133

الإمام الحسين(عليه السلام) بين أخلاقيّة الهزيمة وأخلاقيّة الإرادة

وبهذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) بين أخلاقيّتين: بين أخلاقيّة الهزيمة التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة قبل أن تُهزم فعليّاً يوم عاشوراء، وبين الأخلاقيّة الاُخرى التي كان يريد أن يبثّها وأن ينشرها في الاُمّة الإسلاميّة، أخلاقيّة الإرادة والتضحية والعزيمة والكرامة.

كان الإمام الحسين (عليه السلام) يواجه تلك الأخلاقيّة التي ترسّخت، ورَسّخت من المفاهيم ما يشلُّ طاقات التحرّك، وكان يريد أن يغيّر تلك الأخلاقيّة دون أن يستفزّها:

أ ـ كان يواجه الأخلاقيّة التي تمثّلت في كلام للأحنف بن قيس ـ كما تقدّم(1) ـ حينما وصف المتحرّكين في ركاب الإمام الحسين (عليه السلام) بأنّهم اُولئك «الذين لا يوقنون»، وبأنّهم اُولئك الأشخاص الذين يتسرّعون قبل أن يتثبّتوا من وضوح الطريق.

هذا المفهوم من الأحنف بن قيس كان يعبّر عن موقف أخلاقيّة الهزيمة من التضحية، وهو أنّ التضحية والإقدام على طريق قد يؤدّي



(1) تقدّم تحت عنوان: المشهد الثالث: موقف زعماء البصرة.

134

إلى الموت هو نوعٌ من التسرّع وقلّة الأناة، والخروجِ عن العرفالمنطقي للسلوك.

هذا المفهوم هو معطى أخلاقيّة الهزيمة، هذا المفهوم الذي تبدّل بعد حركة الحسين (عليه السلام) وحلَّ بديله، أي مفهومُ التضحية، الذي على أساسه قامت حركة التوّابين، حركةُ أربعةِ آلاف لا يرون لهم هدفاً في طريقهم إلّا التضحية؛ لكي يكفّروا بذلك عن سيّئاتهم وموقفهم السلبي تجاه الإمام الحسين (عليه السلام) (1).

ب ـ أخلاقيّة الهزيمة هي هذه الأخلاقيّة التي انعكست في كلام لأخي الحسين عمر الأطرف(2)، حينما قال للإمام الحسين (عليه السلام): «أنْ تبايع يزيد خيرٌ لك من أن تقتل»(3)، من أن تموت.

أخلاقيّة الهزيمة هذه هي التي تبدّلت بعد هذا خلال خطّ حركة الحسين (عليه السلام)، وانعكست في مفهوم لعليِّ بن الحسين (عليه السلام) حينما قال



(1) «كان منهم بالكوفة زهاء عشرين ألف رجل». الأخبار الطوال: 288 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.

(2) هو عمر بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

(3) اللهوف على قتلى الطفوف: 26 ـ 27 بحسب طبعة منشورات جهان بطهران.

135

لأبيه: «أوَلسنا على الحقّ؟»، قال: «بلى»، قال: «إذاً لا نبالي، أوَقعناعلى الموت أو وقع الموت علينا»(1).

ج ـ أخلاقيّة الهزيمة التي كان يواجهها الإمام الحسين (عليه السلام) هي الأخلاقيّة التي انعكست في كلام لمحمّد بن الحنفيّة حينما كان ينصح الإمام الحسين (عليه السلام) ويقول له: «إنّ أخشى ما أخشى أن تدخل إلى مصر وبلد من بلاد المسلمين فيختلف عليك المسلمون، فبعضٌ يقفون معك وبعضٌ يقفون ضدّك، ويقع القتال بين أنصارك وأعدائك، فتكون أضيع الناس دماً، الأفضل من ذلك أن تقف بعيداً عن المعترك، ثمّ تبثّ رسُلك وعيونك في الناس، فإن استجابوا فهو، وإلّا كنت في أمن من عقلك ودينك وفضلك ورجاحتك»(2).

هذه هي أخلاقيّة الهزيمة التي تحوّلت في ما بعد.. حينما أصبح دمُ الحسين (عليه السلام) ـ هذا الدم الذي كان يتصوّره محمّد بن الحنفيّة أنّه سوف يكون أضيع دم ـ مفتاحَ تحريك الاُمّة حينما قال المختار في سجن عبيد الله



(1) «ألسنا على الحقّ؟ قال: بلى والذي إليه مرجع العباد. قال: يا أبت، إذاً لا نبالي، نموت محقّين». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:408 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.

(2) المصدر السابق: 341 ـ 342.

136

بن زياد: «إنّي أعرف كلمةً أستطيع بها أن أملك العرب»؛ هذا الدم الذي كان يتصوّره أنّه أضيع دم أصبح هو مفتاح السلطان والسيطرة على المنطقة كلّها.

د ـ أخلاقيّة الهزيمة هي الأخلاقيّة التي عبّر عنها الأمير الاُموي يزيد بن معاوية في رسالة له إلى أحدهم يقول له في الرسالة: «إنّ آل أبي طالب أسرع ما يكونون إلى سفك الدماء».

هذا التعبير في الواقع هو ظاهرة من ظواهر أخلاقيّة الهزيمة، حينما تبرز أخلاقيّة الهزيمة وتترسّخ وتتعمّق، تتحوّل كلُّ محاولة جدّيّة لمقابلة الظلم والظالمين إلى نوع من السفك والقتل في نظر المثبَّطين والمجمَّدين.

هذه الأخلاقيّة هي التي يريد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يحوّلها إلى أخلاقيّة التضحية والإرادة، إلى الأخلاقيّة الإسلاميّة الصحيحة التي تمكّن الإنسان المسلم من أن يقف موقفه الإيجابي والسلبي وفقاً لما تقرّره الشريعة الإسلاميّة إيجاباً وسلباً.

137

هزُّ ضمير الاُمّة دون استفزاز أخلاقيّة الهزيمة

وفي عمليّة التحويل هذه كان الإمام الحسين (عليه السلام) يواجه أدقّ مراحل عمله؛ وذلك لأنّه في نفس الوقت الذي يريد أن يبثّ في جسم الاُمّة وفي ضميرها ووجدانها أخلاقيّةً جديدة، كان يحرص في نفس الوقت على أن لا يخرج خروجاً واضحاً عن الأخلاقيّة التقليديّة التي عاشتها الاُمّة نتيجةً لهزيمتها الروحيّة، كان يحرص على أن لا يخرج بشكل واضح ومثير عن تلك الأخلاقيّة المحنّطة التي عاشتها الاُمّة؛ وذلك لأنّه كان يريد أن يخلق وينشئ الأخلاقيّة الجديدة عن طريق هزّ ضمير الاُمّة الإسلاميّة، ولم يكن بإمكانه أن يهزّ ضمير الاُمّة الإسلاميّة إلّا إذا قام بعمل مشروع في نظر هذه الاُمّة الإسلاميّة التي ماتت إرادتها وتغيّرت أخلاقيّتها، والتي أصبحت تعيش هذه المفاهيم التي انعكست في كلمات هؤلاء الذين تحدّثنا عنهم.

كان لابدّ أن يراعي الإمام الحسين (عليه السلام) في سيره وتخطيطه هذه الأخلاقيّة وأن لا يستفزّها؛ لكي يبقى محتفظاً لعمله بطابع المشروعيّة في نظر المسلمين، الذين ماتت أخلاقيّتهم الحقيقيّة وتبدّلت مفاهيمهم عن العمل والسلب والإيجاب.

138

تخطيط الإمام الحسين(عليه السلام) لعمليّة التحويل

كان الإمام الحسين (عليه السلام) في الواقع قد اتّخذ منذ البدء موقفاً إيجابيّاً واضحاً صريحاً بينه وبين ربّه، كان قد صمّم منذ اللحظة الاُولى على أن يخوض المعركة مهما كلّفه الأمر على جميع الأحوال والتقادير، وأن يخوضها إلى آخر الشوط وإلى أن يضحّي بآخر قطرة من دمه، كان يفكّر تفكيراً إيجابيّاً مستقلاًّ في ذلك، لم يكن يتحرّك نتيجةً لردود فعل من الاُمّة، بل كان هو يحاول أن يخلق ردود الفعل المناسبة لكي يتحرّك، ومن أدلّة ذلك:

أ ـ أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) بدأ بنفسه الكتابة إلى زعماء قواعده الشعبيّة في البصرة(1).

نعم، لم يروِ لنا التاريخ أنّه كتب ابتداءً بشكل مكشوف واضح إلى زعماء قواعده الشعبيّة في الكوفة(2)، ولكنّ التاريخ حدّث بأنّه كتب



(1) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:357 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت. وقد تقدّم الحديث عن رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى زعماء البصرة، فراجع: المشهد الثالث من مشاهد موت الإرادة في المجتمع الحسيني.

(2) حيث كتب إلى أهالي الكوفة بعد أن وردته كتبهم، فراجع: الأخبار الطوال: 229 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.

139

وابتدأ بالحديث والتحريك لقواعده الشعبيّة في البصرة، وأعلن في رسالته لهم أنّه قد قرّر الخروج على سلطان بني اُميّة، قال لهم بأنّ هذا الحقّ هو حقُّ هذا الخطّ الذي يمثّله هو ويمثّله أخوه وأبوه (عليهم السلام)، إلّا أنّه سكت وسكت أبوه وأخوه حينما كان الكتاب والسنّة تراعى حرمتهما.

أمّا حينما انتهكت حرمة الكتاب وحرمة السنّة، حينما اُميتت السنّة، حينما اُحييت البدع، حينما انتشر الظلم، لابدّ لي أن أتحرّك، ولابدّ لي أن اُغيّر، ولابدّ لكم أن تحقّقوا في هذا الموقف درجة تفاعلكم مع رسالتكم. قال ذلك بوضوح، وطلب منهم بشكل ابتدائيٍّ الالتفافَ حول حركته.

وهذا يعني أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن في موقفه يعبّر عن مجرّد استجابة لردود فعل عاطفيّة أو منطقيّة في الاُمّة، بل كان هو قد بدأ منذ اللحظة الاُولى في تحريك الاُمّة نحو خطّته وخطّ عمله.

ب ـ موقفه من والي المدينة(1) أيضاً واضحٌ في ذلك، حينما استُدعي من قبل والي المدينة وعرض عليه الوالي في نصف الليل أن يبايع يزيد بن معاوية.

وحينما تكشّف لوالي المدينة أنّ امتناع الحسين (عليه السلام) عن البيعة هو



(1) هو الوليد بن عتبة.

140

بحسب الحقيقة لون من ألوان الرفض، صرّح بعد هذا الإمامُ الحسينُ بكلّ وضوح عن إيمانه بحقّه في الخلافة، وقال: «نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة»(1). وكان هذا واضحاً في إعلانه العزمَ والتصميمَ على حركة مسلّحة ضدّ السلطان القائم وقتئذ.

هذا التهديد، وتلك الرسالة الابتدائيّة لزعماء قواعده الشعبيّة في البصرة، إلى غير هذا وذاك من القرائن والدلائل.. تعبّر عن أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يخطّط تخطيطاً ابتدائيّاً لتحريك الاُمّة، وكان قد صمّم على أن يتحرّك مهما كانت الظروف والأحوال.

هذا واقع التخطيط.



(1) الفتوح 5:14 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.

141

شعارات الإمام الحسين(عليه السلام) في تبرير مخطّطه

لكنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حينما كان يُلقي شعارات هذا التخطيط على هذه الاُمّة الإسلاميّة المهزومة أخلاقيّاً، المهزوزة روحيّاً، المتميّعة نفسيّاً، الفاقدة لإرادتها، حينما كان يلقي شعارات هذا التحرّك على هذه الاُمّة لم يكن في كلّ إلقاءاته صريحاً واضحاً محدّداً؛ وذلك لأنّه كان يجامل تلك الأخلاقيّةَ التي عاشتها الاُمّة الإسلاميّة، أخلاقيّةَ الهزيمة.

وكانت هذه المجاملة جزءاً ضروريّاً من إنجاح الحسين (عليه السلام) في هدفه؛ لأنّه إذا خرج عن هذه الأخلاقيّة فَقَدْ فَقَدَ بذلك عملُه طابعَ المشروعيّة في نظر اُولئك المسلمين، وبذلك يصبح هذا العمل غير قادر على أن يهزّ ضمير إنسان الاُمّة الإسلاميّة كما كان من المفروض أن يهزّه.

الشعار الأوّل: حتميّة القتل:

كان الإمام الحسين (عليه السلام) يُعترض عليه ويقال: «لِمَ تخرج؟».. يعترض عليه عبدالله بن الزبير وغيره، فيقول له: بأ نّي «أنا اُقتل على كلّ حال، سواءٌ خرجت أم لم أخرج. إنّ بني اُميّة لا يتركونني، ولو كنت في هامة

142

من هذه الهوام لأخرجوني وقتلوني، إنّ بني اُميّة يتعقّبوني أينما كنت، فأنا ميّت على أيّ حال، سواءٌ بقيت في مكّة أو خرجت من مكّة، ومن الأفضل أن لا اُقتل في مكّة؛ لكي لا تنتهك بذلك حرمة هذا الحرم الشريف»(1)، فتراه طرح هذا الشعار.

وهذا الشعار ـ بالرغم من واقعيّته ـ منسجمٌ مع أخلاقيّة الاُمّة المعاشة أيضاً؛ فأخلاقيّة الهزيمة التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة لا تجد منطقاً تنفذ منه للتعبير عن نقد مثل هذا التحرّك من الإمام الحسين (عليه السلام)؛ فهو (عليه السلام) يقول: «أنا مقتول على كلّ حال»، والظواهر كلّها تشهد بذلك: الدلائل والأمارات والملابسات تشهد بأنّ بني اُميّة



(1) قال (عليه السلام): «والله لأن اُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليَّ من أن اُقتل داخلاً منها بشبر، وأيمُ الله لو كنت في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم، ووالله ليعتدنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت». ويؤكّده قوله (عليه السلام) للفرزدق: «لو لم أعجل لاُخذت»، وقوله (عليه السلام): «والله! لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:385، 386، 394 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت. وراجع: الفتوح 5:67 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت، والكامل في التاريخ 4:38 بحسب طبعة دار صادر ببيروت.

143

قد صمّموا على قتل الإمام الحسين (عليه السلام)، ولو عن طريق الاغتيال(1)،ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة.

إذاً، فطرح مثل هذا الشعار لأجل تفسير هذا الموقف كان مناسباً جدّاً مع إقناع أخلاقيّة الهزيمة، مع كونه شعاراً واقعيّاً في نفس الوقت.

الشعار الثاني: غيبيّة قرار التحرّك:

يأتي أشخاص آخرون إليه، يعترضون عليه، يقولون: «لِمَ تتحرّك؟». يأتي محمّد بن الحنفيّة ينصحه في أوّل الليل بنصائح عديدة، فيقول له: «أنظر، اُفكّر في ما تقول»، فيذهب محمّد بن الحنفيّة، وفي آخر الليل يسمع بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد تحرّك، يسرع إليه ويأتي، يأخذ براحلته ويقول له: «يا أخي قد وعدتني أن تفكّر»، قال: «نعم، ولكنّي بُتُّ في هذه الليلة فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: إنّك مقتول»(2).



(1) في رسالة ابن عبّاس إلى يزيد: «فلست بناس إطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب». تاريخ اليعقوبي 2:249 بحسب طبعة دار صادر ببيروت.

(2) اللهوف على قتلى الطفوف: 64 ـ 65 بحسب طبعة منشورات جهان بطهران.

144

فتراه (عليه السلام) يجيب بهذا الجواب، يجيب بقرار غيبي من أعلى، وهذا القرار الغيبي الصادر من أعلى لا يمكن لأخلاقيّة الهزيمة أن تنكره مادام صاحب هذه الأخلاقيّة مؤمناً بالحسين، ومؤمناً برؤيا الحسين (عليه السلام).

طبعاً، هو لم يحدّث بهذه الرؤيا عبدالله بن الزبير الذي لم يكن مؤمناً برؤيا الحسين (عليه السلام)، بل حدّث بذلك محمّد بن الحنفيّة وأمثالمحمّد بن الحنفيّة(1).

فهذا شعار آخر كان يطرحه: شعار «حتميّة الموت من أعلى»، أنّ هناك قراراً من أعلى يفرض عليه أن يموت، أن يضحّي، أن يقدم على هذه السفرة التي قد تؤدّي إلى القتل، وهذا الشعار أيضاً كان ينسجم مع أخلاقيّة الهزيمة، وهو في نفس الوقت شعارٌ واقعي.

الشعار الثالث: ضرورة إجابة دعوات أهل الكوفة:

وكان في مرّة ثالثة يطرح شعاراً ثالثاً: كان يقول للأشخاص الذين يمرّ بهم في طريقه من مكّة إلى العراق، في منازله المتعدّدة حينما كانوا ينصحونه بعدم التوجّه إلى العراق، كان يقول لهم: «إنّي قد تلقّيت من



(1) حيث «قصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطّلب»، راجع: الفتوح 5:19 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.

145

أهالي الكوفة دعوةً للذهاب إليهم، وقد تهيّأت الظروف الموضوعيّة في الكوفة لكي أذهب، ولكي اُقيم حقّاً واُزيل باطلاً»(1).

فكان يعكس ويفسّر سفرته على أساس أنّها استجابة وأنّها ردّ فعل، وأنّها تعبير عن إجابةِ طلب، عن أنّ الاُمّة تحرّكت وأرادت،وأنّه قد تمّت الحجّة عليه، ولابدّ له أن يتحرّك.

الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن في واقعه يقتصر في مرحلته الجهاديّة هذه على أن تطلب منه الاُمّة فيتحرّك، وإلّا لما راسل ابتداءً زعماء قواعده الشعبيّة بالبصرة ويطلب منهم التحرّك، ولكنّه في نفس الوقت كان يعكس هذا الجانب أكثر ممّا يعكس ذلك الجانب؛ لأنّ هذا الجانب أقرب انسجاماً مع أخلاقيّة الهزيمة.

ماذا تقول أخلاقيّة الهزيمة أمام شخص يقول لها: «إنّي قد تلقّيت دعوة، وإنّ ظروف هذه الدعوة ملائمة للجواب والتحرّك نحو الداعي»؟!

وبطبيعة الحال هناك فرقٌ كبيرٌ بين إنسان يتحرّك تحرّكاً ابتدائيّاً وبين إنسان آخر يتحرّك إجابةً لجماهير آمنت به وبقيادته وزعامته:



(1) من قبيل قوله (عليه السلام) للطرماح بن عدي الطائي: «إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الانصراف». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:406 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.

146

فهناك تقولُ أخلاقيّة الهزيمة: إنّ هذا متسرّع، وإنّ هذا لا يفكّر في العواقب، وإنّه ألقى بنفسه في المخاطر.

أمّا حينما يكون العمل إجابةً لدعوة من جماهيرَ قد هيّأت كلَّ الأجواء اللازمة لهذه الدعوة، فهذه الأخلاقيّة المهزومة لا تقول عن هذا العمل وهذا التحرّك: إنّه عمل طائش، إنّه عمل صبياني، إنّه عمل غير مدروس.

هذه الشعارات التي طرحها الإمام الحسين (عليه السلام) كانت كلّها واقعيّة، وفي نفس الوقت كانت منسجمةً مع أخلاقيّة الاُمّة المهزومة روحيّاً وفكريّاً ونفسيّاً.

الشعار الرابع: ضرورة الثورة ضدّ السلطان الجائر:

وكان يطرح أيضاً إلى جانب كلّ هذه الشعارات الشعارَ الواقعيَّ حينما كان يؤكّد على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «من رأى سلطاناً جائراً يحكم بغير ما أنزل الله، فلم يغيّر من ذلك السلطان بفعل أو قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله»(1).



(1) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:403 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت، والفتوح 5:81 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.

147

فكان إلى جانب تلك الشعارات التي يسبغ بها طابع المشروعيّة على عمله في مستوى أخلاقيّة الاُمّة، كان يعطي أيضاً باستمرار ودائماً الشعار الواقعيَّ الحيّ الذي لابدّ وأن يكون هو الأساس للأخلاقيّة الجديدة التي كان يبنيها في كيان هذه الاُمّة الإسلاميّة.

148

أساليب تحويل أخلاقيّة الهزيمة إلى أخلاقيّة الإرادة

دون استفزازها

الاُسلوب الأوّل: طرح الشعارات المنسجمة مع أخلاقيّة الهزيمة:

من جملة الأساليب التي اصطنعها (عليه أفضل الصلاة والسلام) للتوفيق بين الأخلاقيّتين، لمجاملة أخلاقيّة الهزيمة لكي يحوّلها بالتدريج إلى أخلاقيّة التضحية: أنّه طرح شعارَ «أن لا يبدأ الآخرين بقتال»(1).

هذا الشعار كان قد طرحه أميرالمؤمنين علي (عليه السلام)، ولكنّ هناك فرقاً كبيراً بين الشعار الذي طرحه الإمام علي (عليه السلام) وبين الشعار الذي طرحه الإمام الحسين (عليه السلام):

الإمام علي كان رئيس دولة، ورئيس الدولة من المفروض أن لا يبدأ أحداً من المواطنين بقتال إلّا إذا بدأه المواطن بشقّ عصا الطاعة والتمرّد عليه والقتال، فكان من المفروض أنّ الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) لا يبدأ عائشة مثلاً بقتال، لا يبدأ الزبير أو طلحة بقتال(2)؛ لأنّهم



(1) قال (عليه السلام): «فإنّي أكره أن أبدأهم بقتال حتّى يبدؤوا». الأخبار الطوال: 252 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.

(2) «فلمّا توافقوا للقتال، أمر عليٌّ منادياً ينادي من أصحابه: لا يرمينَّ أحدٌ سهماً ولا حجراً، ولا يطعن برمح حتّى أعذر إلى القوم، فأتّخذ عليهم الحجّة». الإمامة والسياسة 1:91 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.

149

مواطنون في دولة هو رئيسها، ومن المفروض أن لا يبدأهم بقتال ما لميخرجوا عن الخطّ، يحاربوا الوضع الشرعي الحاكم في تلك الدولة، فكان شعار «أن لا يبدأ أحداً من المواطنين بقتال» مفهوماً وواضحاً.

أمّا على مستوى حركة الحسين (عليه السلام) ـ الذي خرج ثائراً على دولة قائمة وسلطان قائم ـ فليس من المنطقي أن يقال: إنّ شخصاً يثور على سلطان قائم لا يبدأ هذا السلطانَ القائمَ بقتال، ولكنّ هذا الشعار قد طرحه (عليه أفضل الصلاة والسلام) لكي يكون أيضاً منسجماً مع أخلاقيّة الهزيمة التي عاشتها الاُمّة الإسلاميّة، لكي يسبغ على عمله طابع المشروعيّة على مستوى هذه الأخلاقيّة:

أ ـ حينما التقى (عليه أفضل الصلاة والسلام) مع طليعة جيش عبيد الله بن زياد بقيادة الحُرّ ـ وكانت الطليعة عبارة عن ألف جندي(1) ـ اقترح عليه زهير بن القين ـ على ما أظنّ(2) ـ أن يبدأهم



(1) الأخبار الطوال: 249 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.

(2) وهو كذلك.

150

بقتال، وقال: «إنّ هؤلاء أوهن علينا ممّن يجيء بعدهم، فلنبدأ بقتال هؤلاء، ولنفتح الطريق إلى الكوفة»، قال (عليه السلام): «إنّي لا أبدأهم بقتال»(1).

ب ـ ومن مصاديق تطبيق هذا الشعار كان وضع مسلم بن عقيل؛ فإنّ مسلم بن عقيل قد ذهب إلى الكوفة رسولاً من قبل الإمام الحسين (عليه السلام)، إلّا أنّه ذهب في إطار هذا الشعار، وهذا هو الذي يفسّر لنا عدم قيام مسلم بن عقيل بأيّ عمل إيجابي سريع خلال الأحداث التي مرّت به في الكوفة.

قد يخطر على ذهن البعض أنّ مسلم بن عقيل لم يستطع أن يزن الأحداث وأن يقدّر الظروف تقديرها اللازم، وأنّ مسلم بن عقيلكان مدعوّاً إلى نوع من المبادرة لكي يستلم زمام الموقف.

إلّا أنّ هذا التصوّر إنّما ينتج عن تخيّل أنّ مسلم بن عقيل قد ذهب من قبل الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة والياً، حاكماً، سلطاناً. وليس في نصوص التاريخ أيّ دلالة على ذلك.

الإمام الحسين (عليه السلام) حينما أرسل مسلم بن عقيل وكتب معه كتاباً لم يكن هناك في الكتاب أدنى إشارة إلى إعطاء مسلم بن عقيل صفة الولاية والحاكميّة والسلطان، وإنّما قال لأهل الكوفة: «إنّي أرسلت



(1) الأخبار الطوال: 252 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.

151

ثقتي إليكم من أهل بيتي؛ لكي يستطلع أحوالكم ويتأكّد من إخلاصكم ويكتب إليّ بذلك، فإن كتب إليّ بما جاءت به كتبكم ورسلكم استجبت لدعوتكم وجئتكم»(1).

فمسلم بن عقيل كان مكلّفاً في نصِّ هذا الكتاب باستطلاع أحوال تلك القواعد الشعبيّة التي راسلت الإمام الحسين (عليه السلام)، ولم يكن مكلّفاً بأزيد من ذلك.

وبالفعل، لم يقم مسلم بأزيد من ذلك، دخل الكوفة، نزل ضيفاً في بيت المختار (رحمة الله عليه)، وبقي في بيت المختار مكشوف الحال يزوره الشيعة ويتجمّعون عنده(2)، فيتحدّث إليهم، ويؤكّد لهم أهداف الإمام الحسين (عليه السلام)، ويؤكّدون له إخلاصهم واستعدادهم للعمل في تلك الأهداف، حتّى يدخل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة(3)، حينئذ يتوتّر الجوّ ويُغَيَّرُ الموقفُ بشكل عامّ.



(1) الأخبار الطوال: 230 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم، والفتوح 5:30 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.

(2) الأخبار الطوال: 231 بحسب الطبعة المشار إليها آنفاً، والفتوح 5:33 بحسب الطبعة المشار إليها.

(3) الأخبار الطوال: 232 بحسب الطبعة المشار إليها، والفتوح 5:38 بحسب الطبعة المشار إليها.

152

ثمّ يرى مسلم بن عقيل أنّ من المصلحة أن ينتقلَ إلى بيت آخر ويكونَ مكثه في الكوفة سرّيّاً؛ لأنّ عبيد الله بن زياد بدأ عمليّة التعقيب والتفتيش عن مسلم بن عقيل؛ فبينما الوالي السابق(1) كان سلبيّاً، أصبح عبيد الله بن زياد يفكّر في مجابهة هذا التجمّع وبذرة هذا التجمّع.

وحينئذ انتقل مسلم بن عقيل من بيت المختار إلى بيت هانئ بن عروة (رضوان الله عليه)(2) وبقي هناك متكتّماً بمكثه، وأخذ الشيعة يزورونه متكتّمين.

وكان ظهور مسلم بن عقيل في اليوم المشهود مع أربعة آلاف، وكان العمل ـ الذي مارسه حينما ذهب إلى قصر الإمارة مع هذا العدد من الشيعة، وحاول أن يحتلّ قصر الإمارة وأن يسيطر على مقاليد الموقف ـ خارجَ نطاق التخطيط المتّفق عليه بين مسلم والحسين (عليه السلام)(3).

كان هذا العمل بملاك الدفاع؛ لأنّ مسلم بن عقيل (رضوان الله عليه) وقع في موقع الدفاع. عبيد الله بن زياد بدأ بالهجوم، أخذ يحاول أن يتعقّب مسلم بن عقيل وأن يقضي على هذه البذرة، فكان مسلم بن



(1) وهو: النعمان بن بشير.

(2) انتقل مسلم إلى دار هانئ بن عروة المرادي، راجع: الأخبار الطوال: 233 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.

(3) الفتوح، 5:49 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.

153

عقيل في حالة دفاع، ولم يكن حالة غزو أو هجوم.

يعني: إنّ الظروف اضطرّته إلى أن يقف موقف المدافع، ولو لم يبدأ بهذه العمليّة إذاً لهجم عليه عبيد الله بن زياد وهجم على شيعته وهم في البيوت. فحينما يحاول عبيد الله بن زياد أن يبدأ بالهجوم، كان على مسلم بن عقيل ـ لا بمنطق رسالته من قبل الحسين (عليه السلام)، لا بمنطق الحاكميّة والسلطان والولاية، بل بمنطق الدفاع ـ أن يبدأ بمثل هذه العمليّة كدفاع عن نفسه وعن قواعده التي التفّت حوله.

اقرؤوا رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) التي بعثها مع قيس بن مسهّر الصيداوي إلى الكوفة، هكذا كان يقول في الرسالة: «إنّي سوف أرد إليكم قريباً، فانكمشوا على أمركم حتّى آتي»(1).

الرسالة واضحة في أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن قد خطّط لمسلم بن عقيل أن يملك الكوفة، وأن يسيطر على الكوفة كحاكم ووال وسلطان، يقول: «انكمشوا في أمركم»، يعني حاولوا أن تحفظوا هذا التجمّع إلى أن آتي، فكان تحويلُ هذا التجمّع إلى مجتمع، إلى سلطان، إلى دولة، كان كلّ هذا موقوفاً على دخول الحسين (عليه السلام)، ولهذا أوصى بأن ينكمشوا في أمرهم.



(1) راجع: تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:395 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.

154

إذاً، فرسالة مسلم بن عقيل لم تكن إلّا عبارةً عن استطلاع أحوال تلك القواعد الشعبيّة، وتزويد الإمام الحسين (عليه السلام) بالمعلومات الواضحة المؤكَّدة عن تلك القواعد الشعبيّة، ولم يكن مسلم بن عقيل مكلَّفاً بحرب، وإنّما قام بما قام به في اللحظة الأخيرة كدفاع عن النفس؛ حيث لم يكن هناك طريقٌ آخر للاستمراريّة غير أن يتّخذ هذا الموقف الدفاعي.

كلّ هذا يعبّر في الواقع عن شعار عدم الابتداء بالقتال، هذا الشعار الذي كان من المفروض على الإمام الحسين (عليه السلام) أن يطرحه لكي يشعر الناسُ جميعاً بأنّ العمليّة عمليّة فوق الشكّ، وأنّها مشروعة حتّى على مستوى تصوّرات الإنسان المسلم المهزوم روحيّاً وأخلاقيّاً.

ونحن إذا لاحظنا الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيره من مكّة إلى العراق نرى أنّه كان باستمرار يؤكّد على ضرورة مواصلة السير والسفر؛ لأنّه مدعوّ، ولابدّ له أن يجيب هذه الدعوة.

بلغه في الطريق أنّ مسلم بن عقيل قُتل، ولم يغيّر من موقفه(1)، أي لم يسقط هذا الشعار، بل بقي هذا الشعار مرفوعاً، وهو شعار أنّه مدعوٌّ من قبل الكوفة، ولابدّ له أن يجيب.



(1) وكان (عليه السلام) قد مشى إلى الكوفة بعد أن ورده كتابُ مسلم: «فإنّ الرائد لا يكذب أهله، إنّ جمع أهل الكوفة معك». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:395 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.

155

بالرغم من أنّه اطّلع على أنّ مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة قد قتلا(1)، بعد هذا اطّلع على أنّ قيس بن مسهّر الصيداوي قد قتل من قِبَل عبيد الله بن زياد(2)، مع هذا لم يغيّر هذا الشعار، بل بقي يؤكّد أنّه مدعوٌّ من قِبَل أهل الكوفة، ولابدّ له أن يجيب هذه الدعوة، حتّى التقى مع الحرّ بن يزيد الرياحي.

جاءه الطرمّاح قال له: «الحقْ بالجبل الفلاني(3)، وأنا أجمع لك عشرين ألف شخص من العشيرة الفلانيّة(4) يلتفّون حولك، والله يغنيك بذلك عن الكوفة»، قال (عليه السلام): «بيننا وبين القوم عهدٌ، ولابدّ لي أن أسير إليهم»(5).



(1) في المصدر السابق: 397: أنّه تلقّى خبر مقتل مسلم وهانئ في الثعلبيّة، ثمّ أكمل المسير.

(2) أنساب الأشراف 3:169 بحسب الطبعة الاُولى لدار التعارف للمطبوعات ببيروت.

(3) وهو جبل «أجأ»، وهو و«سلمى» جبلا طيء. راجع: معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع 1:109 بحسب الطبعة الثالثة لعالم الكتب ببيروت.

(4) وهي قبيلة طيء.

(5) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5: 406 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.

156

بعد كلّ هذه الدلائل من أهل الكوفة على نكث العهد، مع هذا بقي الإمام الحسين (عليه السلام) يواصل تأكيده على هذا الشعار.

إذاً، القصّة في الواقع لم تكن قصّة أن يقتنع الحسين (عليه السلام)، ولم يكن تحرّكه (عليه السلام) بينه وبين نفسه نتيجةً لردّ فعل لطلب قواعده الشعبيّة في الكوفة؛ لأنّه اطّلع في أثناء الطريق على أنّ هذه القواعد الشعبيّة في الكوفة قد خانته، قد قتلت رسوله، قد قتلت ثقته من أهل بيته، ومع هذا كان يواصل السفر إليها.

كان هذا الشعار شعاراً منسجماً مع الأخلاقيّة التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة، وكان لابدّ له أن يطرح هذا الشعار لكي يسبغ على العمليّة طابع المشروعيّة في نظر اُولئك الذين يحبّون السلامة، اُولئك الذين يرون في التضحية لوناً من ألوان التهوّر واللامعقوليّة وقلّة الأناة.

الاُسلوب الثاني: حشد كلّ المثيرات العاطفيّة في المعركة:

وكان من الأساليب التي اتّخذها أيضاً (عليه أفضل الصلاة والسلام) لكسب هذه الأخلاقيّة ومجاملتها: أنّه حشد في المعركة كلَّ القوى والإمكانيّات.

لم يكتفِ (عليه أفضل الصلاة والسلام) بأن يعرّض نفسه للقتل؛ عسى أن تقول أخلاقيّة الهزيمة: إنّ شخصاً حاول أن يطلب سلطاناً

157

فقتل، بل أراد أن يعرّض أولاده وأهله للقتل، ونساءه للسبي، أراد أن يجمع على نفسه كلّ ما يمكن أن يجتمع على إنسان من مصائب وتضحيات وآلام؛ لأنّ أخلاقيّة الهزيمة مهما شكّكت في مشروعيّة أن يخرج إنسانٌ للقتل، فهي لا تشكّك في أنّ هذا العمل الفظيع الذي قامت به جيوش بني اُميّة، قامت به جيوش الانحراف ضدّ بقيّة النبوّة، لم يكن عملاً صحيحاً على كلّ المقاييس وبكلّ الاعتبارات.

كان لابدّ للإمام الحسين (عليه السلام) أن يُدخِل في المعركة دمه وأولاده وأطفاله ونساءه وحريمه وكلَّ الاعتبارات العاطفيّة وكلَّ الاعتبارات التاريخيّة، حتّى الآثار التي كانت قد تبقّت من عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتّى العمامة، حتّى السيف.. لبس عمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، تقلّد سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1)، أدخل كلّ هذه المثيرات التاريخيّة والعاطفيّة إلى المعركة؛ وذلك لكي يسدّ على أخلاقيّة الهزيمة كلَّ منفذ وكلَّ طريق إلى التعبير عن هزيمتها، وعن نوع من أنواع الاحتجاج على هذا العمل؛



(1) «فاُنشدكم الله! هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول الله وأنا متقلّده؟ قالوا اللّهمّ نعم. قال: فاُنشدكم الله! هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟ قالوا: اللّهمّ نعم». الأمالي (الصدوق): 159 ـ بحسب الطبعة الرابعة لمنشورات المكتبة الإسلاميّة ـ المجلس 30، الحديث 1.