156

بعد كلّ هذه الدلائل من أهل الكوفة على نكث العهد، مع هذا بقي الإمام الحسين (عليه السلام) يواصل تأكيده على هذا الشعار.

إذاً، القصّة في الواقع لم تكن قصّة أن يقتنع الحسين (عليه السلام)، ولم يكن تحرّكه (عليه السلام) بينه وبين نفسه نتيجةً لردّ فعل لطلب قواعده الشعبيّة في الكوفة؛ لأنّه اطّلع في أثناء الطريق على أنّ هذه القواعد الشعبيّة في الكوفة قد خانته، قد قتلت رسوله، قد قتلت ثقته من أهل بيته، ومع هذا كان يواصل السفر إليها.

كان هذا الشعار شعاراً منسجماً مع الأخلاقيّة التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة، وكان لابدّ له أن يطرح هذا الشعار لكي يسبغ على العمليّة طابع المشروعيّة في نظر اُولئك الذين يحبّون السلامة، اُولئك الذين يرون في التضحية لوناً من ألوان التهوّر واللامعقوليّة وقلّة الأناة.

الاُسلوب الثاني: حشد كلّ المثيرات العاطفيّة في المعركة:

وكان من الأساليب التي اتّخذها أيضاً (عليه أفضل الصلاة والسلام) لكسب هذه الأخلاقيّة ومجاملتها: أنّه حشد في المعركة كلَّ القوى والإمكانيّات.

لم يكتفِ (عليه أفضل الصلاة والسلام) بأن يعرّض نفسه للقتل؛ عسى أن تقول أخلاقيّة الهزيمة: إنّ شخصاً حاول أن يطلب سلطاناً

157

فقتل، بل أراد أن يعرّض أولاده وأهله للقتل، ونساءه للسبي، أراد أن يجمع على نفسه كلّ ما يمكن أن يجتمع على إنسان من مصائب وتضحيات وآلام؛ لأنّ أخلاقيّة الهزيمة مهما شكّكت في مشروعيّة أن يخرج إنسانٌ للقتل، فهي لا تشكّك في أنّ هذا العمل الفظيع الذي قامت به جيوش بني اُميّة، قامت به جيوش الانحراف ضدّ بقيّة النبوّة، لم يكن عملاً صحيحاً على كلّ المقاييس وبكلّ الاعتبارات.

كان لابدّ للإمام الحسين (عليه السلام) أن يُدخِل في المعركة دمه وأولاده وأطفاله ونساءه وحريمه وكلَّ الاعتبارات العاطفيّة وكلَّ الاعتبارات التاريخيّة، حتّى الآثار التي كانت قد تبقّت من عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتّى العمامة، حتّى السيف.. لبس عمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، تقلّد سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1)، أدخل كلّ هذه المثيرات التاريخيّة والعاطفيّة إلى المعركة؛ وذلك لكي يسدّ على أخلاقيّة الهزيمة كلَّ منفذ وكلَّ طريق إلى التعبير عن هزيمتها، وعن نوع من أنواع الاحتجاج على هذا العمل؛



(1) «فاُنشدكم الله! هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول الله وأنا متقلّده؟ قالوا اللّهمّ نعم. قال: فاُنشدكم الله! هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟ قالوا: اللّهمّ نعم». الأمالي (الصدوق): 159 ـ بحسب الطبعة الرابعة لمنشورات المكتبة الإسلاميّة ـ المجلس 30، الحديث 1.

158

لكي يهزّ بذلك ضمير ذلك الإنسان المسلم المهزوز الذي تميّعت إرادته.

وهكذا كان، فقد استطاع (عليه السلام) بهذا التخطيط الدقيق الرائع أن يهزّ ضمير ذلك الإنسان المسلم.

159

الدرس الذي نستفيده من التخطيط الحسيني

ومن هذا التخطيط يمكننا أن نستفيد درساً عامّاً، وحاصل هذا الدرس:

إنّ عمليّة التغيير في أخلاقيّة الاُمّة لا يجوز أن تقوم بأيّ مجابهة واضحة للأخلاقيّة الفاسدة الموجودة في الاُمّة؛ لأنّ المجابهة الواضحة الصريحة للأخلاقيّة الفاسدة الموجودة في الاُمّة يكون معناها الانعزال عن هذه الاُمّة والانكماش، وعدم القدرة على القيام بعمل مشروع في نظر هذه الاُمّة.

حينما نريد أن ننفذ إلى ضمير الاُمّة التي ماعت أخلاقيّاً، لابدّ لنا أيضاً ـ في نفس الوقت الذي نفكّر في إنشاء أخلاقيّتها من جديد ـ أن نفكّر في عدم مجابهة الأخلاقيّة القائمة بالشكل الذي يعزل هذا الشخص الذي يريد أن يغيّر أخلاقيّة الاُمّة؛ فلابدّ له أن يفكّر في انتهاج طريق في التغيير يستطيع به أن ينفذ إلى ضمير الاُمّة، وهو لا يمكنه أن ينفذ إلى ضمير الاُمّة إلّا إذا حافظ باستمرار على معقوليّة ومشروعيّة عمله في نظر الاُمّة، كما عمل الإمام الحسين (عليه السلام)، لم يبقَ لدى شخص من أبناء الاُمّة الإسلاميّة أيُّ شكّ في أنّ عمل الإمام الحسين (عليه السلام) كان عملاً مشروعاً صحيحاً، وأنّ عمل بني اُميّة كان عملاً ظالماً عاتياً جبّاراً.

160

وهذا الوضوح في الرؤية هو الذي جعل المسلمين يدخلون بالتدريج إلى آفاق جديدة من الأخلاقيّة تختلف عن أخلاقيّة الهزيمة. هذا الوضوح هو الذي هزّ ضمير الإنسان المسلم، وهو الذي يهزّه إلى يومنا هذا.

فليس دم الإمام الحسين (عليه السلام) رخيصاً بدرجة يُكتفى في ثمنه بأن يهتزّ ضمير الإنسان المسلم في عصر واحد، أو في جيل واحد.. لا يمكن أن يكون ثمن دم الإمام الحسين (عليه السلام) أن تتزلزل قواعد بني اُميّة، أو أن يُكشف عن حقيقة بني اُميّة، أو أن تنتعش ضمائر جيل من اُمّة الإسلام.. هذا لا يكفي ثمناً لدم الإمام الحسين (عليه السلام) الطاهر، بل إنّ ثمن دم الإمام الحسين ـ الذي هو أغلى دم سُفك في سبيل الإسلام ـ أن يبقى محرِّكاً، منوِّراً، دافعاً، مطهِّراً، منقِّياً على مرّ التاريخ لكلّ أجيال الاُمّة الإسلاميّة..

لابدّ وأن يهزّ ضميرَنا وضميرَ كلّ واحد منّا اليوم كما كان يهزّ ضمير المسلمين قبل ثلاثة عشر قرناً..

لابدّ أن يهزّ ضميرَ كلّ واحد منّا حينما نجابه أيّ موقف من مواقف الإغراء، أو الترغيب، أو الترهيب..

لابدّ وأن نستشعر تلك التضحية العظيمة حينما نلتفت إلى أنّنا مدعوّون إلى تضحية جزئيّة بسيطة، حينما يتطلّب منّا الإسلام لوناً من التضحية وقَدَراً بسيطاً وضئيلاً من التضحية.

161

لابدّ وأن نلتفت دائماً إلى ذلك القَدَر العظيم غير المحدود من التضحية الذي قام به الإمام الحسين (عليه السلام) لكي نستصغر.. ولكي يتضاءل أمامنا أيُّ قَدَر نواجهه في حياتنا، ونكلّف أنفسنا بالقيام به في سبيل الإسلام.

إنّ الإسلام اليوم يتطلّب منك قَدَراً قليلاً من التضحية بوقتك، براحتك، بمصالحك الشخصيّة، برغباتك، بشهواتك، في سبيل تعبئة كلّ طاقاتك وإمكانيّاتك وأوقاتك لأجل الرسالة.

أين هذه التضحية من تلك التضحية العظيمة التي قام بها الإمام الحسين (عليه السلام) ؟ من تضحيته بآخر قطرة من دمه، بآخر شخص من ذرّيّته، بآخر كرامة من كراماته بحسب مقاييس الإنسان الدنيوي؟!

لابدّ أن نعيش دائماً هذه التضحية، ونعيش دائماً مدلولَ هذا الدم الطاهر؛ لكي يكون ثمنُ دم الإمام الحسين (عليه السلام) حيّاً على مرّ التاريخ.

وغفر الله لنا ولكم.

163

7النهضة الحسينيّة

نماذج مهمّة من الآراء

في تفسير ثورة الإمام الحسين(عليه السلام)

ودراستها

° الرأي غير الهادف ومناقشته.

° الرأي الهادف ودراسته.

165

لقد(1) توّج الإمام الحسين (عليه السلام) حياته السياسيّة بصنع حدث كبير هزّ الضمائر، وآل إلى تحوّلات عظيمة على صعيدَي الفكر والواقع الاجتماعي، فكانت الثورة هي ذلك الحدث الذي انطلق لمواجهة الانحراف الحكومي المتمثّل وقتئذ بيزيد بن معاوية، في وقت كانت الاُمّة قد بلغت حدّاً من النضج جعلها تدرك تلك الأوضاع، وتدرك ضرورة تغييرها، فجاء الإمام الحسين (عليه السلام) لينقل هذا الوعي إلى ذروة المواجهة، وليعلن الثورة على الظالمين، مستعيداً سيرة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) طالباً للإصلاح في اُمّته، ضارباً أروع الأمثلة للتضحية من أجل المبادئ، وبذلك أسّس الإمام الحسين (عليه السلام) وعياً سياسيّاً جديداً يأبى المصالحة مع الحاكم المنحرف، ويأبى السكوت على انحرافه، أو الركون إليه



(1) راجع: كتاب الإمامة وقيادة المجتمع (لسماحة آية الله العظمى السيّد كاظم الحسيني الحائري دام ظلّه) 1:202 بحسب الطبعة الثانية لدار البشير بقم.

166

مصداقاً لقوله تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(1).

ولقد دارت حول ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) آراء عديدة لتفسيرها ربّما تتناقض في ما بينها ويؤدّي بعضها إلى القول بأقوال غريبة أو غير معقولة، وقد تساهم في تشويه الهدف الذي نهض وثار من أجله الإمام (عليه السلام)، ولهذا سوف نستعرض نماذجَ مهمّةً من هذه الآراء لمناقشتها ونفي الفاسد منها وإثبات الصالح الموافق لطبيعة الثورة وأهدافها وغاياتها:

هناك رأيان أساسيّان يهيمنان على حدث الثورة لاستكناه أسبابها ودواعيها وغاياتها في الواقع الشيعي: الأوّل غير هادف، والثاني هادف، وينقسم الرأي الثاني بدوره إلى قسمين في تحقيق مصداقيّة الهدف من خلال تفاصيل حدث الثورة ونتائجها، وسوف نستعرض ذلك تباعاً:

الرأي غير الهادف ومناقشته:

أمّا الرأي غير الهادف والذي أنتجه العقل الشيعيّ الجمعيّ لعدد من



(1) هود: 113.

167

سواد الناس، والفاقد للدليل والبرهان، فمفاده: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) إنّما خرج وأعلن ثورته على يزيد بن معاوية لا لشيء إلّا ليُقتَل ويستشهدعلى أيدي الظالمين من أجل أن يصبح موضوعاً للتأسّي والألم والبكاء من قبل شيعته ومحبّيه، ولكي يكون ذلك سبباً لغفران ذنوبهم وتخليصهم من عقاب الآخرة وإدخالهم الجنّة.

ومن الواضح أنّ هذا التفسير يلغي هدفيّة الإمام الحسين (عليه السلام) بالشكل الذي يمكن للعاملين الهادفين الاقتداء به، ويجعل ذلك عملاً قائماً على أساس تعبّد بحت خاصٍّ به (عليه السلام)؛ لأنّنا لو كنّا وظاهر ما بأيدينا من نُظُم الشريعة، لقلنا بترتّب الإشكال الشرعي على التضحية التي قام بها الإمام (عليه السلام)؛ إذ إنّ السبب المذكور آنفاً يفتقد الملاك الشرعي الذي بموجبه يجوز إراقة الدم وتعريض النفس للهلاك.

ويرد على هذا الوجه: أنّ الأهداف التي أعلنها الإمام (عليه السلام) في خطبه وبياناته صادعة بأنّ للإمام (عليه السلام) هدفاً رئيسيّاً هو طلب الإصلاح في اُمّة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّ الروايات التي وردت تبشّر بالثواب الجزيل لمن يبكي على مصاب الإمام (عليه السلام)، لا يمكن أن يُقبل في تفسيرها أكثر من التأكيد على حصول الثواب، ولا يمكن قبول فرضيّة

168

أنّ الحسين (عليه السلام) قُتل لكي تبكي عليه الشيعة ويوجب ذلك دخولهم الجنّة وغفران ذنوبهم مهما عظُم إجرامهم، فإنّ الاعتقاد بمثل هذا الرأي يبطل الأهداف التغييريّة التي جاء بها الإسلام وعمل بها الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) من بعده، فالتغيير لا يحصل إلّا باتِّباع جميع مقرّرات الشريعة ومن خلال العمل الصالح والإيمان واليقين.

الرأي الهادف ودراسته:

وأمّا الرأي الهادف في تفسير ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، فهو الذي يتحرّك على أساس هدفيّة الإمام الحسين (عليه السلام) في إعلانه المعارضة على حكم يزيد والثورة عليه والتصدّي للظالمين. وفي دائرة هذا الرأي ثمّة اتجاهان يفسّران عمل الإمام الحسين (عليه السلام):

الاتجاه الأوّل: هو الاتجاه الذي يذهب إلى أنّ هدف الإمام الحسين (عليه السلام) كان إقامة الحكومة الإسلاميّة ولم يكن هدفه الاستشهاد، وإنّما شاءت الأقدار فاستشهد، فكانت شهادته خسارة عظيمة للإسلام ولم يكن فيها نفع، وقد يكون لهذا الرأي دعاته ومتبنّوه، ولكنّنا نختار نموذجاً واحداً هو صالحي نجف آبادي في كتابه (شهيد جاويد)، وهذا الكتاب فارسي.

169

الاتجاه الثاني ـ ويمثّله السيّد الشهيد محمّدباقر الصدر (قدس سره) ـ: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) خرج وهو يقصد الشهادة ويطلبها وكانت هي غايته النهائيّة، وكان الهدف منها هو إحداث هزّة عنيفة في نفوس وضمائر المسلمين، اُولئك الذين كانوا مبتلين بمرض «ضعف الإرادة» كما أسماه السيّد الشهيد (قدس سره)، فالاُمّة آنذاك وفي زمن الإمام الحسين (عليه السلام) بالذات كانت تعرف الحقّ وأهله وتعرف الباطل وأهله، تعرف انحراف يزيد وظلمه وعدم شرعيّته، وتعرف الإمام الحسين (عليه السلام) واستقامته وشرعيّته، ولكنّها كانت ضعيفة الإرادة خائفة لا تقدر أن تترجم أحاسيسها ووعيها إلى أعمال ومواقف، ولهذا رأى الإمام الحسين (عليه السلام) أنّ أيّ عمل سيصبح عديم الجدوى مع اُمّة تعاني من وطأة هذا المرض الوبيل، وسوف لن يكون بمقدور أيّة حركة تصحيحيّة أن تجني ثمارها الواقعيّة بسبب ركود القاعدة وتصلّبها، كما أنّ استمرار هذا المرض وتفشّيه في الاُمّة سوف يؤدّي إلى موتها، وبالتالي انهيار كيانها وانعدام أيّة فرصة ضئيلة ممكنة لاستنهاضها في المستقبل، ولهذا وجد الإمام الحسين (عليه السلام) أنّ علاج وضع كهذا لن يكون إلّا بإحداث هزّة عنيفة تهزّ وجدان وضمائر الاُمّة وتبعث فيها الحيويّة والإقدام، وأنّ هذه الهزّة العظيمة لا تحدث إلّا بتضحية عظيمة،

170

وقد رأى أن يكون هو الضحيّة التي سوف تهزّ الضمائر، ولم يكن أحدفي الاُمّة مرشَّحاً لهذه المنزلة سواه، فأقدم على الشهادة، فكانت شهادته منعطفاً بارزاً وقويّاً في وعي الاُمّة وحياتها، وكان أثرها في النفوس عظيماً؛ إذ تحرّكت الحياة في الضمائر المريضة، وحدثت الانتفاضات والثورات من بعده إلى أن تقوّض حكم بني اُميّة، وظلّ دم الإمام الحسين (عليه السلام) منذ استشهاده وإلى اليوم محرِّكاً للثوّار وملهماً لشيعة آل البيت (عليهم السلام) في كلّ حين.

إنّ الكاتب (صالحي نجف آبادي) استدلّ على رأيه بالتصريحات والشعارات التي أطلقها الإمام الحسين كقوله (عليه السلام): «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي (صلى الله عليه وآله)»(1). وكذلك استدلّ بالرسائل والكتب التي بعثها (عليه السلام) إلى أهل البصرة والكوفة والتي حثّهم فيها على نصرته، والتي كانت تعني في ما تعني أنّ الإمام (عليه السلام) عازم على إرساء قواعد حكم إسلامي صحيح بعد القضاء على الانحراف والظلم، هذا من جهة. ومن جهة اُخرى يؤكّد (صالحي نجف آبادي) على أنّ الوضع الاجتماعي وقتئذ كان يلحّ



(1) بحار الأنوار لدرر أخبار الأئمّة الأطهار 44:329 بحسب الطبعة الرابعة لمؤسّسة الوفاء ببيروت.

171

على الثورة، خصوصاً بعد بيعة أهل الكوفة وغيرهم له ومطالبتهم إيّاه الإسراع بالمجيء إلى العراق، الأمر الذي لم يبق أمام الإمام (عليه السلام) من خيار سوى الاستجابة لنداءات الثورة، وقد استجاب عندما بعث رسوله ابن عمّه مسلم بن عقيل (عليه السلام) لاستطلاع الوضع في الكوفة للتأكّد من مقوّمات النصر، وبعد أن مكث مسلم (عليه السلام) قرابة أربعين يوماً في الكوفة بعث إلى الحسين (عليه السلام): أن أقدم فإنّ هؤلاء جنود مجنّدة لك. وحينما رأى الإمام المؤشّرات الدالّة على النصر جدّ المسير إلى العراق، وحينما وصل مقصده حيل بينه وبين الدخول إلى الكوفة، وعُزل عن أنصاره، فاختلّ ميزان القوّة بينه وبين أعدائه لصالحهم، وحدثت المواجهة غير المتكافئة واستشهد الإمام الحسين (عليه السلام)، فكانت شهادته خسارة كبيرة للإسلام ونكبة عظيمة حلّت بالمسلمين، وإذاً فإنّ شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) حدثت بسبب اختلال ميزان القوّة بين الإمام وجيش عبيد الله بن زياد، وإنّ الأسباب التي أدّت إلى هذا الاختلال إنّما هي أسباب لم تكن في حسبان الإمام وقد فوجئ بها.

ويتساءل هذا الكاتب ويستفهم ويقول: ما معنى اعتبار قتل الحسين (عليه السلام) انتصاراً للإسلام؟ هل يسبّب قتله هداية الناس أو أنّ

172

وجوده حيّاً بين الناس هو الذي يؤدّي إلى هدايتهم؟ وهل أدّى مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) إلى فضح يزيد بن معاوية وهو المفضوح بشرب الخمر والفجور والفسوق؟ وهل أدّى مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) إلى قوّة الشيعة وحركاتهم الثائرة كحركة التوّابين وحركة المختار الثقفي وحركة سليمان بن صُرَد الخزاعي، وهي جميعها قد اُجهضت وقُتل قادتها ولم تحقّق جميعاً أهدافها؟

ثُمّ ينتهي الكاتب المذكور إلى نتيجة أنّ مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) كان خسارة للإسلام ومفسدة للمسلمين، وأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لو كان يعلم ظاهريّاً أنّه سيقتل لما جاز له الخروج، ولكنّه خرج على خلفيّة أمر ثُمّ تبيّن له خلافه، وعندئذ طلب من جيش ابن زياد السماح له بالرجوع، ولكنّهم منعوه وأبوا إلّا أن يفرضوا عليه الحصار لإيصاله إلى النتيجة التي آلت إلى استشهاده مع جميع أصحابه.

أمّا اُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره)، فإنّه كان يرى أنّ الاُمّة كانت مصابة بمرض الشكّ في زمن معاوية بن أبي سفيان، وقد عالجه الإمام الحسن (عليه السلام) بالصلح مع معاوية، أمّا في زمن يزيد، فإنّ الاُمّة برأت من ذلك المرض، وكانت تعرف الحقّ وأهله، وتعرف الباطل وأهله، ولكنّها اُصيبت بمرض آخر هو مرض فقدان الإرادة أو فقدان الضمير، وهذا

173

المرض لم يكن له من علاج لكي تبرأ الاُمّة منه سوى أن يقدم الإمام الحسين (عليه السلام) على التضحية بنفسه وأهل بيته وأصحابه؛ لكي يهزّ بها الضمائر الميتة ويبعث الشجاعة والإرادة فيها، وهذا ما حدث فعلاً، وحصلت تبعاً لذلك النتائج المتوقّعة.

فشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت انتصاراً كبيراً للإسلام وقد حقّقت أهدافاً عظيمة.

أمّا ظواهر النصوص التي كانت تصدر عن الحسين (عليه السلام) ممّا يشير إلى أنّ الهدف هو إقامة الحكم الإسلامي، فقد وجّهها اُستاذنا الشهيد (قدس سره) بالتوجيه التالي وهو: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حينما كان هدفه من الشهادة هو هزّ ضمير الاُمّة وشحذ إرادتها، فلا فائدة عندئذ من عنونة عمله بالشهادة فقط؛ لأنّ عنوان الشهادة لا يكفي بمفرده تحقيق ذلك الهدف، وكان ممكناً أن يقال عنه بأنّه ذهب لكي ينتحر، أمّا لو رأت الاُمّة إنساناً مخلصاً للإسلام كالإمام الحسين (عليه السلام) وقد تحرّك نحو هدف إقامة النظام الإسلامي الأصلح، ومن أجل كلمة الله، وقد ضحّى بنفسه من أجل هذا الهدف، عندئذ تدرك الاُمّة أنّ السعي للهدف الذي ضحّى من أجله الإمام الحسين (عليه السلام) يعدّ من أقدس الواجبات، ويستحقّ التضحية كما ضحّى له الإمام الحسين (عليه السلام)،

174

ولهذا فالإمام الحسين (عليه السلام) عندما خرج معلناً الثورة على يزيد أعلنعن هدفه ومبرّرات خروجه والغاية التي ينشدها، واتّضح من مجموع خطاباته وأقواله وبياناته أنّه كان يريد تصحيح الأوضاع المنحرفة، وتشييد نظام صالح تقام فيه الشريعة وتصان فيه الحقوق ويحكمه الأخيار المنتجبون.

وحقّاً أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد خرج من أجل هذه الأهداف، ولكنّه كان يعلم سابقاً بأنّه لا يستطيع تحقيقها، وأنّه سيُقتل وتُسبى نساؤه ومع ذلك خرج ليؤكّد مبدأ الشهادة من أجل الأهداف الصالحة، وليهزّ بذلك ضمير الاُمّة ويحرّك وجدانها وإرادتها، وهذا ما حصل؛ إذ تحرّكت الاُمّة على خطى الإمام الشهيد (عليه السلام)، وحصلت الثورات المعروفة في التاريخ.

تقييم الرأيين:

اختلف الرأيان في أغلب النقاط المثارة حول الثورة الحسينيّة إلى الدرجة التي جعلت لكلٍّ من اُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره) والكاتب (صالحي نجف آبادي) أرضيّته التي يقف عليها وينطلق منها، ولم يكن بينهما من قدر مشترك في ما أورداه من آراء سوى مسألة واحدة، وهي اتفاقهما على القول بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد عنون معارضته

175

لحكم يزيد وخروجه بالثورة عليه بعنوان طلب الحكم الإسلامي:«إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً.. وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي (صلى الله عليه وآله)»، بيد أنّ الاختلاف متضمّن أيضاً في توجيه هذا الادّعاء لكلٍّ من الطرفين، فاُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره) يؤكّد أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) إنّما خرج لطلب الشهادة وهو يعلم بأنّه يستشهد، وأنّ إطلاقه عنوان طلب الحكم الإسلامي كان مجرّد شعار تعبوي وتغييري، بينما الكاتب (صالحي نجف آبادي) يؤكّد أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن يقصد في خروجه طلب الشهادة ولكنّه كان يقصد طلب الحكم الإسلامي، بل ولم يكن يعلم ظاهريّاً بأنّه سوف يُستشهد، وإلّا فلماذا أرسل ابن عمّه مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة لكي يطلعه على أوضاع الناس ومقدار ولائهم واستعدادهم لمناصرته؟ ولماذا طلب من الحرّ بن يزيد الرياحي حينما كان آمراً على جيش عبيدالله بن زياد أن يفكّ الحصار عنه ويسمح له بالرجوع من حيث أتى؟ ولماذا كرّر الإمام الحسين (عليه السلام) الطلب يوم عاشوراء؟

ألا يعني ذلك أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن قاصداً الشهادة وإنّما كان قاصداً الثورة على يزيد وقلب نظام الحكم وتأسيس حكومة إسلاميّة صحيحة برئاسته؟

176

وفي الحقيقة إنّ هذا الاستدلال الذي أورده هذا الكاتب سرعان ما يبطل وينهار؛ للسبب الذي ذكره اُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره)، وهو: أنّ طرح عنوان الشهادة بمفرده لا يهزّ الضمائر، ولا يؤثّر في النفوس، ولا يؤدّي الأغراض التي استهدف الإمام (عليه السلام) تحقيقها، وعندئذ يكون من الطبيعي أن يرسل رسوله إلى الكوفة مسلم بن عقيل (عليه السلام) لكي يستطلع الاُمور له، ومن الطبيعيّ أيضاً أن يطالب الحرّ بن يزيد الرياحي حينما كان آمراً لجيش ابن سعد بفكّ الحصار عنه، أو يطالب أهل الكوفة المعسكرين حوله بالسماح له بالعودة؛ لأنّ غرض الإمام (عليه السلام) المعلن إنّما هو إقامة الحكومة العادلة وكان هذا شعار ثورته.

إنّ رأي (صالحي نجف آبادي) السالف الذكر وإن كان خيراً من الفكرة اللاواعية المتعارفة لدى بعض الناس والتي مفادها أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) ما خرج إلّا لكي يقتل، ولكي يكون مقتله مصاباً يستثير شيعته ويُبكيهم، وبالتالي يكون بكاؤهم عليه شفيعهم يوم القيامة وماحياً ذنوبهم ومُدخلهم الجنّة، ولكنّه لا يصلح رأيه أبداً للمقاومة في مقابل رأي اُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره) على ما يتّضح من تقييم المفردات التي اختلفا عليها، فما ذكرناه الآن إنّما كان في دائرة الرأي الذي اتّفقا عليه جزئيّاً.

177

أمّا الآراء التي اختلفا فيها بشكل كامل، فهي:

أوّلاً: أنّ الكاتب (صالحي نجف آبادي) يرى أنّ شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) ألحقت خسارة كبيرة بالإسلام ولم تكن في صالحه أبداً؛ إذ إنّ مصلحة الإسلام تقتضي أن يبقى الإمام الحسين (عليه السلام) حيّاً وأن يمارس عمله في قيادة الاُمّة وهدايتها لا أن يموت ويُقتل.

وفي المقابل يرى اُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره) أنّ شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) قد أحيت الإسلام، وكانت شجرة الإسلام بحاجة إلى أن تروى بدم كدم الحسين (عليه السلام) وقد اُرويت بهذا الدم المبارك.

ثانياً: أنّ الكاتب (صالحي نجف آبادي) يؤكّد أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن يعلم بأنّه سوف يستشهد، بل كان يتراءى له أنّه سوف ينتصر ويُقيم الدولة الإسلاميّة.

وفي مقابل ذلك يؤكّد اُستاذنا الشهيد (قدس سره) أنّ الإمام (عليه السلام) كان يعلم بأنّه سوف يستشهد وقد أقام عمله على أساس ذلك.

ثالثاً: أنّ الكاتب (صالحي نجف آبادي) يعتقد أنّ خسارة الإمام الحسين (عليه السلام) للمعركة ظاهريّاً لم تكن قابلةً للرصد والتخمين للإنسان الاعتيادي منذ البدء، وإنّما حصلت نتيجة توارد اُمور وعقبات صادفت حركة الثورة، فأعاقتها وأخلّت بميزان القوّة لصالح جيش

178

ابن سعد، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد الإمام (عليه السلام) وأهل بيتهوأصحابه.

وفي مقابل ذلك يرى اُستاذنا الشهيد (قدس سره) أنّ الاُمور منذ بدء حركة الإمام (عليه السلام) لم تكن في صالح الانتصار الظاهريّ، ولم تكن تجري بالشكل الذي يكون في صالح إقامة الحكم الإسلامي. وبعبارة اُخرى: إنّ الإمام (عليه السلام) كان يعلم حتّى بالحساب الظاهري لدى كلّ إنسان خبير بأنّه سيكون مغلوباً ومقتولاً، واُستاذنا الشهيد (قدس سره) يؤكّد أنّ هذه النتيجة هي في صالح الإسلام بحدّ ذاتها.

هذه هي النقاط الثلاث الخلافيّة بين وجهتَي السيّد الشهيد (قدس سره) والكاتب (صالحي نجف آبادي). ولدى مناقشتنا لهذه الآراء نكتشف أنّ آراء الكاتب المذكور لا تصمد أمام الدليل ويبطل تأثيرها، في ما تكون آراء السيّد الشهيد (قدس سره) حائزة على أكبر قدر من المصداقيّة؛ لتماسّها مع الواقع وكشفها عنه.

فأمّا ما يتعلّق بالنقطة الاُولى، فقد استدلّ الكاتب المذكور على الرأي الذي طرحه في خصوص مسألة شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) من أنّها كانت خسارة كبيرة للإسلام، بدليلين:

الدليل الأوّل: ما هو مدى انتفاع الإسلام من شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)؟ وماذا تقتضي المقارنة بين أن يكون الإمام (عليه السلام) حيّاً بين

179

الناس يهديهم إلى الإسلام ويعلّمهم أحكام الدين ويقودهم، وبين أنيكون ميتاً لا يفعل شيئاً من ذلك؟ واستنتج أنّ مصلحة الاُمّة والرسالة ليست في موت الإمام (عليه السلام) وإنّما هي في بقاء الإمام حيّاً لكي ينتفع الإسلام به.

الدليل الثاني: ما هو مدى تأثير استشهاد الإمام (عليه السلام) على الحكم الاُموي وعلى الفتوحات التي حصلت بعد استشهاده، كفتح بخارى وسمرقند وأندونيسيا؟ لا شكّ في أنّ الحكم الاُموي كان قويّاً قبل شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، وظلّ قويّاً بعده، والدليل على ذلك هو قيامهم بالفتوحات المذكورة مباشرة بعد استشهاد الإمام، كما أنّ شهادة الإمام (عليه السلام) لم تزد في فضيحة بني اُميّة؛ إذ كانوا مفضوحين لدى الاُمّة من قبل، وقد سبق القول من معاوية لأهل العراق: «ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا... ولكنّي قاتلتكم لأتأمَّرَ عليكم»(1).

بل على العكس، فبنو اُميّة تمكّنوا من توطيد حكمهم بقتلهم الإمام الحسين (عليه السلام) لتخلّصهم من قوّة معارضة كبيرة.



(1) بحار الأنوار لدرر أخبار الأئمّة الأطهار 44:49 بحسب الطبعة الرابعة لمؤسّسة الوفاء ببيروت.

180

إنّ الكاتب (صالحي نجف آبادي) لم يقرّ بنتيجة إيجابيّة أسفرت عن شهادة الإمام (عليه السلام) سوى قوله بحصول فوائد جانبيّة، منها: تحوّل شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى مدرسة سيّارة عمّقت حبّ الحسين (عليه السلام) في قلوب محبّيه، وألهمتهم دروس التضحية والفداء، وعلّمتهم أحكام وأخلاق دينهم نتيجة مظلوميّته وتضحيته العظيمة في سبيل الإسلام.

إنّ الجواب عن هذه الاستدلالات يكمن في الرأي الذي طرحه اُستاذنا الشهيد (قدس سره) والذي سبق ذكره من أنّ ثمّة فائدة عظيمة ترتّبت على شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، ألا وهي علاجه للمرض الذي كانت الاُمّة مبتلاةً به، وهو مرض فقدان الإرادة أو فقدان الضمير؛ إذ كانت الاُمّة بحاجة إلى علاج جذري لإعادة إرادتها وثقتها بنفسها إليها، ولكي لا تستسلم أكثر لمؤامرات حكّام بني اُميّة، فجاءت شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) كعلاج للاُمّة من هذا المرض الوبيل، وفعلاً بعد شهادة الإمام (عليه السلام) استعادت الاُمّة ثقتها بنفسها، ونهضت معلنة صرخة الرفض لكلّ أشكال الحكم المنحرف، وحدثت ثورة التوّابين، وثورة المختار الثقفي، وثورة زيد بن عليّ وغيرها من الثورات، وكانت تعبّر هذه الثورات برغم انتكاستها عن مدى التأثير الذي أحدثته شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) في نفوس أبناء الاُمّة، وكانت تدلّل في الوقت نفسه على دخول الاُمّة في عهد جديد من أبرز ملامحه: