالمسبّب على الصحّة أو على البطلان: دلالته على صحّة السبب أو بطلانه، لا على صحّة نفس المسبّب أو بطلانه، هذا.

وتحقيق الكلام في هذا المقام: أنّه تارةً يُفرض هذا الكلام ـ أعني: تقريب القول بدلالة النهي عن المسبّب على الصحّة ـ في مقام الردّ على من قال بأنّ النهي المتعلّق بالمسبّب يقتضي الفساد، واُخرى يُفرض أنّه بعد الفراغ عن إبطال دليل القائل باقتضائه للفساد يستدلّ بهذا الكلام على دلالته على الصحّة:

فإن فُرض ذلك في مقام الردّ على من قال بأنّ النهي المتعلّق بالمسبّب يوجب الفساد، لم يكن صحيحاً، فإنّه لو تمّ دليل القائل باستحالة الصحّة مع فرض تعلّق النهي لابدّ أن يقال بأنّه لا يتعلّق النهي بخصوص الملكيّة الشرعيّة؛ لاستحالته، بل يتعلّق بما يعمّ الملكيّة الثابتة باعتبار العقلاء والعرف بما هم كذلك مع قطع النظر عن الشرع، فلو كان ظاهر الدليل تعلّق النهي بخصوص الملكيّة الشرعيّة فلابدّ من تأويله.

وإن فُرض ذلك في مقام إثبات دلالته على الصحّة بعد فرض إبطال دليل القول باستلزامه للفساد، فتحقيق الكلام في هذا المقام أن يقال: إنّه إذا تعلّق النهي بما يعمّ الملكيّة الثابتة باعتبار العقلاء لم يدلّ على الصحّة. وإذا تعلّق بخصوص الملكيّة الشرعيّة فلا محالة يدلّ على الصحّة، حيث إنّ المفروض كونه تحريميّاً

534

لا إرشاديّاً، فإنّه لا إشكال في اشتراط القدرة في متعلّق التكليف.

وما مضى منّا في المقام الثاني من الحكم ببطلان المعاملة في بعض الصور، كان مع قطع النظر عن هذه الجهة، وإلاّ فيتغيّر الأمر في بعض تلك الصور.

وتوضيح ذلك: أنّه لو فُرض تعلّق النهي بالمسبّب بمعنى خصوص الملكيّة الشرعيّة، فإن كان النهي ظاهراً في الإرشاد أو مجملا فالكلام فيه هو الكلام الذي مضى منّا فلا نعيده. وإن كان النهي ظاهراً في الحرمة فقد قلنا فيما مضى: إنّه لو كان لنا إطلاق أو عموم يدلّ على الصحّة أخذنا به وحكمنا بالصحّة والحرمة. ولو كان دليل الصحّة هو السيرة ولم نحتمل شيوع الحرمة في تلك الأزمنة حكمنا أيضاً بالصحّة والحرمة، وإلاّ فيحكم بالحرمة دون الصحّة إلاّ بناءً على جريان الاستصحاب في الشكّ في النسخ، فيجري استصحاب الإمضاء الثابت في أوّل الشريعة. ونقول هنا: إنّه في جميع هذه الصور تكون نفس الحرمة ـ مادمنا افترضناها متعلّقة بالمسبّب بمعنى خصوص الملكيّة الشرعيّة ـ دليلا على الصحّة.

 

الاستدلال بصحيحة زرارة على بطلان المعاملة بالنهي:

التنبيه الثاني: أنّه يمكن الاستدلال على بطلان المعاملة بصحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده. فقال: ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما. قلت: أصلحك الله تعالى إنّ حكم بن عتيبة وإبراهيم النخعيّ وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له. فقال أبو جعفر(عليه السلام): إنّه لم يعص الله، إنّما عصى سيّده، فإذا أجاز فهو له جائز»(1).


(1) وسائل الشيعة، ج 21 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

535

ولم يبيّن في لسان الحديث الوجه الفنّيّ لإشكال حكم بن عتيبة وإبراهيم النخعيّ وأصحابهما في موضوع هذا النكاح، ولا الوجه الفنّيّ لجواب الإمام(عليه السلام). وأظهر الاحتمالات في ذلك أحد أمرين:

الأوّل: أن يكون إشكالهم هو أنّ معصية السيّد كمعصية الله، وكما أنّ معصية الله تعالى لا تخرج عن كونها معصية، كذلك الحال في معصية السيّد، فأجاب الإمام(عليه السلام)بأنّه لم يعص الله الذي لا يغيّر حكمه بعد المعصية، وإنّما عصى سيّده الذي يمكن أن يجيز ويرضى بعد العمل رغم أنّه لم يكن راضياً قبل ذلك، فإذا أجاز جاز.

والثاني: أن يكون الإشكال في نظرهم أنّ معصية السيّد معصية لله تعالى، ومعصيته تعالى لا تخرج عن كونها معصية بعد العمل، فمنع الإمام(عليه السلام) عن ذلك وقال: (ما عصى الله وإنّما عصى سيّده).

وهناك احتمالات اُخرى خلاف الظاهر، وتحقيق الحال في ذلك موكول إلى محلّه.

والذي نريد أن نقوله هنا في توجيه الاستدلال بهذه الرواية على كون النهي التكليفيّ عن المعاملة موجباً لفسادها: أنّ ذلك يكون على أساس دعوى ظهورين:

الأوّل: أنّ ظاهر الحديث هو أنّ المعاملة إذا كانت معصية لله كانت باطلة، وهذا الظهور ممّا لا إشكال فيه، فإنّه(عليه السلام) ذكر في وجه الصحّة: «إنّه لم يعص الله»، فيعلم أنّ معصيته مبطلة لها.

الثاني: أنّ ظاهر المعصية المذكورة في الحديث هي مخالفة الحكم التكليفيّ لا الوضعيّ، فإنّ معصية المولى عبارة عن التمرّد عليه، والتمرّد عليه إنّما يتحقّق إذا كان مقامه موجباً لتحرّك العبد نحو شيء من فعل أو ترك، فإذا خالف كان طاغياً عليه ومتمرّداً وعاصياً، واستيجابه لذلك إنّما يكون بالحكم التكليفيّ، هذا.

مضافاً إلى أنّ المراد بالمعصية في قوله(عليه السلام): «لم يعص الله» وفي قوله(عليه السلام): «عصى سيّده» شيء واحد، ومن المعلوم أنّه ليس لسيّده حكم وضعيّ، فعصيانه

536

عصيان للحكم التكليفيّ فكذلك المقصود بمعصية الله.

والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أنكر هذا الظهور الثاني، ووجهه ـ على ما يظهر من مجموع كلامه في الكفاية وفي حاشيته في مقام شرح ما ذكره هنا في المتن ـ هو: أنّه ليس المراد بمعصية العبد لسيّده مخالفته لنهيه؛ فإنّه لم يُفرض في الحديث نهي السيّد له عن النكاح، بل المراد هو العمل بدون إذنه، فإنّه أيضاً معصية له؛ لحصول التمرّد بذلك؛ لأنّ مقتضى مقام العبوديّة والمولويّة على ما يحكم به العقل هو أن لا يفعل شيئاً بدون إذن مولاه وترخيصه، فإن فعل لم يكن قد تحرّك على طبق ما اقتضاه مقام المولى بل تحرّك نحو الخلاف، فهو متمرّد وعاص للمولى، وبما أنّ الظاهر هو أنّ مراده(عليه السلام) بالمعصية في قوله: «لم يعص الله»، وفي قوله: «عصى سيّده» شيء واحد نقول: إنّ المراد بمعصية الله هو العمل بدون إذنه، فيكون بطلان المعاملة من ناحية عدم إذنه تعالى وإمضائه لتلك المعاملة، وهذا غير مربوط بما نحن فيه(1).

ويرد عليه:

أوّلا: أنّ كون مراده(عليه السلام) بمعصية الله العمل بدون إذنه الوضعيّ غير معلوم، بل بناءً


(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 254 مع ما تحت الخطّ من تعليق نفس المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) وفق الطبعة التي حقّقها الخفاجيّ. ولعلّ المقصود: أنّ مالك العبد وإن لم يكن له نهي وضعيّ ولكنّ المسألة في المقام ليست عبارة عن النهي الوضعيّ لمالك العبد، بل عبارة عن عدم إذنه في زواج العبد ممّا يحكي عن عدم رضاه بالنتيجة وهي تحقّق الزوجيّة، فالمالك وإن لم يكن له حكم وضعيّ بأن يحكم ببطلان الزوجيّة أو قل: بطلان النتيجة، ولكن له كراهة النتيجة وعدم الرضا بها، ويُترجَم ذلك في طرف المولى الحقيقيّ بعدم إمضائه للنتيجة وإبطاله لها الذي هو حكم وضعيّ.

ولو كان المقصود هو هذا الذي ذكرناه لم يرد عليه شيء من الإشكالين المذكورين في المتن.

537

على ما ذكره من التقريب يستظهر خلافه، فإنّ موضوع ما مضى من حكم العقل إنّما هو الإذن التكليفيّ لا الوضعيّ، وإلاّ لزم أن تكون جميع معاملات العبيد باطلة عندهم ولو مع إذن السيّد؛ لأنّ سيّدهم إنّما أذن لهم بالإذن التكليفيّ، وأمّا الإذن الوضعيّ فهو فعل الشارع. ولو كان الموضوع للإذن الوضعيّ من قِبَل الشارع له هو الإذن والترخيص التكليفيّ من قِبَل المالك فبما أنّ المراد من المعصية في المقامين شيء واحد لابدّ أن يقال: إنّ المراد بمعصية الله هو العمل من دون ترخيصه المساوق للحرمة التكليفيّة.

وثانياً: أنّ كون صدور أيّ عمل من العبد بدون إذن سيّده حتّى مثل التكلّم بأيّ كلام كإجراء الصيغة يعدّ تمرّداً على السيّد ممنوع، فإجراء العبد للصيغة ليس تمرّداً، وأمّا المسبّب فالمفروض أنّه لا يحصل بدون إذن السيّد أو إجازته، هذا.

والتحقيق: منع الظهور الثاني، لا لما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بل لوجه آخر، وهو: أنّ ظاهر قوله(عليه السلام): (عصى سيّده، فإذا أجاز جاز) هو أنّ المراد بمعصية السيّد معنى حدث أوّلا ثُمّ زال بإجازة السيّد، وهذا قرينة على أنّه ليس المراد بالمعصية كون الفعل مخالفاً لنهي السيّد أو غير صادر عن إذنه، فإنّ المعصية بهذا المعنى لا تخرج عن كونها معصية بلحوق الإجازة، بل المراد بالمعصية هو كون الفعل بحيث ليس له استناد إلى السيّد، وهذا ينتفي بلحوق الإجازة، فإنّه بمجرّد لحوقها يستند الفعل إليه بوجه مّا، على ما بيّناه في بحث الفضوليّ: من أنّ الإجازة تجعل العقد مستنداً بوجه مّا إلى المالك، وتكون صحّة الفضوليّ على طبق القاعدة، فالفعل بعد أن لم يكن مستنداً إليه انقلب إلى كونه مستنداً إليه. وليس حال هذا الاستناد الاعتباريّ حال التكوينيّات التي نقول فيها: إنّ انقلاب الشيء عمّا وقع عليه محال، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى بحث الفضوليّ.

538

وإذا كان المراد بالمعصية في قوله: «عصى سيّده» ذلك فبما أنّ ظاهر الحديث كون المراد بالمعصية في المقامين شيئاً واحداً قلنا: إنّ المراد بمعصية الله هو كون هذه المعاملة بحيث لا يستند بوجه إلى الله تعالى، ومع فرض الإمضاء الوضعيّ يكون مستنداً إليه بوجه، فإنّما يدلّ الحديث على بطلان المعاملة مع فرض عدم الإذن الوضعيّ من جانبه تعالى لا على البطلان بصرف الحرمة التكليفيّة، فالمقصود من جواب الإمام(عليه السلام): أنّ العبد لم يأت بما لا يكون مستنداً إلى الله تعالى حتّى يقال ببطلانه لعدم لحوق الإجازة ولو وضعيّة، وإنّما أتى بما لا يكون مستنداً إلى السيّد فيصحّ بإجازته، وهذا غير مربوط بما هو المقصود من كون الحرمة التكليفيّة لا تجتمع مع الصحّة.

هذا تمام الكلام في دلالة النهي في المعاملات على الفساد وعدمها.