461


الحرمة معلولة للنهي، ونحن نعلم أنّ الحرمة ليست معلولة للنهي وإنّما هي مدلول عليها بالنهي.

وهذا يرد عليه:

أوّلا: الإشكال المبنائيّ، حيث نؤمن نحن بتبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة كما تتبعها في الوجود، وإذا سقطت رجعنا إلى إطلاق دليل الأمر بالصلاة وصحّت صلاته كما قاله المشهور.

وثانياً: الإشكال البنائىّ، وهو في موارد الاضطرار العقليّ دون مجرّد الحرج، وهو: أنّه مع الاضطرار العقليّ تكون الدلالة المطابقيّة على الحرمة ساقطة في أصلها لا في خصوص حجّيّتها؛ لأنّ الارتكاز العقليّ القائل بعدم معقوليّة التكليف بغير المقدور يعتبر قرينة كالمتّصل ويُنهي أصل الظهور لا حجّيّة الظهور، وبذلك تنتفي الدلالة الالتزاميّة بلا شكّ.

الثاني: أنّنا نثبت عدم الوجوب بالملاك؛ لأنّ الملاك ثابت رغم سقوط الحرمة، وذلك بإطلاق المادّة؛ فإنّ إطلاق المادّة كان يقتضي إطلاق الحرمة وإطلاق الملاك، وقد عرفنا سقوط إطلاق الحرمة بالاضطرار ولم نعرف سقوط إطلاق الملاك، فإنّ الاضطرار إنّما رفع الحرمة، أي: أنّه قيّد الهيئة ولكن يبقى متعلّق الهيئة ذات المادّة بلا قيد وإن اختصّت الحرمة بفرض القدرة. ففرقٌ بين أن نقول: الغصب المقدور حرام، أو نقول: الغصب حرام حرمة مختصّة بفرض القدرة، فبما أنّ الحرمة انصبّت في الكلام الثاني على ذات الغصب دلّ ذلك على أنّ الملاك يكون في ذات الغصب لا في الغصب المقدور، فإذا ثبت إطلاق الملاك ثبت البطلان وعدم الوجوب.

وهذا الكلام أيضاً باطل مبنىً وبناءً:

أمّا بطلانه مبنىً فلأ نّا نرى أنّ تقييد الهيئة يسري إلى المادّة ولا معنى لافتراض بقاء

462

لم تتمّ الدعوى الثانية فالدعوى الاُولى غير كافية؛ إذ من أين نحرز ملاك الحرمة إذا لم نقل بعدم تبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة.

التقريب الثاني: مركّب من أمرين:

الأوّل: دعوى إمكان إثبات الملاك في المقام بالرغم من سقوط الحرمة لا بالدلالة الالتزاميّة ـ كما هو الحال في التقريب الأوّل كي يقال: إنّها سقطت بسقوط المطابقيّة ـ بل بحديث الرفع المسوق للامتنان حيث يقال: إنّه لو


المادّة مطلقة بلحاظ الملاك.

وأمّا بطلانه بناءً فلأنّه هب أنّ الملاك باق ولكنّ الملاك لم يكن يخلق عدم الوجوب على شاكلة خلقه للحرمة حتّى يقال: إنّه إذا عجز عن خلق الحرمة لعدم قدرة المكلّف، يبقى يخلق عدم الوجوب إذ لا مانع من ذلك، فإنّنا وإن كنّا نقبل أنّ الضدّ وعدم الضدّ الآخر متلازمان وعرضيّان ومعلولان لشيء واحد، وليس أحدهما علّة للآخر كما نقّح ذلك في بحث الضدّ، لكن لا يعني هذا أنّه يصدر عن تلك العلّة أحد الضدّين وعدم الضدّ الآخر على شكل خلق الأثر، فإنّ هذا مستحيل؛ لأنّه كما يستحيل صدور الوجود من العدم لعدم التسانخ بين الوجود والعدم، كذلك يستحيل صدور العدم من الوجود بنفس دليل لزوم التسانخ بين العلّة والمعلول، وإنّما نقول بأنّ علّة الضدّ علّة لعدم الضدّ الآخر بمعنى مانعيّته عن تأثير علّة الضدّ الآخر؛ لأنّ المقرّب إلى أحد الضدّين مبعّد عن الضدّ الآخر بحسب التباعد الموجود بين الضدّين، فكلّ تقريب إلى أحد الضدّين تبعيد عن الضدّ الآخر بفعّاليّة واحدة، وليس هذا التقريب وذاك التبعيد بفعّاليّتين، فإن عجزت العلّة لمانع عن التقريب إلى أحد الضدّين ـ وهو الحرمة في المقام ـ عجزت لا محالة عن التبعيد عن الضدّ الآخر وهو الوجوب، فيثبت انبساط الوجوب على مادّة الاجتماع وتصحّ الصلاة كما قاله المشهور.

463

لا المقتضي للحرمة فلا امتنان في الرفع، فهذا بنفسه دليل على أنّ المقتضي للحرمة ـ وهو الملاك ـ موجود ولكنّ المولى مع ذلك رفع الحكم شفقةً على المكلّفين.

الثاني: أنّه إذا ثبت ملاك الحرمة أوجب ذلك بطلان العمل، ويمكن بيان ذلك بإحدى صيغتين:

الاُولى: أن يقال: ما دمنا أثبتنا ملاك الحرمة في مادّة الاجتماع فلا يمكن التقرّب به إلى المولى. وهذه الصيغة تختصّ بالعبادات.

الثانية: أن يقال: إنّه بعد أن ثبت بحديث الرفع وجود مبادئ الحرمة لا يُعقل ثبوت الأمر؛ وذلك لأنّ نكتة امتناع اجتماع الأمر والنهي لو كانت مبنيّة على مسلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله) القائل بأنّ الامتناع إنّما هو باعتبار أنّ إطلاق الأمر يستلزم الترخيص في التطبيق على كلّ فرد وهو ينافي الحرمة، فهذه النكتة تزول بزوال الحرمة وإن كان الملاك موجوداً.

وأمّا إذا افترضنا أنّ نكتة الامتناع إنّما هي التنافي بين الأمر المتعلّق بصِرف وجود الصلاة والنهي المتعلّق بالغصب بلحاظ مبادئهما ـ لأنّ الشيء الواحد لا يُعقل أن يكون مصبّاً للمحبوبيّة والمبغوضيّة معاً ـ فهنا لا ترتفع المانعيّة بارتفاع الحرمة؛ لأنّ مبادئ الحرمة موجودة بحسب الفرض. وهذه الصيغة لو تمّت فلا تختصّ بالعبادات.

وكلا الأمرين قابلان للمناقشة:

أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ هذا الذي قالوه قياسٌ للشارع بالنماذج العرفيّة للمولى، فإنّ المولى العرفيّ إنّما يحكم لأجل مصلحة نفسه فيقال: إنّه لو رفع يده عن مصلحة نفسه شفقةً على العبد كان امتناناً، أمّا لو ترك الحكم لعدم مصلحة له فيه فلا امتنان في ذلك. إلاّ أنّ المولى الحقيقيّ ليس كذلك، فإنّ الشارع إنّما يأمر وينهى رعاية لشؤون نفس العبد، ففي مثل ذلك لابدّ وأن يحسب المولى حساب المكلّف

464

ويرى أنّ مصلحة الوضوء التي توجب المشقّة أهمّ للعبد من مصلحة عدم المشقّة أو بالعكس:

فإن فُرض أنّ المصلحة كانت هي الغالبة فلا امتنان في رفع اليد عن الوضوء بل الامتنان في الأمر بالوضوء.

وإن فُرض أنّ مفسدة المشقّة هي الغالبة ـ مثلا ـ فبعد الكسر والانكسار لا تبقى مصلحة أصلا كي تكون مقتضية للأمر.

وإن فُرض بتساوي المصلحة والمفسدة فلا مقتضي أيضاً للأمر ولا للنهي.

فليس إعمال المولى الحقيقيّ للرفع من باب أنّ المقتضي للطلب موجود ومع هذا لا يطلب، بل نكتة الامتنان هي أنّ الشريعة تكون لمصالح العبيد، وتكون ناظرة إلى جميع الجهات المؤثّرة في حال العبد، إذن فحديث الرفع لا يدلّ على أنّ المقتضي للحرمة موجود(1)، بل يجب أن يكون المقتضي غير موجود، والامتنان إنّما يكون باعتبار أنّ المولى لاحظ في هذا الرفع جميع الجهات المؤثّرة في حال العبد(2).

 


(1) قد يقول قائل: مادام أنّ صيغة «رفع عن اُمّتي» ظاهرة في الامتنان وإبراز الشفقة، ومادام أنّ ثبوت الامتنان في جميع أحكام الشرع ـ سواءً كانت إلزاميّة أو ترخيصيّة ـ واضحة، فالمفهوم عرفاً من هذه الجملة إبراز الشفقة والمنّة بخصوص مصلحة التسهيل المحبّبة إلى قلوب السواد العامّ للناس، والمخصوصة برفع الإلزام دون وضعه، وتأثير مصلحة التسهيل إنّما يثبت لو ثبت ملاك الإلزام، وإلاّ لما كان الرفع للتسهيل؛ إذ لا ملاك للإلزام حتّى يسهّل على العبد بنكتة مصلحة التسهيل.

(2) يمكن أن تغيّر صيغة الأمر الأوّل بنحو لا يرد عليه هذا الإشكال، وذلك بأن يقال: إنّ الرفع الحقيقيّ في المقام غير معقول؛ فإنّ التكليف لم يوضع على المضطرّ من أوّل

465

وأمّا الأمر الثاني: فيرد عليه: أنّه لو سُلّم أنّ الملاك ثابت بحديث الرفع كي يصحّ الامتنان، فلا نسلّم أنّ الملاك يكون مؤثّراً في المبغوضيّة، بل غايته ثبوت أصل المفسدة(1)، فالتقرّب ممكن(2) وشمول الأمر معقول(3)، هذا على أنّه لو سلّم أنّ الملاك مؤثّر في المبغوضيّة الفعليّة فهذا لا يمنع عن التقرّب بعد فرض الاضطرار إلى جامع المبغوض، فيتقرّب العبد إلى المولى باختيار تلك الحصّة من المبغوض المشتملة على المصلحة، فإنّ ميزان التقرّب إلى المولى أن يكون حال المولى مع هذا المتقرَّب به أحسن من حاله بدونه، وفي المقام كذلك؛ لأنّه على أيّ حال يكون العبد مضطرّاً إلى إحدى حصّتي المبغوض فإتيانه بالحصّة التي فيها المصلحة يكون أفضل حالا للمولى(4). فالصحيح ما عليه المشهور من أنّ المانعيّة تسقط بسقوط الحرمة.

هذا هو البحث الكبرويّ.

 


الأمر حتّى يرفع والرفع فرع الوضع، فيجب أن يفسّر الرفع بمعنى أنّ مقتضي الحكم كان موجوداً ومع ذلك لم يجعل الحكم، فسمّي ذلك رفعاً بمناسبة وجود المقتضي، وهذا يعني ثبوت الملاك.

وقد حُكي عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّه ذكر هذه الصيغة من البيان بعد الدرس وأجاب عليها بأنّه يكفي في تصحيح التعبير بالرفع لحاظ ثبوت الحكم ما لم يطرأ الاضطرار.

(1) وكذلك لو قلنا: إنّ صدق الرفع يحتاج إلى ثبوت المقتضي لم يثبت بذلك أكثر من المفسدة، ولا يدلّ ذلك على فرض ثبوت المبغوضيّة.

(2) إشارة إلى ردّ الصياغة الاُولى من صياغتي الأمر الثاني.

(3) إشارة إلى ردّ الصياغة الثانية من صياغتي الأمر الثاني.

(4) وهذا الجواب الثاني مخصوص بالصياغة الاُولى من صياغتي الأمر الثاني ولا يصلح جواباً للصياغة الثانية.

466

وأمّا الكلام في الصغرى: ففي مجال التطبيق نأخذ الصلاة ونتكلّم فيها في ثلاث حالات:

الحالة الاُولى: أن نفترض أنّ المكلّف مبتلى بالمكان المغصوب في تمام الوقت. والمعروف بين المحقّقين في مثل ذلك أنّ هذه الصلاة تكون صغرى للكبرى المتقدّمة، فإنّه لابدّ من التصرّف الغصبيّ على أيّ حال.

وذهب بعض إلى أنّ التصرفات الصلاتيّة تزيد في التصرّفات الغصبيّة، فإنّه بالإمكان أن يبقى ساكناً من دون أن يركع ويسجد، فالصلاة الاختياريّة فيها غصب أكثر من المقدار المضطرّ إليه فتحرم وتبطل.

وعلّق صاحب الجواهر على ذلك بأنّ مثل هذا الاستدلال ينشأ في بادئ الأمر من قلّة التدبّر ثُمّ من صعوبة التراجع.

وتوضيح ذلك: أنّه بحسب الحقيقة لا يتصوّر بالنسبة لهذا الشخص أن يكون فعله الصلاتيّ مستوجباً لغصب زائد، فإنّ الغصب إمّا يتمثّل في إشغال الحيّز من الفضاء، أو يتمثّل في إلقاء الثقل على الأرض المغصوبة، وكلّ منهما لا يعقل أن يزيد مهما كان وضعه، فمقدار شغل الحيّز لا يختلف باختلاف الأشكال الهندسيّة، والثقل أيضاً لا يختلف بالقيام والقعود أو السجود. وتخيّل أقلّيّة الغصب عند السكون مبنيّ على أحد تصوّرين:

التصوّر الأوّل: أن يقال بأنّ هذا الإنسان إذا بقي ساكناً فقد ارتكب حراماً واحداً، وهو الجلوس ـ مثلا ـ في المكان المغصوب، وإذا جلس مرّة وركع اُخرى وقام ثالثة فقد ارتكب محرّمات عديدة.

والجواب عن ذلك واضح، وهو: أنّ الجلوس المستمرّ هو بحسب الحقيقة إشغالات متعدّدة للأرض وليس حراماً واحداً، وإلاّ لما اختلف الجلوس ساعةً والجلوس سنة في المغصوب.

467

التصوّر الثاني: أن يقال: إنّه اشتغل بالصلاة، والصلاة مشتملة على أكوان في المغصوب، ومشتملة على الحركة من كون إلى كون، وكلاهما حرام، بخلاف ما إذا بقي ساكناً. وهذا ما ذكر صاحب الجواهر في التعليق عليه بأنّ هذا سجن أشدّ من سجن الظالم، حيث إنّه مكلّف بأن يتحرّك.

والجواب على هذا هو: أنّ هذا التصوّر مبنيّ على أنّ الحركة غير الكون، إلاّ أنّ الصحيح أنّ الحركة في الكون عين الكون، فالأمر دائر بين الكون الثابت والكون المتحرّك، وليس أحدهما أشدّ من الآخر.

الحالة الثانية: أن يُفرض أنّه سوف يرتفع الاضطرار ويخرج قبل انتهاء الوقت. فهنا بناءً على ما ذكرناه في الحالة الاُولى يجوز أن يصلّي في المكان حتّى مع علمه بالخروج بعد ساعة.

نعم، لو سلكنا المسلك الآخر وقلنا بأنّ الصلاة الاختياريّة تصرّف زائد، وحكمنا عليه في الحالة الاُولى بالصلاة الاضطراريّة وبالإيماء من دون ركوع وسجود، كان عليه في هذه الحالة أن يؤخّر الصلاة.

الحالة الثالثة:أن يُفرض أنّه اُلقي في المكان المغصوب بلا اختيار لكنّه الآن متمكّن من الخروج فوراً وبلا مضيّ زمان. وحينئذ يجب عليه الخروج فوراً تخلّصاً عن الغصب، فلو كان بإمكانه أن يصلّي حين الخروج صلاة اختياريّة ـ كما إذا كان في سيّارة وبإمكانه أن يصلّي فيها حين مشيها صلاة اختياريّة ـ فله أن يصلّي من دون فرق بين سعة الوقت وضيقه، فإنّه على أيّ حال مضطرّ إلى هذا المقدار من الغصب.

وأمّا إذا كانت الصلاة الاختياريّة تعيقه عن الخروج كما إذا كان ماشياً فلو كان الوقت واسعاً لم تجز له الصلاة الاختياريّة؛ لعدم جواز التأخير، ولا الاضطرارية؛ لتمكّنه من الاختياريّة بعد ذلك. ولو كان الوقت ضيّقاً تعيّن عليه أن يصلّي صلاة اضطراريّة.

468

 

الاضطرار بسوء الاختيار:

المقام الثاني: فيما إذا دخل بسوء اختياره في المكان المغصوب. وهنا يقع الكلام في مرحلتين:

المرحلة الاُولى: في حكم نفس الخروج من الأرض.

والمرحلة الثانية: في حكم الصلاة حال الخروج.

 

حكم الخروج من الأرض المغصوبة:

أمّا المرحلة الاُولى: فلا إشكال في أنّه لابدّ وأن يخرج فوراً لئلاّ يرتكب حراماً زائداً، إلاّ أنّه يبحث في حكم هذا الخروج في ثلاث جهات:

الجهة الاُولى: في أنّه هل هناك مقتض لحرمة هذا الخروج، أو لا؟ وعلى الأوّل فما هو مقدار تأثير هذا المقتضي؟

الجهة الثانية: في أنّه هل هناك مقتض للوجوب، وبأيّ مقدار يؤثّر، أو ليس هناك مقتض؟

الجهة الثالثة: في أنّه لو كان كلا المقتضيين موجودين فهل يمكن إعمالهما معاً، أو لا؟

أمّا الجهة الاُولى: فالمقتضي بحسب مقام الإثبات والدليل للحرمة موجود، فإنّه تصرّف في مال الغير بدون إذنه؛ إذ لا فرق في التصرّف الغصبيّ بين أن يكون حركة نحو الدخول أو حركة نحو الخروج. وهذا المقتضي لا مانع من تأثيره أيضاً قبل الدخول، فللمولى أن يزجره قبل دخوله عن جميع أنحاء التصرّف في هذا المكان دخولا وخروجاً، فإنّ تمام هذه التصرّفات كانت تحت قدرته وكان بإمكانه تركها جميعاً بترك الدخول، فجعل الزاجر بالنسبة إليه معقول، إلاّ أنّه بعد

469

أن عصى أحد النهيين ودخل فالمقتضي لحرمة الخروج أيضاً موجود؛ لأنّه غصب وتصرّف في ملك الغير، لكن بقاء هذا النهي غير معقول باعتبار أنّ النهي استنفد غرضه، فإنّ الغرض من هذا النهي توجيه اختيار المكلّف، وبعد الدخول لا يمكن للمولى أن يوجّه اختياره، فإنّه مضطرّ إلى الخروج. وإن شئت فقل: إنّ النهي إذا بقي بداعي الباعثيّة والمحرّكيّة وكان يهدف إلى أن يضطرّه إلى عدم الخروج فهذا معناه التصرّف الأكثر، وإن لم يبق بداعي الباعثيّة والمحرّكيّة فهذا خلف كون النهي بداعي المحرّكيّة.

وعلى ضوء هذا يُعرف أنّه لا يمكن دعوى بقاء النهي تمسّكاً بقاعدة عقليّة وهي: (أنّ الاضطرار بالاختيار لا ينافي الاختيار). توضيح ذلك: أنّه قد يتصوّر أنّه لا مانع من بقاء النهي؛ فإنّ المانع المتصوّر هو أنّ الخروج ليس اختياريّاً بالنسبة إليه، وهذا المانع مدفوع بأنّ الخروج اختياريّ؛ لأنّ الإيجاب الناشئ من الاختيار لا ينافي الاختيار، ولابدّيّة الخروج نشأت من دخوله باختياره، فإذا ثبت أنّ الخروج اختياريّ فلا بأس بتعلّق النهي به.

وهذا الكلام غير صحيح، فإنّ المقصود بقاعدة (أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار) مطلب فلسفيّ أجنبيّ عن المقام، وهو: أنّ الاختيار إذا تولّد منه إيجاب أو امتناع وتولّد من الإيجاب أو الامتناع فعل، فمجرّد توسّط الإيجاب أو الامتناع لا ينافي كون الفعل من نتائج ذاك الاختيار، فالمؤثّريّة التكوينيّة للاختيار غير مشروطة بعدم حلقة في الوسط تسمّى بالإيجاب أو الامتناع. وهذا أمر واقعيّ تكوينيّ لا مجال للبحث فيه ولا فائدة في مناقشته، فإنّه لم يدلّ دليل على أنّ النهي يمكن تعلّقه بأيّ فعل يكون مستنداً إلى الاختيار حتّى يقال بأنّ الفعل في المقام يكون مستنداً إلى الاختيار، وإنّما النهي يمكن أن يتعلّق بأيّ فعل يمكن للمولى أن يوجّه اختيار المكلّف بلحاظه.

470

إذن فالنهي ساقط، لكن هذا السقوط يكون بمثابة السقوط العصيانيّ، فإنّه سقط بفوات الغرض بسبب اختيار المكلّف، فالسقوط وإن كان قبل الخروج من الأرض لكن سبب استحقاق العقاب عقلا ثابت.

وأمّا الجهة الثانية: فالكلام في ذلك تارة يقع بدعوى وجود المقتضي للوجوب النفسيّ للخروج، واُخرى بدعوى وجود المقتضي للوجوب الغيريّ له:

أمّا الكلام بلحاظ الوجوب النفسيّ: فقد يقال بأنّ الإنسان يجب عليه نفسيّاً التخلّص من مال الغير وأن يسلّم مال الغير إليه. والخروج وإن كان بمنظار تصرّفاً في ملك الغير لكنّه بمنظار آخر يكون نفس الخروج تخلّصاً وتسليماً للمال فيكون واجباً نفسيّاً.

وقد وقع النزاع بين السيّد الاُستاذ والمحقّق النائينيّ في صدق عنوان من هذا القبيل وعدمه على الخروج(1)، إلاّ أنّ هذا النزاع بلا موضوع، فإنّ عنوان التخلّص أو ردّ مال الغير أو الانسحاب من مال الغير لم يدلّ دليل على وجوبه نفسيّاً، وإنّما الدليل دلّ على حرمة الغصب والتصرّف في مال الغير، وليس وراء هذا الحكم حكم إلزاميّ آخر على نحو يعاقَب الغاصب بعقابين: عقابٌ على فعل الحرام، وعقابٌ على ترك الواجب. والتخلّص وردّ المال إلى صاحبه ونحو ذلك من العناوين إنّما هي معرّفات للاجتناب عن الحرام وعدم الوقوع فيه، فالظاهر هو عدم المقتضي للوجوب النفسيّ.


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 379، فوق الخطّ وتحت الخطّ بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وراجع فوائد الاُصول، ج 1 و 2، ص 450 و 451 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، والمحاضرات، ج 4، ص 388 ـ 391 بحسب طبعة صدر بقم. فكأنّ الشيخ النائينيّ(رحمه الله) يرى انتزاع عنوان التخلّص والتسليم إلى صاحب المال ـ مثلا ـ من الخروج، والسيّد الخوئيّ(رحمه الله) يرى خلافه.

471

وأمّا الكلام بلحاظ الوجوب الغيريّ: فيقع من ناحيتين:

الناحية الاُولى: في الصغرى، أي: إنّ الخروج هل هو مقدّمة للواجب ـ ونقصد بالواجب هنا ترك الحرام ـ أو ليس إلاّ ملازماً له. وهنا يظهر وجود محاولات للبرهنة على عدم المقدّميّة تارة، وعلى المقدّميّة اُخرى:

أمّا البرهان على عدم المقدّميّة: فيتمثّل في بيانين:

البيان الأوّل: ما هو ظاهر تقريرات بحث السيّد الاُستاذ حيث قال بأنّ الخروج مقدّمة للكون في خارج الدار، وهذا الكون ملازم لترك الحرام الذي هو الكون في الدار لا أنّه عينه، فإنّ الكون في الخارج أمر وجوديّ، وعدم الكون في الداخل أمر عدميّ، فيستحيل الاتّحاد، إذن فالخروج مقدّمة لملازم ترك الحرام لا لنفسه(1).

إلاّ أنّ هذا البيان لا يثبت عدا أنّه حيث إنّ عدم الكون في الدار ليس عين الكون في خارج الدار فالمقدّميّة لأحدهما لا ترجع إلى المقدّميّة للآخر، ولكن لو ادّعى أحد أنّ هذا الخروج مقدّمة لأمرين: للكون في خارج الدار ولعدم الكون في الدار، لم يكن هذا البيان دليلا على خلافه.

البيان الثاني: ما يظهر من كلمات جملة ـ منهم المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) ـ من أنّ الخروج ضدّ البقاء، والضدّان ليست بين أحدهما وعدم الآخر مقدّميّة، فلا ترك أحدهما مقدّمة للآخر، ولا فعل أحدهما مقدّمة لترك الآخر، ولو سلّم فإنّما يسلّم أنّ ترك أحدهما مقدّمة لفعل الآخر، وأمّا أن يكون فعل أحدهما مقدّمة لترك الآخر ـ وهو المفروض أن يدّعى في المقام ـ فهو بديهيّ البطلان(2).


(1) راجع المحاضرات، ج 4، ص 391 ـ 392 بحسب الطبعة المشار إليها سابقاً.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 343 بحسب طبعة موسّسة آل البيت.

472

وهذا البيان له صورة فنّيّة إلاّ أنّ فيه مغالطة، فإنّ ما برهن عليه في بحث الضدّ من عدم المقدّميّة بين أحد الضدّين وعدم الضدّ الآخر إنّما هو في ضدّين متبادلين في الوجود وفي زمان واحد كسواد الشيء وبياضه في نفس الزمان، أمّا أن يكون أحد الضدّين في زمان مقدّمة في مورد مّا لعدم الضدّ الآخر في زمان متأخّر عنه فلم يبرهن على خلافه.

وفي المقام ليس المدّعى أنّ الخروج مقدّمة لعدم البقاء في آن الخروج، بل المدّعى كونه مقدّمة لترك الغصب في الآن الثاني، سنخ أن يقال في مريض لو صلّى ضعف عن الإزالة: إنّ صلاته سبب لعدم تمكّنه من الإزالة بعد الصلاة، لا في حين الصلاة، ومثل هذه المقدّميّة لم يتوهّم أحد عدم معقوليّتها.

وأمّا البرهان على المقدّميّة: فهو مركّب من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الخروج مقدّمة للكون خارج الدار، وهذا أمر افتُرض من البداية وسُلّم ذلك، وإنّما النزاع في أنّه يكون مقدّمة لعدم الكون في داخل الدار أيضاً أو لا، كما أنّه من المتّفق عليه أنّ الكون في خارج الدار ملازم لترك الكون في داخله.

الثانية: أنّ كلّ أمرين متلازمين لابدّ أن ينشأ التلازم بينهما إمّا من كون أحدهما علّة للآخر، أو من كون علّة أحدهما علّة للآخر، وإلاّ فلا تلازم بينهما؛ إذ قد تثبت علّة أحدهما دون علّة الآخر، فينفكّ أحدهما عن الآخر وهذا خلف.

ونقول في المقام: إنّه لا يمكن أن يكون أحدهما علّة للآخر، فإنّ أحدهما ضدّ والآخر عدم ضدّه، وقد ثبت في بحث الضدّ عدم العلّيّة والمعلوليّة بين الضدّ وعدم ضدّه، إذن فلابدّ أن تكون علّة أحدهما عين علّة الآخر، وهذا يعني أنّ الخروج مقدّمة لترك الغصب الزائد.

وهذا البرهان اعترض عليه المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) باعتراضين:

أحدهما: أنّ التلازم بين الكون خارج الدار في الزمان الثاني وعدم الكون في

473

الدار في ذاك الزمان لم ينشأ لا من علّيّة أحدهما للآخر ولا من كون علّة أحدهما علّة للآخر، وإنّما نشأ من أنّ الكون في خارج الدار والكون في داخله ضدّان لا ثالث لهما، فأحدهما يلازم عدم الآخر قهراً؛ لضيق عالم الوجود عن ضدّ ثالث(1).

وهذا الكلام إن كان مفهوماً فينبغي أن نفهمه بوصفه استثناءً من تلك القاعدة، فيقال: إنّه قد ينشأ التلازم من أمر ثالث غير الأمرين الماضيين، وهو ضيق عالم الوجود عن ضدّ ثالث أو عن ارتفاع هذين الضدّين.

وعندئذ يكون الجواب(2): أنّ هذا الاستثناء في تلك الكبرى غير معقول، فإنّه لو فرضنا أنّ علّة هذا الضدّ ليس تمام أجزائها علّة لعدم ذاك الضدّ، بل هناك جزء لعلّة هذا الضدّ لا يتوقّف عليه عدم ذاك الضدّ؛ لإمكان اكتفاء هذا العدم بعلّة اُخرى، وهذا الجزء هو الخروج مثلا، قلنا: لو فُرض أنّ هذا الجزء لم يوجد وأنّه وُجدت علّة عدم ذاك الضدّ الآخر فهل يوجد عندئذ الضدّ الأوّل أو لا؟ إن فُرض أنّه لا يوجد الضدّ الأوّل فهذا يعني ارتفاع ضدّين لا ثالث لهما. وإن فُرض وجوده


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 344 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

(2) ذكر الجواب في كتاب السيّد الهاشميّ حفظه الله ـ أعني: مباحث الدليل اللفظيّ، ج 3، ص 93 ـ بصياغة اُخرى وهي: أنّه تقدّم في بحث الضدّ أنّ مقتضى أحد الضدّين بنفسه مانع عن الضدّ الآخر وعلّة لإعدامه.

أقول: هذا الجواب غير تامّ، فإنّ هذا إنّما يثبت أنّ مقتضي الكون في خارج الدار ـ وهو الخروج ـ علّة لعدم الكون في داخل الدار، ولا يثبت أنّ كلّ ما كان علّة لعدم أحد الضدّين فهو علّة للضدّ الآخر، فبهذا لا يتبرهن توقّف عدم الضدّ الثاني على علّة الضدّ الأوّل كي تثبت مقدّميّة الخروج لعدم الكون في الدار؛ إذ لعلّه تكفي لعدم الضدّ الآخر مُعدِم آخر أو قل: علّة اُخرى، فلا يتوقّف عدم الضدّ الآخر على علّة الضدّ الأوّل.

474

فهذا يعني ثبوت المعلول بدون تماميّة علّته.

اللّهمّ إلاّ أن يُفرض أنّ علّة هذا الضدّ مع علّة ذاك الضدّ أيضاً لا ثالث لهما، وحينئذ نسحب البرهان إلى هاتين العلّتين ونقول بأنّ عدم هذه العلّة مع وجود تلك العلّة متلازمان...إلى آخر البرهان.

والاعتراض الآخر: أن يقال: إنّ الكبرى مسلّمة، وهي أنّ كلّ متلازمين لابدّ وأن يكون أحدهما معلولا للآخر أو يكونا معلولين معاً لعلّة واحدة، ولكن هذا لا يعني لزوم أن يكون تمام أجزاء علّة أحدهما تمام أجزاء علّة الآخر.

فبالإمكان أن يفترض في المقام أنّ علّة عدم الكون في الدار هي عدم إرادة الكون في الدار، وهو ملازم لإرادة الكون في خارج الدار؛ لأنّهما معلولان لشيء واحد، وهو غلبة داعي الكون في خارج الدار على داعي الكون في الدار، وبالتالي يصبح نفس عدم الكون في الدار مع الكون في خارج الدار متلازمين؛ لأنّ الأوّل معلول لعدم إرادة الكون في الدار، والثاني معلول لإرادة الكون في خارج الدار، وعدم الإرادة ذاك مع الإرادة هذه معلولان لشيء واحد، وهو غلبة داعي الكون في خارج الدار على داعي الكون في الدار.

أمّا الخروج فنفترضه من المقدّمات الإعداديّة للكون في خارج الدار، ونفترض أنّ إرادة الكون في خارج الدار وإن كانت علّة للكون في خارج الدار لكن لا بمعنى أنّها وحدها تمام العلّة لتحقّق الكون في خارج الدار مباشرة، بل هي تحرّك نحو الخروج فتكون علّة للخروج، وبعد أن حصل الخروج يصبح الإنسان كائناً في خارج الدار ببركة إرادته للكون في خارج الدار وتحقّق مقدّمته الإعداديّة وهي الخروج.

وبهذا أصبح الخروج في سُلّم علل الكون في خارج الدار بمقدار أنّه مقدّمة إعداديّة له، ولكنّه لم يصبح في سُلّم علل عدم الكون في الدار؛ وذلك باعتبار أنّ

475

الخروج فرضناه معلولا للعلّة الملازمة لعلّة عدم الكون في الدار.

والخلاصة: أنّ التلازم بين عدم الكون في الدار والكون في خارج الدار نشأ من اتّحاد العلّة، لكن لا بمعنى اتّحادها في نفس مرتبة الخروج، بأن يكون الخروج جزء علّة لكلا الأمرين، بل بمعنى اتّحادها فيما هو سابق على مرتبة الخروج، فلم يصبح الخروج داخلا في العلّة المشتركة، والعلّة المشتركة هي غلبة داعي الكون في خارج الدار على داعي الكون في الدار(1).

أقول: توجد لدينا عدّة كلمات تعقيباً على هذا البيان:

الكلمة الاُولى: أنّ هذا نتيجته أنّ الخروج ليس بينه وبين عدم الكون في داخل الدار أيّ علاقة علّيّة وتلازم مباشر، وإنّما هو ملازم لعلّة عدم الكون في الداخل وهي عدم إرادة البقاء؛ لكونه معلولا لما يلازم تلك العلّة وهو إرادة الكون في خارج الدار، فعدم انفكاك الخروج عن عدم الكون في داخل الدار إنّما هو لأجل التلازم غير المباشر بينهما بواسطة تلازم الخروج مع علّة عدم الكون في الداخل، من دون أيّ دخل للخروج في سلسلة علل عدم الكون في الداخل. وعليه نسأل: أنّه لو تحقّقت علّة عدم الكون في الدار وبفرض المحال لم يتحقّق الخروج ـ لأنّنا افترضنا محالا عدم التلازم بين علّة الخروج وعلّة عدم الكون في الدار ـ فهل يثبت عدم الكون أو لا؟ من الواضح أنّ الجواب بالنفي، وهذا يعني أنّ هناك تلازماً مباشراً بين الخروج وعدم الكون في الدار لا يمكن أن يخفى هذا التلازم بهذا اللفّ والدوران.

الكلمة الثانية: أنّنا تكلّمنا في الكلمة الاُولى وفق الاُصول الموضوعيّة لكلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)، فافترضنا أنّ انفكاك عدم إرادة البقاء في الدار عن الخروج


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 344 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

476

مستحيل، أمّا الآن فنقول: إنّ هذا الفرض ليس بمحال؛ لأنّ استحالته مبنيّة على ما تراه الفلاسفة من أنّ الفعل الاختياريّ علّته الوحيدة هي الإرادة، فالمحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) فرض أنّ هذا الإنسان إمّا يريد الكون في الداخل، أو يريد الكون في الخارج، ولا ثالث لهما، فإنّ الفعل الاختياريّ يكون مقتضيه هو الإرادة، فحيث لا إرادة فلا فعل اختياريّ، وحيث إنّ الكون في الدار والكون في خارج الدار فعلان اختياريّان، وهما ضدّان لا ثالث لهما، فلابدّ من إحدى الإرادتين بدون الاُخرى. وهذا يعني أنّ عدم إرادة الكون في الداخل مع إرادة الكون في الخارج متلازمان، وحيث إنّ إرادة الكون في الخارج ملازم للخروج فثبت التلازم غير المباشر بين عدم إرادة الكون في الداخل وبين الخروج.

لكنّنا بحسب مبنانا الذي بيّنّاه في بحث الطلب والإرادة نقول: إنّ الفعل قد يقع بسلطنة المكلّف واختياره من دون إرادة، كما إذا فُرض أنّ الكون في الدار كان مساوياً عنده مع الكون في خارج الدار، فليس له شوق مؤكّد تجاه أيّ واحد منهما في قبال الآخر، وحينئذ سوف يفعل أحدهما حتماً بسلطنته واختياره، فهنا لا إرادة الكون في الداخل تثبت ولا إرادة الكون في الخارج. فعندئذ نقول: إنّه في مثل هذه الحالة هل هناك ارتباط بين عدم الكون في الدار وبين الخروج أو لا؟ من الواضح أنّ الارتباط موجود، وهذا الارتباط ليس على أساس التلازم غير المباشر؛ إذ ليس هناك شيء اسمه إرادة الكون في خارج المكان تكون من ناحية ملازمة لعدم إرادة الكون في الداخل، ومن ناحية اُخرى علّة للخروج، كي تثبت بذلك الملازمة غير المباشرة بين عدم الكون في الداخل والخروج، فهذا الارتباط لابدّ وأن يكون ارتباطاً مباشراً، وبهذا ثبت المطلوب.

الكلمة الثالثة: هي أنّه في المقام اُغفل المقتضي الطبيعيّ للكون في داخل المكان، فحتّى لو فُرض أنّ هذا الإنسان كان حجراً كان هناك مقتض لبقائه في هذا

477

المكان غير الإرادة، وهو مثلا: ميله إلى المركز بناءً على ما كان يقوله الفلاسفة سابقاً، أو جاذبيّة الأرض له بناءً على الجاذبيّة، أو القصور الذاتيّ بناءً على نظريّة اُخرى، ومن هنا لو أنّ الإنسان لم تكن عنده إرادة الخروج ولا البقاء لكان يبقى لا محالة؛ إذ يصير حاله حال الحجر.

إذن فهذا المقتضي الطبيعيّ للبقاء يحتاج إلى شيء يزاحمه ويمانعه وهو حركة هذا الجسم وخروجه، إذن فالخروج بحسب الحقيقة مزاحم لتأثير المقتضي الطبيعيّ للبقاء، ويكون ـ لا محالة ـ وجوده علّة لعدم ترتّب المقتضى على هذا المقتضي، فالخروج سبب للابتعاد الذي هو مانع عن تأثير الجاذبيّة ـ مثلا ـ التي هي سبب طبيعيّ للبقاء.

فالإنصاف: أنّ مقدّميّة الخروج لعدم الكون في الدار ممّا لا يمكن الإشكال فيه.

الناحية الثانية: في الكبرى، وهي ما تعرّض له صاحب الكفاية(رحمه الله)، فهو بفطرته كأنّه سلّم الصغرى ولم يبحث فيها، وإنّما صبّ البحث في الكبرى وناقش فيما يبدو للذهن في البداية من أنّه بناءً على وجوب مقدّمة الواجب يثبت وجوب الخروج في المقام بعد أن سلّمنا مقدّميّته لترك الغصب المحرّم.

وحاصل توضيح ما أفاده(1) في مناقشة ذلك: أنّ المقدّمة التي قد تقع على وجه حرام تكون على ثلاثة أقسام:

1 ـ أن لا تكون مقدّمة منحصرة، فالمقدّميّة تكون للجامع بين فردين أحدهما حرام، وهنا يقول القائلون بالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة: إنّ الوجوب هنا ينبسط على الحصّة المحلّلة فحسب.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 264 ـ 265.

478

2 ـ أن تنحصر المقدّمة في الحرام لا بسوء الاختيار، فهنا يقع التزاحم بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها سواءً آمنّا بوجوب مقدّمة الواجب أو لا، وعندئذ فإن اقتضت قواعد التزاحم تقديم جانب ذي المقدّمة سقطت حرمة المقدّمة لا محالة، ويسري إليها الوجوب بناءً على وجوب مقدّمة الواجب. أمّا لو كانت حرمة المقدّمة أهمّ فلا يثبت الوجوب لذي المقدّمة فضلا عن المقدّمة.

3 ـ أن تنحصر المقدّمة في الحرام بسوء الاختيار، فإذا كان ذو المقدّمة أهمّ فهل تجب المقدّمة هنا إلحاقاً لها بالقسم الثاني، أو تلحق بالقسم الأوّل؟ الصحيح أنّها تلحق بالقسم الأوّل، فإنّنا وإن قلنا: إنّ المقدّمة تتّصف بالوجوب الغيريّ إذا كان ذو المقدّمة أهمّ إلاّ أنّه إنّما قلنا بذلك باعتبار سقوط حرمة المقدّمة بالتزاحم وخروجها عن كونها معصية، وهنا المقدّمة معصية؛ لأنّ النهي عنها وإن سقط لكنّه إنّما سقط بالمعصية. فقبل سوء الاختيار لا تزاحم بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها؛ لأنّها ليست مقدّمة منحصرة فلا ينسحب الوجوب على الحصّة المحرّمة، وبعد سوء الاختيار سقطت الحرمة ولكن بالعصيان، فالمقدّمة تكون معصية ولا تجب.

وكأنّ روح كلامه(رحمه الله) ـ وإن لم يف تعبيره بذلك ـ هو: أنّ العقل إنّما يدرك الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته بالوجدان، والوجدان إنّما يدرك ذلك فيما إذا كان المحلّ قابلا لانسحاب الوجوب عليه، أمّا إذا كانت المقدّمة حراماً ولم تسقط الحرمة ـ لعدم الانحصار ـ فالمحلّ غير قابل لتقبّل الوجوب. والوجدان من أوّل الأمر قاصر عن إثبات الوجوب لهذه المقدّمة، فليس هذا تخصيصاً في الحكم العقليّ، فإنّ وجوب المقدّمة لم يكن لثبوت برهان وقياس منطقيّ عليه، بل كان بالوجدان والتجربة النفسيّة الخاصّة بغير هذا القسم، وحينئذ يقول صاحب الكفاية: إنّ حرمة المقدّمة لو سقطت بالعصيان وبسوء الاختيار فلا

479

زال المحلّ غير قابل لتقبّل الوجوب، والتجربة النفسيّة لا تقتضي انسحاب الحبّ عليها(1).

وأمّا الجهة الثالثة: ففي أنّه بعد فرض تماميّة المقتضي لكلّ من الحرمة والوجوب كيف الجمع في التأثير؟

وهنا تارة يتكلّم في الجمع بين مقتضي حرمة المقدّمة ومقتضي وجوبها في التأثير. واُخرى يتكلّم في التوفيق بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها:

أمّا الجمع بين مقتضيي حرمة المقدّمة ووجوبها: فيخطر بالبال أنّ مقتضي الحرمة إنّما اقتضى حرمة الخروج حرمة ثابتة قبل الدخول، وأمّا بعد الدخول فقد سقطت الحرمة وثبت الوجوب، فالمقتضيان مختلفان في زمان التأثير.

وقد يقال في قبال ذلك: إنّ الخطاب والنهي وإن كان قد سقط بالدخول لكن روح الحرمة ـ وهي المبغوضيّة ـ لم تسقط؛ لأنّ الخطاب لم يسقط لأجل النسخ وعدول المولى عن رأيه وإنّما سقط بالاضطرار، فالتنافي باق على حاله.

وهذا المقدار من البيان يمكن الإجابة عليه بأنّه قبل الدخول لم يكن الخروج مقدّمة منحصرة للتجنّب عن الغصب، فلم يكن التجنّب عن الغصب الزائد متوقّفاً عليه، ولذا لم يكن مشتملا على المصلحة، فكان مبغوضاً. وأمّا بعد الدخول فقد أصبح الخروج ـ ولو بسوء الاختيار ـ مقدّمة منحصرة، فأصبح ذا مصلحة غالبة،


(1) بل التجربة النفسيّة تقتضي انسحاب الحبّ على اختيار أقلّ المحذورين لأجل التخلّص من المحذور الأشدّ حينما يدور الأمر بينهما وإن كان العبد مستحقّاً للعقاب إن كان هو قد سبّب بسوء الاختيار دوران الأمر بينهما، فهو مستحقّ للعقاب بما حصلت له من المعصية بمجرّد تسبّبه لذلك، وإن كان النهي فعلا ساقطاً والمتعلّق محبوباً من باب كونه موجباً للتخلّص من المحذور الأشدّ.

480

ومع غلبة المصلحة تندكّ المفسدة وبالتالي ترتفع المبغوضيّة.

إلاّ أنّه مع هذا قد يبيَّن الإشكال بصياغة اُخرى، وهي: أنّ الحرمة والوجوب حتّى إذا افترضا في زمانين يستحيل اجتماعهما على فعل واحد؛ فإنّ هذا وإن لم يكن من باب اجتماع الضدّين ـ لأنّنا افترضنا زوال الحرمة حتّى بروحها في زمان الوجوب ـ إلاّ أنّه يلزم من ذلك جهل المولى، فإنّ المولى من أوّل الأمر يلحظ الفعل حين صدوره، والفعل الواحد حين صدوره إمّا أنّه مشتمل على المفسدة الغالبة، أو مشتمل على المصلحة الغالبة، فعلى الأوّل لا يكون إلاّ الحرمة، وعلى الثاني لا يكون إلاّ الوجوب.

والجواب: أنّ المصلحة والمفسدة المتزاحمتين في المقام غير متطابقتين في المركز، فهناك بابان لعدم الخروج: أحدهما عدم الخروج بعدم الدخول، والآخر العدم الذي يكون بعد الدخول، والتزاحم يكون بلحاظ الباب الثاني بعد أن سدّ الباب الأوّل، والمصلحة حينئذ تكون أقوى. فالمولى يحتاج إلى حكمين: أحدهما يضمن فتح الجامع بين البابين، والآخر يضمن سدّ الباب الثاني من العدم، ولا استحالة في اجتماعهما فيحرّم الخروج قبل أن يدخل، وهذا يضمن فتح الجامع بين البابين ويوجبه بعد أن يدخل، وهذا يضمن سدّ الباب الثاني(1).

 


(1) هذا البيان واضح الصحّة بناءً على أنّ النهي طلب لعدم المنهيّ عنه، وقد يتخيّل عدم صحّته بناءً على كونه زجراً عن الفعل.

ولكنّ التحقيق: أنّه يتمّ حتّى على مبنى كونه زجراً عن الفعل؛ وذلك لإمكان افتراض أنّ الهدف من الزجر عن الفعل ـ وهو الخروج ـ كان بهدف فتح باب العدم عليه بعدم الدخول، فيسقط النهي بالدخول من باب أنّ النهي استوفى غرضه ولم يبق ملاك لبقائه وكأنّه تمّت معصيته.

481


والهدف من الأمر بالخروج على تقدير الدخول سدّ باب العدم عليه على تقدير سدّ الباب الأوّل. وإن شئت فقل: إنّ النهي عن الخروج ليس بشكل قضيّة خارجيّة وناظراً إلى فرضيّة جزئيّة واقعيّة حتّى يقال: إنّ المولى العالم بالغيب كان يعلم بأنّ عبده سيدخل الدار ولو عصياناً، فلماذا نهاه عن الخروج ثُمّ أمره به؟ بل النهي عنه كان بنحو القضيّة الحقيقيّة، ولم يكن نهياً مطلقاً بل كان نهياً عنه مقيّداً بما قبل الدخول، لا بمعنى تقييد المنهيّ عنه بما قبل الدخول بل بمعنى تقييد النهي بما قبل الدخول. والسبب في هذا القيد أنّه قبل الدخول لا مصلحة في الخروج غالبة على مفسدته؛ لأنّه كان يمكن ترك الخروج بلا تورّط في غصب زائد وذلك بترك الدخول. هذا حال النهي عن الخروج.

وأمّا الأمر بالخروج فأيضاً كان ثابتاً بنحو القضيّة الحقيقيّة من أوّل الأمر مشروطاً بالدخول، أي: إنّ الدخول كان شرطاً للوجوب لا للواجب، ولا تنافي بين ذاك النهي وهذا الأمر.

ولا ينبغي قياس المقام بأمر نُسخ قبل وقت الحاجة حيث يقال: إنّ هكذا أمرٌ لغو؛ لأنّه لا يقبل التحريك لا قبل وقت الحاجة كما هو واضح، ولا بعده؛ لأنّه قد فُرض نسخه، فإنّ الفرق واضح؛ لأنّ النهي عن الخروج قبل الدخول كان قابلا لتحريك العبد بترك الخروج بعد الدخول، فالنهي قد استنفد غرضه وتمّ عصيانه بنفس الدخول.

ولاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بيانٌ في دورة سابقة من بحثه الشريف فكّك فيه بين فرض القول بأنّ النهي عبارة عن طلب الترك، والقول بأنّه عبارة عن الزجر عن الفعل، وقد كنّا كتبناه سابقاً كتقرير لبحث تلك الدورة وإليك نصّ ذاك التقرير مع فوارق جزئيّة تعبيريّة:

تحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنّنا تارةً نبني على أنّ النهي مرجعه إلى طلب الترك، كما بنى عليه المحقّق النائينيّ والشيخ الخراسانيّ(قدس سرهما)، وعندئذ فلا موضوع لتخيّل توارد

482


الحكمين على متعلّق واحد، فإنّ متعلّقهما بحسب الدقّة اثنان. واُخرى نبني على كون النهي زجراً عن الفعل كما هو الصحيح وعندئذ نقول: رغم أنّ الحكمين متوجّهان إلى متعلّق واحد لا تنافي بينهما:

أمّا على الأوّل: فتوضيح الحال متوقّف على التنبيه على نكات أربع لاستيناس الذهن:

الاُولى: أنّه وقع الخلاف في أنّ مرجع النهي هل يكون إلى طلب الترك أو إلى الزجر عن الفعل؟ فاختار الأوّل المحقّق الخراساني والنائينيّ(قدس سرهما)، واختار الثاني المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره).

الثانية: أنّ الوجوب المقدّميّ للخروج على القول به يتصوّر بوجهين: أحدهما: أنّ الخروج مقدّمة لترك البقاء الواجب فهو واجب. الثاني: أنّ ترك الخروج علّة تامّة للبقاء الحرام فهو حرام.

الثالثة: أنّ وجوب الخروج على جميع الصور ـ وهي وجوبه النفسيّ ووجوبه المقدّميّ بالوجهين ـ مشروط بالدخول، ويكون الدخول مقدّمة وجوبيّة له لا مقدّمة وجوديّة: أمّا بناءً على وجوبه النفسيّ من باب صدق عنوان التخلية عليه فمعلوم أنّ أمر الشارع بالتخلية يكون بعد فرض الإشغال، وليس الإشغال مقدّمة وجوديّة بأن يقول الشارع: (ادخل في المكان المغصوب لكي تتمكّن من إتيان الواجب وهو الخروج).

وأمّا بناءً على وجوب الخروج لكونه مقدّمة لترك البقاء فمن الواضح أنّه قبل الدخول ليس الخروج مقدّمة منحصرة؛ لإمكان ترك البقاء بعدم الدخول، وقد ثبت في بحث المقدّمة أنّ مقدّمة الواجب إذا لم تكن منحصرة وكان بعض أفرادها حراماً لايتّصف ذلك الفرد بالوجوب، والمفروض فيما نحن فيه تماميّة المقتضي لحرمة الخروج، فالوجوب

483


يتعلّق بالفرد الآخر من المقدّمة وهو عدم الدخول. فوجوب ذات الخروج مشروط بتحقّق الدخول؛ لتوقّفه على انحصار المقدّمة فيه المتوقّف على الدخول.

وأمّا بناءً على أنّ ترك الخروج حرام لكونه علّة تامّة للبقاء فمعلوم أنّه قبل الدخول ليس ترك الخروج علّة تامّة للبقاء، فثبت أنّه على جميع التقادير يكون وجوب الخروج مشروطاً بالدخول، وكيف لا يكون كذلك مع وضوح أنّه لو كان الدخول مقدّمة وجوديّة لزم أن يكون الواجب على الناس دائماً أن يدخلوا في ملك الغير ليخرجوا منه، وهذا ـ كما ترى ـ ضروريّ البطلان.

الرابعة: أنّه قد أثبتنا في بحث الواجب المشروط أنّ وجوبه لا يحفظ شرطه بأن يكون محرّكاً نحو تحصيل الشرط أو مانعاً عن إفناء الشرط، مثلا وجوب الحجّ المشروط بالاستطاعة لا يحفظ شرطه وهو الاستطاعة، ولا يدلّ على وجوب تحصيلها أو حرمة تفويتها، وبعبارة اُخرى: إنّ الوجوب يحرّك العبد نحو سدّ جميع أبواب العدم المتوجّه إلى المتعلّق إلاّ باب العدم المتوجّه إليه من ناحية شرط الوجوب.

إذا عرفت هذه فنقول: إنّ النهي ـ على ما هو المفروض ـ مرجعه إلى طلب الترك وفتح باب العدم، فلو فُرض غلبة مبادئ الوجوب ـ من المصلحة والمحبوبيّة ـ على مبادئ الحرمة لا محالة ينتفي النهي لو كان الوجوب مقتضياً لسدّ جميع أبواب العدم التي يطلب النهي فتح واحد منها.

وأمّا فيما نحن فيه فالأمر بالخروج إنّما يقتضي سدّ أبواب العدم غير باب العدم الناشئ من ناحية ترك الدخول؛ لما عرفت من أنّ الدخول شرط لوجوبه، والوجوب المشروط لا يحفظ شرطه، فمبادئ النهي تكون مغلوبة بهذا المقدار. وأمّا طلب فتح باب العدم الناشئ من ناحية ترك الدخول فلا مانع منه، وأيّ محذور في أن يقول المولى: (أعدِم

484


الخروج بترك الدخول) ويقول: (يجب الخروج مشروطاً بالدخول)؟ هذا مضافاً إلى أنّه في الحقيقة يكون ترك الخروج بعد الدخول حراماً، فهنا خطابان: أحدهما: الأمر بفتح باب خاصّ من بابي العدم. والثاني: النهي عن فتح الباب الآخر من بابيه.

هذا كلّه إذا بنينا على مبنى المحقّق الخراسانيّ والمحقّق النائينيّ(قدس سرهما)من أنّ حقيقة النهي هي طلب الترك.

وأمّا على الثاني: أي: إذا بنينا على مبنى المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من أنّ حقيقته هي الزجر عن الفعل ـ وهو الحقّ ـ فمتعلّق الأمر والنهي حينئذ شيء واحد، لكنّ التحقيق عدم المنافاة بينهما؛ لتعدّد الزمان، وقد ذكر وجهان لبيان المنافاة بينهما كلاهما باطل:

الأوّل: ما أشار إليه في متن التقريرات وصرّح به السيّد الاُستاذ في تعليقته عليها، وهو: أنّه لا يعقل تعلّق الأمر والنهي بمتعلّق واحد ولو في زمانين من المولى العالم بجميع المصالح والمفاسد. نعم، لو كان تعدّد الزمان في الحقيقة موجباً لتعدّد المتعلّق ـ كما إذا وجب الصوم في النهار وحرم في الليل ـ كان ذلك معقولا، وأمّا إذا كان زمان المتعلّق ـ واجباً كان أو حراماً ـ واحداً كما فيما نحن فيه، فلا يكون تعدّد الزمان موجباً لتعدّد المتعلّق ولا يعقل أن يكون هذا المتعلّق حراماً في وقت وواجباً في وقت آخر؛ لأنّ هذا المتعلّق في زمانه إمّا فيه المفسدة والمبغوضيّة فيجعل الحرمة دون الوجوب، أو فيه مبادئ الوجوب ـ وهي المصلحة والمحبوبيّة ـ فيجعل الوجوب دون الحرمة، أو فيه مبادئ الوجوب والحرمة بالتساوي فلا يجعل الوجوب ولا الحرمة، أو أنّ إحداهما أقوى فيجعل الحكم على طبق الأقوى، فعلى كلّ حال لا يعقل تعلّق الأمر والنهي معاً به ولو في زمانين إلاّ في مولى غير علاّم الغيوب وغير العالم بجميع المصالح والمفاسد.

الثاني: ما صرّح به في متن التقريرات، وهو: أنّ الحكم المولويّ من الوجوب والحرمة

485


لابدّ أن يكون بداعي البعث والزجر، فلا يعقل جعل الحرمة مع رفعه قبل مجيء زمان المتعلّق، فإنّ هذا النحو من الحرمة ليست زاجرة قطعاً وتكون نظير الأمر بصلاة المغرب قبل المغرب ـ مثلا ـ ورفعه حين الغروب.

وكلا هذين الوجهين غير تامّ في المقام:

أمّا الوجه الأوّل ـ وهو الترديد بين وجوب المصلحة أو المفسدة أو كليهما مع التساوي أو مع أقوائيّة إحداهما، وأنّه على جميع التقادير لا معنى لإصدار الأمر والنهي من قِبَل العالم بكلّ الاُمور ـ فالجواب: أنّنا نختار الشقّ الرابع ونفترض أنّ المصلحة هي الغالبة، ولذا يكون التصرّف الخروجيّ بعد الدخول واجباً ولكن قبل الدخول ليس الموجود سوى مبادئ الحرمة دون مبادئ الوجوب، فإنّ ثبوت المصلحة فيه يكون موقوفاً على مقدّميّته لترك التصرّف في مال الغير، ومقدّميّته موقوفة على الدخول، فقبل الدخول لا مصلحة.

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو أنّ النهي لابدّ أن يكون زاجراً، والنهي الساقط قبل زمان المتعلّق ليس زاجراً ـ ففيه:

أوّلا: أنّه لو تمّ هذا لم يكن دليلا على عدم إمكان اجتماع النهي قبل الدخول بالخروج مع الأمر به بعده، بل هو دليل على عدم إمكان أصل هذا النهي.

وثانياً: أنّه غير تامّ؛ فإنّ المحتملات فيه ثلاثة وإن شئت جعلتها وجوهاً ثلاثة، وجميعها باطل:

الوجه الأوّل: أنّه يشترط في متعلّق التكليف القدرة وهي مفقودة هنا؛ لأنّ هذا النهي ليس حكماً شخصيّاً بل هو حكم على نحو القضايا الحقيقيّة، وموضوعه الكلّيّ: إمّا هو الإنسان أعمّ من كونه داخلا في الأرض المغصوبة أو لا، أو خصوص غير الداخل، أمّا