1

تزكية النفس من منظور الثقلين (8)
محــاســبة النفس (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

قيل: إنّ مرتبة المحاسبة تأتي بعد مرتبة التوبة، فبعد أن عقد التوبة يحاسب نفسه على حفظ التوبة حتى يسلم عقدُها ويثبت دوامها(1).

والواقع: أنّ التوبة والمحاسبة تتفاعلان فيما بينهما، فالتوبة تؤدّي إلى المحاسبة، والمحاسبة تؤثّر في دوام التوبة، والوفاء بها من ناحية وهي قبل التوبة تؤدّي إلى التوبة من ناحية اُخرى.

قال الله تعالى: ﴿يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون* ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم اولئك هم الفاسقون﴾(2).

فقوله تعالى: ﴿ولتنظر نفس ما قدّمت لغد﴾ في الحقيقة أمر بالمحاسبة، فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه؛ ليرى ماذا قدّم لغده، هل قدّم خيراً أو قدّم شرّاً؟ وإن كان قد قدّم خيراً فما هو مبلغ تقديمه؟ علماً بأنّ ما يقدّمه هو الذي يبقى له، والباقي يفنى كما قال الله تعالى: ﴿ما عندكم ينفد وما عند الله باق..﴾(3).

والذي تقشعرّ له الجلود التعبير الوارد في ذيل الآية ـ وهو قوله: ﴿ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم...﴾ فهذا يعني: أنّ ترك المحاسبة يكون من شأن اُولئك الذين نسوا الله، وأنّ جزاء نسيان الله هو أن يبتليه الله بنسيان نفسه، والذي هو أعظم نسيان حتى عند من لا يهتمّ إلّا بمصالح نفسه. والتعبير بنسيانه لنفسه يتمّ باعتبارين:

ـ أنّ الذي نسى الله لا يذكر مصالح نفسه الأُخروية، والتي هي المصالح الباقية والهامّة، ومن ترك مصالح نفسه فكأنّه ناس لنفسه، وإلّا فكيف لايهتمّ بمصالح نفسه.


(1) راجع باب المحاسبة، وهو الباب الثالث من أبواب البدايات من منازل السائرين.
(2) السورة 59، الحشر، الآيتان: 18 ـ 19.
(3) السورة 16، النحل، الآية: 96.
2

وثانيهما ـ أنّ الطاقة الخيّرة الهامّة المودعة بلطف الله في النفس قد أهملها ونسيها، ونسيانها نسيان للنفس.

ويشبه التعبير بنسيان النفس التعبير المؤثّر الآخر الوارد في القرآن الكريم، وهو التعبير بخسران النفس، فقد تكرّر في القرآن عدّة مرّات عنوان: ﴿...الذين خسروا أنفسهم...﴾(1) فالذين خُتِمت عاقبتهم بالشرّ، ولم يكن لهم في الآخرة من خلاق قد خسروا أنفسهم، إمّا بلحاظ خسارة مصالحهم في الآخرة إلى أبد الآبدين، أو بلحاظ خسارة قوى الخير التي أودعها الله في أنفسهم فخسروها.

وهناك مرتبة نازلة من خسران النفس أو نسيان النفس وردت فيالروايات بشأن من يرتكب بعض الذنوب وذلك من قبيل التعبير بحرمان صلاة الليل، كما ورد عن الصادق (عليه السلام): «أنّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل...»(2). وسند الحديث تامّ.

وكذلك ورد عن الصادق (عليه السلام): «أنّ الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل، فإذا حرم صلاة الليل حرم بها الرزق»(3).

ورُوي أنّه جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: «إنّي قد حرمت الصلاة بالليل، فقال امير المؤمنين (عليه السلام): أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك»(4).

وعلى أيّة حال، فحساب ما قدّم الإنسان لغد الوارد في الآية الكريمة أمر تحكم به الفطرة؛ لأنّ الإنسان المسافر في أسفاره الاعتيادية لا بدّ له من ذلك ومن تدارك الزاد لسفره، فكيف بالسفر إلى عالم البقاء؟! وقد ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال:

إذا كنت تعلم أنّ الفراق
فـراق الحيـاةِ قـريبٌ قريب
وأنّ المعدَّ جهازَ الرحيلِ
ليوم الرحيلِ مـصيب مصيبْ
وأن المُقدِّم ما لا يفوت
على ما يـفوت معيبٌ معيبْ
وأنت على ذاك لا ترعوي
فأمرُك عندي عجيبٌ عجيبْ(5)


(1) راجع السورة 6، الأنعام، الآيتين: 12 و20، والسورة 7، الأعراف، الآيتين. و 53، والسورة 11، هود، الآية: 21، والسورة 23، المؤمنون، الآية: 103، والسورة 39، الزمر، الآية: 15.
(2) الوسائل 15. 302، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 14.
(3) نفس المصدر السابق. / 160، الباب 40 من بقية الصلوات المندوبة، الحديث..
(4) نفس المصدر السابق: ص161، الحديث 5.
(5) البحار 78/92.
3

وكيف يصح ترك الاهتمام بالمحاسبة في حين أنّ وراءنا محاسبة عظيمة من قبل الله تعالى، كما أخبرنا القرآن به في أكثر من مورد، منها:

1 ـ ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وان كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين﴾(1).

2 ـ ﴿يا بنيّ إنها إن تك مثقال حبّة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله ان الله لطيف خبير﴾(2).

ويحتمل أن تكون الآية الثانية بل ولعلّ الأولى ـ أيضاً ـ مشيرة إلى بقاء الأعمال بتموّجاتها الهوائية، وتأثيراتها المادّية، وتجزّؤها كمثقال حبّة من خردل، وتفرّقها، وانتشارها في السماوات والأرض، وأنّ الله ـتعالى ـ يجمعها يوم القيامة، ويجسّمها أمام فاعلها، فواسوأتاه على أعمالنا القبيحة.

وهناك روايات واردة عن المعصومين (عليهم السلام) في باب المحاسبة، وذلك من قبيل:

1 ـ ما عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «ابن آدم! إنّك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك، وما كان الخوف لك شعاراً، والحزن لك دثاراً، ابن آدم! إنّك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي الله فأعدّ جواباً»(3).

قوله: «وما كان الخوف لك شعاراً، والحزن لك دثاراً» قد فسّر الشعار والدثار في اللغة بمعنى الثوب الداخلي والثوب الفوقاني؛ ولهذا يحتمل أن تكون الأصحّ النسخة التي وردت هكذا: «وما كان الخوف لك شعاراً، والحذر لك دثاراً»(4)؛وذلك لأنّ الخوف أمر باطني، فيناسب تشبيهه بالشعار، والحذر أمر ظاهري، فيناسب تشبيهه بالدثار، في حين أنّ الخوف والحزن من هذه الناحية سيّان، فلا تُرى نكتةٌ في جعل الأوّل شعاراً والثاني دثاراً.


(1) السورة 21، الانبياء، الآية: 47.
(2) السورة 31، لقمان، الآية: 16.
(3) الوسائل 16/96، الباب 96 من جهاد النفس، الحديث 3.
(4) البحار 78/137 نقلاً عن تحف العقول.
4

2 ـ ما عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) (1) قال: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه وتاب إليه»(2).

3 ـ ما رُوِيَ عن رسول الله (صلى الله عليه و آله): أنّه قال لأبي ذرّ: «يا أبا ذرّ حاسب نفسك قبل أن تحاسَب، فإنّه أهون لحسابك غداً، وزِن نفسك قبل أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية... يا أبا ذرّ لا يكون الرجل من المتّقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك لشريكه، فيعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حلال أم من حرام؟ يا أبا ذرّ من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار»(3).

وقد ورد في هذا الحديث الأمر بعناوين ثلاثة: محاسبة النفس قبل أن تحاسَب، ووزن النفس قبل أن توزن، والتجهّز للعرض الأكبر الذي سوف يكون في الآخرة على من لا تخفى عليه خافية.

وهذه العناوين الثلاثة وإن كانت مترابطة، ولكن الظاهر وجود فَرق بينها، فكأنّ المقصود بالمحاسبة: محاسبة ما صدرت عن النفس من الأعمال؛ لكي يعرف الخير منها من الشرّ. والمقصود بالموازنة: الموازنة بين واقع ما وصلت إليه النفس من المستوى في هذا الحين، وما ينبغي أن تصل إليه؛ كي يعرف مدى ماهو عليه من النقص. والمقصود بالتجهّز للعرض الأكبر: ما ينبغي أن يكون نتيجة المحاسبة والموازنة من تدارك ما فات وإكمال النقائص.

والمحاسبة من أشدّ الأُمور على النفس، ومنشأ الشدّة واضح، وهو: وحدة المحاسِب والمحاسَب، فمن السهل أن يحاسب شخص شخصاً، ولكن إذا اتّحد المحاسِب والمحاسَب يصعب حصول المحاسبة؛ ولذا ترى أنّ من يوفّق من المؤمنين للمحاسبة قليلون، وهم من خلّص العباد.

صحيح أنّنا نقول: إنّ العقل يحاسب النفس، والعقل غير النفس، ولكنّ الواقع: أنّ المغايرة بين العقل والنفس إن هي إلّا أمراً تحليليّاً بحتاً، أمّا بحسب الوجود الخارجي فالنفس في وحدتها كلّ القوى، فواقع الأمر: أن النفس هي تحاسب نفسها، فكيف يمكن ذلك؟!


(1) الظاهر: أنّ المقصود موسى بن جعفر.
(2) الوسائل 16/95، الباب 96 من جهاد النفس، الحديث 1.
(3) نفس المصدر السابق: ص98، الحديث 7.
5

وهذه المشكلة ليس لها إلّا أحد حلّين:

الحلّ الأوّل ـ أن يستفاد من النفس في حالة صحوها؛ لمحاسبة النفس بلحاظ حالة سباتها وضعفها.

وتوضيح ذلك: أنّ النفس لا تبتلي بالمعصية إلّا نتيجة السبات والضعف أمام المغريات، وبعد ذلك قد تنتقل إلى شيء من الصحوة والعافية لأحد أسباب ثلاثة:

1 ـ إنّه بعد أن ارتكبت ما دعت إليه الشهوة خمدت الشهوة بسبب إشباعها، فهنا قد يأتي دور الصحو ولو نسبياً؛ لأجل خمود الشهوة، وكأنّ هذا هو المعنيّ بالحديث المروي عن الصادق (عليه السلام): «قيل له: أيزني الزاني وهو مؤمن؟ فقال: لا إذا كان على بطنها سُلِبَ الإيمان منه، فإذا قام رُدّ عليه...»(1).

ويلحق بذلك خمود الشهوة بأسباب أُخرى: كضعف المزاج صحيّاً، أو الشيب، أو غير ذلك. فقد يوجب ذلك إدراك دور الصحو.

2 ـ إنّ المغريات التي ضعفت النفس أمامها قد تزول أو تخفّ، فقد يدرك النفس ـ عندئذ ـ دور الصحو ولو نسبياً.

3 ـ إنّ النفس قد تتقوّى ببعض المقوّيات: من سماع وعظ واعظ، أو قراءة قرآن، أو التفكير بالعواقب، أو غير ذلك.

فبأيّ سبب من هذه الأسباب حينما يدرك الإنسان الصحو ولو نسبيّاً ينبغي له أن يغتنم ذلك فرصة لمحاسبة نفسه على ما صَدر عنها في وقت السبات والغفلة والطغيان كما ويجب عليه إيجاد أسباب الصحو بقدر الإمكان بالطرق المباحة حينما لم توجد بذاتها.

والحلّ الثاني ـ ما يتعيّن الالتجاء إليه بالنسبة لمن عجز عن الاستفادة من الحلّ الأولّ، وهو: أن يعيّن شخصاً آخر لمراقبته ومحاسبته، كي يكون المحاسِب غير المحاسَب حتى يصبح الحساب ممكناً.


(1) الوسائل 20/312، الباب. من النكاح المحرم، الحديث 17.
6

ثُمّ إنّ المحاسبة لا تختصّ بالعُصاة كي يتصوّر أنّ العُدول مستغنون عنها؛ وذلك لأنّ مراتب العرفان لا تنتهي، وعقاب العارفين على ذنوبهم العرفانية ربّما لا يقلّ في إحساساتهم عن عقاب العاصين على معاصيهم، فالعارف الذي يُعاقب بحرمانه لذّة المناجاة مثلاً، أو حرمانه لبعض درجات تلك اللّذة قد يحسّ بألم هذا العقاب أكثر من ألم العاصي باحتراقه بخوف النار، إذن فمهما يبلغ العارف في مراتب سلوكه التي لا تتناهى المقامات الراقية لا يستغني عن محاسبة نفسه في سبيل نيل المقامات التي هي أعلى من ذلك والنجاة من العقاب الذي قد يراه في مستواه أعلى ممّا يراه العاصي من العقاب في مستواه. وأنت لو نظرت إلى لغة العارفين لأحسست بشدّة احتراقهم بالمجازاة العرفانية التي تفوق على تألّم العاصين من استحقاقهم للنار، فمثلاً لو كان الإعراض عن اللغو بشكل مطلق ـ الذي جعل في ظاهر الآية المباركة وصفاً للمؤمنين(1) ـ من الواجبات العرفانية لا الواجبات الفقهيّة، وافترضنا أنّه غير ذي أهميّة قصوى ما دام هو غير واجب فقهيّاً، فبالله عليك ألا تتذوّق شدّة الاحتراق والتألّم إلى حدٍّ لا يوصف على فرضية صدور هذا الذنب العرفاني ممّا ورد في دعاء أبي حمزة: «... أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني...»؟! ولو لم يكن فقدان لذّة المناجاة أشدّ على العارفين من حرقة ذكر النار على العاصين فماذا تفهم من الفقرة الواردة في دعاء أبي حمزة من قوله:

«... اللّهمّ إنّي كلّما قلت قد تهيّأت وتعبّأت وقمت للصلاة بين يديك وناجيتك ألقيتَ عليَّ نعاساً إذا أنا صلّيت، وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت، ما لي كلّما قلت قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوّابين مجلسي، عرضت لي بليّة أزالت قدمي، وحالت بيني وبين خدمتك، سيّدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيّتني، أو لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلّك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني، أو لعلّك لم تحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلّك بقلّة حيائي منك جازيتني... »(1)؟!


(1) راجع السورة 23، المؤمنون، الآيات. ـ 3.
(2) مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.
7

هكذا نتعلّم من هذه الأدعية المباركة لغة محاسبة النفس الصادقة رغم وحدة التعبير لدى صدورها عن العاصين، ولدى صدورها عن المتقين العارفين، وبشتّى مستويات العرفان غير المتناهية، وفي كلّ مرتبة من المراتب تعطي هذه الكلمات المعنى المناسب لتلك المرتبة. وسلام الله على أهل بيت يكون كلامهم دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.

ولنختم حديثنا عن المحاسبة بالكلام حول ما قيل في تشخيص موقعية المحاسبة والأُمور المرتبطة بها: من أنّه لابدّ من المرابطة مع النفس أوّلاً بالمشارطة، ثُمّ بالمراقبة، ثُمّ بالمحاسبة، ثُمّ بالمعاقبة، ثُمّ بالمجاهدة، ثُمّ بالمعاتبة، وأصلها: هو المحاسبة، ولكنّ الحساب يكون بعد المشارطة والمراقبة، وتتبعه عند الخسران معاتبة ومعاقبة(1).

ونحن لا نقبل من هذا الكلام فرضيّة الترتّب بين المعاقبة والمعاتبة وكون الثانية متأخرة من الأُولى بدرجتين، بل هما في عرض واحد. وبعد هذا الاستثناء نتكلّم بشكل مختصر عن هذه المراتب بالشكل الذي نراه صحيحاً، وليس يطابق بالضرورة تطابقاً كاملاً لما قاله الغزالي في شرح ذلك. فنقول:

أوّلاً ـ المشارطة:

فعمر الإنسان رأس ماله الحقيقي يضعه الإنسان أمانة بيد نفسه، ونفسه أمارة بالسوء، ولو غفل الإنسان عنها لفرّطت النفس بهذا المال، فعليه أن يشارط نفسه كلّ يوم مرّة في الأقلّ أو كلّ يوم وليلة مرّتين: بأن يأخذ على نفسه في أوّل النهار وفي أوّل الليل أن لا يتصرّف في رأس المال هذا إلّا في كذا وكذا من الأُمور، فانّ ساعات عمره خزائن من الأموال والمجوهرات مودعة لديه من قبل الله تعالى، وخسرانها يوجب الحسرات الشديدة.


(1) راجع المحجة 8/150، والإحياء 4/362.
8

وقد ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه و آله): «أنّه يُفتح للعبد يوم القيامة على كلّ يوم من أيام عمره أربعة وعشرون خزانة عدد ساعات الليل والنهار، فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وزّع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، وهي: الساعة التي أطاع فيها ربّه، ثُمّ يُفتح له خزانة أُخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسّم على أهل الجنّة لنغّص عليهم نعيمها، وهي: الساعة التي عصى فيها ربّه، ثُمّ يُفتح له خزانة أُخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يسرّه ولا ما يسوؤه، وهي: الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف على فواتها حيث كان متمكناً من أن يملأها حسنات ما لا يوصف، ومن هذا قوله تعالى: ﴿... ذلك يوم التغابن﴾(1)».

ثانياً ـ المراقبة:

فمجرد المشارطة مع النفس لا تكفي؛ لأنّ النفس قد تخون الشرط، فلابدّ من مراقبتها في حالتين:

1 ـ حالة ما قبل العمل؛ كي يتأكّد من الدافع الذي دفعه إلى العمل؛ لأنّ النفس خدّاعة تخدع نفسها، فقد يغفل الإنسان عن دافعه الحقيقي، أو إنّ الدافع يكون في الحقيقة مركّباً من الدافع الإلهي وغيره، فيغفل عن الجزء الثاني، وينسب إلى نفسه الإخلاص.

2 ـ وحالة العمل؛ كي يتأكد من صحته وعدم الانحراف فيه وعدم الانصراف عنه إن كان عملاً صالحاً.

والمراقبة قد تُفسَّر بأحد تفسيرين:

الأوّل ـ مراقبة الإنسان نفسه سواءٌ قبل العمل أو حين العمل كما أشرنا إليه؛ كي لا يخطأ.

والثاني ـ ملاحظة الرقيب، وهو: الله تعالى، فإنّه سبحانه وتعالى يراقبنا في كلّ حال، وقد قال الله تعالى:


(1) السورة 64، التغابن، الآية: 9، وأمّا الرواية فهي واردة في البحار. / 262، وتتّضح ممّا في ذيل هذه الرواية ـ من أنّ فتح الخزانة الثالثة الخالية يورث من الغبن والأسف ما لا يوصف ـ عدّة أُمور، منها:.. أولاً ـ فضيلة كبيرة لشهر رمضان المبارك بناءً على ما ورد في خطبة مرويّة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قوله: «... أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة...» فإنّ هذا يعني: أنّ الخزانة الثالثة الخالية لا توجد للمؤمن في شهر رمضان؛ إذ لا أقلّ من نوم أو تنفّس فيها، وكلتاهما تحسبان عبادة، وهذا أحد معاني ما ورد في نفس تلك الخطبة: من أنّ شهر رمضان شهر ضيافة الله. راجع متن الخطبة في البحار: 96/356 ـ 358... ثانياً ـ أهمّية ترك اللغو الوارد في قوله تعالى في سورة 23 المؤمنون ﴿... والذين هم عن اللغو معرضون﴾ وفي سورة 25 الفرقان ﴿... وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراما﴾. بناءً على شمولهما للغو المباح، فإنّ ذلك يوجب فتح الخزانة الثالثة المورثة من الغبن والأسف ما لا يوصف... ثالثاً ـ عظمة الكلام المرويّ عن الرسول (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ كما ورد في البحار 77. 82: «... يا أبا ذرّ ليكن لك في كلّ شيء نيّة حتى في النوم والأكل...» فإنّ من فعل ذلك لم تُفتح له خزانة ثالثة.
9

1 ـ ﴿إن الله كان عليكم رقيبا﴾(21).

2 ـ ﴿ألم يعلم بأن الله يرى﴾(22).

وعن رسول الله (صلى الله عليه و آله) أنّه قال لأبي ذرّ: «... يا أبا ذرّ اعبدالله كأنّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك...»(23).

وتقسّم هذه الملاحظة إلى درجتين:

الأُولى ـ مراقبة المقرّبين، وهي: مراقبة التعظيم والإجلال، وهي: أن يصير القلب مستغرقاً بملاحظة ذلك الجلال ومنكسراً تحت الهيبة، فلا يبقى فيه متسع للالتفات إلى غيره.

والثانية ـ مراقبة الورعين من أصحاب اليمين، وهم: قوم غلب يقين اطّلاع الله على ظواهرهم وبواطنهم على قلوبهم، ولكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال والجمال، بل بقيت قلوبهم على حدّ الاعتدال متّسعة للتلفّت إلى الأحوال والأعمال، إلّا أنّها مع ممارسة الأعمال لا تخلو عن المراقبة فيها، نعم غلب عليهم الحياء من الله تعالى فلا يُقدمون ولا يحجمون إلّا بعد التثبّت فيه.

ويُعرف اختلاف الدرجتين بملاحظة المراقبين الاعتياديين من الآدميين، فإنّك في خلواتك قد تتعاطى أعمالاً، ويدخل عليك ملِك من الملوك أو كبير من الأكابر فيستغرقك التعظيم حتى تترك كلّ ما أنت فيه شغلاً به لاحياءً منه، وربّما لايدخل عليك كبير من هذا النمط، بل يحضرك صبيّ أو إنسان عاديّ، فتعلم أنّه مطّلع عليك، فتستحي منه، فتحسن جلوسك وتراعي أحوالك لا عن إجلال وتعظيم بل عن حياء، فإنّ مشاهدته وإن كانت لا تدهشك ولا تستغرقك، ولكنّها تهيّج الحياء منك.

فعلينا أن نراقب الله سبحانه وتعالى ـ في الأقلّ ـ بقدر مراقبتنا للصغير أو للإنسان الاعتيادي، ونستحي منه ـ في الأقلّ ـ بقدر حيائنا من الصغير أو الإنسان الاعتيادي: «فلو اطّلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنّك أهون الناظرين إليّ وأخفّ المطّلعين عليّ، بل لأنّك ياربّ خير الساترين، وأحكم الحاكمين، واكرم الأكرمين، ستّار العيوب، غفّار الذنوب، علاّم الغيوب، تستر الذنب بكرمك، وتؤخّر العقوبة بحلمك...»(4).


(1) السورة 4، النساء، الآية: 1.
(2) السورة 96، العلق، الآية: 14.
(3) البحار 77/74.
(4) مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.
10

وقد ورد في الحديث عن مولانا زين العابدين (عليه السلام): أنّه حينما اختلت امرأة العزيز بيوسف «قامت امرأة العزيز إلى الصنم، فألقت عليه ثوباً، فقال لها يوسف: ما هذا؟ فقالت: أستحي من الصنم أن يرانا، فقال لها يوسف: أتستحيين من لايسمع ولا يبصر ولا يفقه ولا يأكل ولا يشرب، ولا أستحي أنا ممّن خلق الإنسان وعلّمه»؟!(1).

«وحُكي عن بعض الأحداث أنّه راود جارية عن نفسها ليلاً، فقالت: ألا تستحي؟! فقال: ممّن أستحي وما يرانا إلّا الكواكب، فقالت: وأين مكوكبها؟!»(2).

ثالثاً ـ المحاسبة:

وهذا ما يكون آخر النهار وآخر الليل كما كانت المشارطة أوّل النهار وأوّل الليل، فإنّ رأى الإنسان بعد محاسبة النفس أنّها قد عملت بالوظيفة شكر الله على ذلك واستزاد الله في ذلك، وإن رأى التقصير تاب وتداركما مضى.

رابعاً ـ المعاتبة والمعاقبة:

فيما لو تبيّن له تقصير النفس في أداء الوظيفة، فلو ظهر أنّ النفس قد قصّرت فيما شرط عليها ينبغي للإنسان أن يوبّخها ويعاتبها، وأن يؤدّبها ببعض العقوبات.


(1) البحار 12/266.(2) المحجة. / 156.
11

وقد رُوي عن ليث بن أبي سليم(1) قال: «سمعت رجلاً من الأنصار يقول: بينما رسول الله (صلى الله عليه و آله) مستظلّ بظلّ شجرة في يوم شديد الحرّ إذ جاء رجل ينزع ثيابه، ثُمّ جعل يتمرّغ في الرمضاء يكوي ظهره مرّة وبطنه مرّة وجبهته مرّة، ويقول: يا نفس ذوقي فما عند الله أعظم ممّا صنعتُ بكِ، ورسول الله (صلى الله عليه و آله) ينظر إلى ما يصنع، ثُمّ إنّ الرجل لبس ثيابه، ثُمّ أقبل فأومأ إليه النبي (صلى الله عليه و آله) بيده ودعاه، فقال له: يا عبدالله لقد رأيتك صنعت شيئاً ما رأيت أحداً من الناس صنعه، فما حملك على ما صنعت؟ فقال الرجل: حملني على ذلك مخافة الله، وقلت لنفسي: يانفس ذوقي فما عند الله أعظم ممّا صنعتُ بكِ، فقال النبي (صلى الله عليه و آله): لقد خفت ربّك حقّ مخافته، وإنّ ربّك ليباهي بك أهل السماء، ثُمّ قال لأصحابه: يا معشر من حضر ادنوا من صاحبكم حتى يدعو لكم، فدنوا منه، فدعا لهم وقال: اللّهمّ اجمع أمرنا على الهدى، واجعل التقوى زادنا، والجنّة مآبنا».

وخامساً ـ المجاهدة:

فبعد أن رأى الإنسان من نفسه التقصير ينبغي له أن يجاهد نفسه بتدارك ما فات وبالاستزادة فيما يأتي ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾(2).

وعن مصباح الشريعة عن الصادق (عليه السلام): « طوبى لعبد جاهد لله نفسه وهواه...»(3).

وفي الختام نشير إلى كلمة جليلة حول المشارطة والمراقبة والمحاسبة للسيد الإمام الخميني (رحمه الله) (4)، وهي بتلخيص: أنّه بإمكانك أن تلحظ يوماً واحداً، وتشارط نفسك في أوّله على عدم إرتكاب ما يخالف أوامر الله، وتتّخذ قراراً وعزماً بذلك؛ إذ من الواضح: أنّ ترك ما يخالف أوامر الله ليوم واحد أمر يسير للغاية، فيسهل العزم عليه ومشارطة النفس به، وعليك بالتجربة كي تراه سهلاً يسيراً، ثُمّ تراقب نفسك في ذلك اليوم على عدم نكثها للشرط، ثُمّ تحاسب نفسك في آخر اليوم على ما حصل في ذلكاليوم، فإن كنت قد وفيت حقّاً بالشرط فاشكر الله على هذا التوفيق، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، فواظب على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحوّل ذلك إلى ملكة فيك بحيث يصبح هذا العمل بالنسبة لك سهلاً ويسيراً في الغاية، وستحسّ عندها باللَّذة والأُنس في طاعة الله وترك معاصيه، وإذا حدث ـ لا سمح الله ـ في أثناء النهار تهاون حول العمل بالشرط تستغفر الله، وتعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً.


(1) المحجة 7/308 ـ 309.
(2) السورة 29، العنكبوت، الآية: 69.
(3) المحجة 8/170.
(4) الأربعون حديثاً: 26 ـ 27، ذيل الحديث الأول.