1

أقسام الأراضي وحكم ملكيتها

القسم الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ هذه الدراسة تناولت أحد البحوث المهمّة في فقهنا الإسلامي وهو بحث الأراضي وأقسامها وما يتعلّق بها من أحكام كالملكية وتحديد الأثر المترتّب على إحياء الأراضي الموات هل هو الملكية أو لا؟ وقد عالج هذا القسم من هذه الدراسة حکم ملکية الأراضي الموات بالأصالة..

ثُمّ شرع (رحمه الله) في هذا البحث بتقسيم الأرض إلى أربعة أقسام: لأنّها إمّا موات وإمّا عامرة، وكلّ منهما إمّا أن يكون كذلك أصليّة أو عرض لها ذلك، فالأقسام أربعة لا خامس لها(3). ثمّ بدأ (رحمه الله) بشرح أحكام هذه الأقسام:

القسم الأوّل: ما يكون مواتاً بالأصالة بأن لم تكن مسبوقة بعمارة.

ولا إشكال ولا خلاف منّا في كونها للإمام (ع)، والإجماع عليه محكيّ عن الخلاف والغنية وجامع المقاصد والمسالك وظاهر جماعة اُخرى، والنصوص بذلك مستفيضة، بل قيل: إنّها متواترة(4).

موقف السيد الخوئي (رحمه الله):

وأفاد السيّد الخوئيّ (رحمه الله) بحسب ما ورد في التنقيح(5): أنّه لا إشكال ولا خلاف في أصل الحكم، وهو أنّ الأرض الموات بالأصالة للإمام؛ فإنّ هذا من الأمر المتسالم عليه لدى فقهاء الإماميّة، ولكنّه استشكل (قدس‏ سره) في دعوى استفاضة الروايات الدالّة على ذلك أو تواترها؛ ببيان أنّه إن كان المقصود بتلك الروايات هي روايات «كلّ أرض خربة» ـ من قبيل عدد من روايات الباب الأوّل من الأنفال من الوسائل(6)ـ أو روايات «الأرض كلّها للإمام» وهي صحيحة أبي سيّار(7)وصحيحة أبي خالد الكابليّ(8)فهي وإن كانت كثيرة إلا أنّها خارجة عن محلّ الكلام؛ لأنّ المراد من الأوّل ما تكون عامرة ثمّ خربت، وبديهيّ أنّ محلّ كلامنا هو موات الأرض بالأصالة، والثاني أيضاً خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّه لا شكّ ولا شبهة في كون الأرض والسماء وجميع ما خلق الله لهم (عليهم ‏السلام)، ولكن كلامنا في خصوص موتان الأرض، فلا تبقى إلا روايات قلائل دالّة على المقصود. وأين هذه من الاستفاضة؟!

مناقشة رؤية السيد الخوئي (رحمه الله):

أوّلاً: إنّ حمل روايات «الأرض كلّها لنا» على المعنى الذي يكون كلّ ما خلق الله من الدنيا لهم بذاك المعنى غريب وخلاف الظاهر بلا إشكال، فظاهرها هو أنّ الأرض كلّها من الأنفال، وهي بإطلاقها تشمل الموات.

نعم، لا شكّ أنّ جميع ما خلق الله من الدنيا ملك لهم (عليهم ‏السلام) بمعنى آخر للإمام، وقد وردت بذلك عدد من الروايات غير تامّة سنداً، وهذه الروايات مذكورة في اُصول الكافي(9). ولكن قياس صحيحتي أبي سيّار وأبي خالد الكابليّ بتلك الروايات ليس في محلّه.

وإن شئت تلك الروايات فنحن ننقلها من اُصول الكافي، وهي ما يلي:

1 ـ رواية أحمد بن محمّد بن عبدالله عمّن رواه، قال: «الدنيا وما فيها لله تبارك وتعالى ولرسوله ولنا، فمن غلب على شيء منها فليتّق الله وليؤدّ حقّ الله تبارك وتعالى وليبرّ إخوانه، فإن لم يفعل ذلك فالله ورسوله ونحن براء منه»(10).

2 ـ رواية أبي بصير عن أبي عبدالله (ع) قال: قلت له: أما على الإمام زكاة؟ فقال: «أحلت يا أبا محمّد؟! أما علمت أنّ الدنيا والآخرة للإمام يضعها إلى من يشاء جائز له ذلك من الله...»(11).

3 ـ رواية محمّد بن الريّان قال: كتبت إلى العسكريّ (ع): جعلت فداك روي لنا أن ليس لرسول الله (ص) من الدنيا إلّا الخمس. فجاء الجواب: «إنّ الدنيا وما عليها لرسول الله (ص)»(12).

4 ـ رواية جابر عن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله (ص): «خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم (ع) فلرسول الله (ص)، وما كان لرسول الله فهو للأئمّة من آل محمّد (عليهم ‏السلام)»(13).

وحمل صحيحتي أبي سيّار وأبي خالد على هذا المعنى لا موجب له، ولعلّ حشر الكلينيّ (رحمه الله) لهذه الروايات الصحيحتين في باب واحد ـ وهو باب (أنّ الأرض كلّها للإمام) ـ أوحى إلى ذهن السيّد الخوئيّ (رحمه الله) حملها على ذلك.

وأمّا ما هي الروايات الآحاد التي أشار إليها السيّد الخوئيّ (رحمه الله) الدالّة على كون موات الأرض من الأنفال؟ فالمشار إليه في الكتاب لا يناسب مقام السيّد الخوئيّ، فنحن نضرب صفحاً عن نقل ما في الكتاب، وبإمكانك أن تراجعه.

ونذكر نحن ما يمكن قبول دلالته على كون موات الأرض من الأنفال بعد فرض عدم دلالة روايات الأرض الخربة وبطون الأودية(14)، وهي روايات عديدة من قبيل:

1 ـ مرسلة حمّاد عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح المشتملة على قوله: «وله رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكلّ أرض ميّتة لا ربّ لها»(15).

2 ـ مرسلة المقنعة عن محمّد بن مسلم وفيها: «وبطون الأودية ورؤوس الجبال»(16)، فلو شككنا في شمول بطون الأودية على الميتة فلا شكّ أنّ رؤوس الجبال عادة من الموات.

3 ـ مرسلة العيّاشي عن أبي بصير عن أبي جعفر(ع) قال: «لنا الأنفال». قلت: وما الأنفال؟ قال: «منها المعادن والآجام وكلّ أرض لا ربّ لها وكلّ أرض باد أهلها فهو لنا»(17). والموات الأصليّة تعتبر أرضاً لا ربّ لها.

4 ـ ما رواه الشيخ الطوسيّ (رحمه الله) بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حمّاد عن شعيب عن أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن شراء الأرضين من أهل الذمّة. فقال: «لا بأس بأن يشتري منهم إذا عملوها وأحيوها فهي لهم، وقد كان رسول الله (ص) حين ظهر على خيبر وفيها اليهود خارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمّرونها»(18).

وجه الاستدلال بذلك هو: أنّ الإمام (ع) استشهد لصحّة شراء الأرضين من أهل الذمّة بفعل رسول الله (ص) مع أهل خيبر فيما عملوها وأحيوها. ونحن لا نشكّ في أنّ أرض خيبر كانت من الأنفال. فهذا معناه أنّ الأرضين التي تشترى من أهل الذمّة بعد أن عملوها وأحيوها تعتبر من الأنفال، وهذا لا يكون إلّا إذا فرضت الأرضون الموات من الأنفال.

وأمّا سند الحديث فتامّ؛ لأنّ شعيباً هنا هو شعيب بن يعقوب العقرقوفي، والدليل على ذلك أنّ حمّاد بن عيسى راوٍ لكتابه، وهو ابن اخت أبي بصير يحيى ابن القاسم. وهو ثقة عين لا غبار عليه.

ولو فرضنا عدم الجزم بكونه العقرقوفي فالشخصان المعروفان في هذه الطبقة عبارة عن شعيب بن يعقوب العقرقوفي وشعيب بن أعين الحدّاد وكلاهما ثقة.

5 ـ صحيحة عمر بن يزيد، قال: سمعت رجلاً من أهل الجبل يسأل أبا عبد الله(ع) عن رجل أخذ أرضاً مواتاً تركها أهلها فعمّرها وكرى أنهارها وبنى فيها بيوتاً وغرس فيها نخلاً وشجراً؟ قال: فقال أبو عبدالله (ع): «كان أمير المؤمنين (ع) يقول: من أحيى أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤدّيه إلى الإمام في حال الهدنة، فإذا ظهر القائم فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه»(19).

وقوله: «من أحيى أرضاً» يشمل بإطلاقه الموات الأصليّة، وثبوت الطسق عليه وتوطين نفسه على أن تؤخذ منه لدى ظهور القائم (عج) دليل على كونها من الأنفال.

وعلى أيّ حال فبعد فرض عدم قبول دلالة روايات الأرض الخربة وعنوان بطون الأودية على المقصود تنحصر الروايات في مثل هذه الروايات الخمس، والصحيح سنداً منها منحصر في الرواية الرابعة والخامسة.

وبعد، فإنّي لا أشكّ في صحّة ما ادّعاه الشيخ الأنصاريّ (رحمه الله) من استفاضة الروايات الدالّة على أنّ الموات الأصليّ للإمام؛ وذلك بضمّ روايات الأرض الخربة والتي يوجد أكثرها في الباب. من الأنفال من الوسائل إلى مثل الروايات الماضية وإلى روايتي (الأرض كلّها لنا) اللتين مضت الإشارة إليهما(20).

ثانياً: وأمّا ما أفاده السيّد الخوئيّ (رحمه الله) من أنّ المقصود بها ما تكون عامرة ثمّ خربت لا الموات الأصليّ من الأرض(21)فهو وإن كان صحيحاً ولكنّ العرف يتعدّى من الأرض الخربة إلى الموات الأصليّ الذي لا ربّ له، ولا يحتمل اختصاص امتلاك الإمام بالأرض الخربة أو التي باد أهلها دون الموات الأصليّ الذي لا ربّ له.

ولا بأس بأن أذكر هنا عين النصّ لصحيحتي أبي سيّار والكابليّ:

أمّا صحيحة أبي سيّار فقد روى في الوسائل عن الشيخ بسند تامّ عن أبي سيّار مسمع بن عبد الملك قال: قلت لأبي عبدالله (ع): إنّي كنت وُلّيت الغوص فأصبت أربعمئة ألف درهم، وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم، وكرهت أن أحبسها عنك وأعرض لها، وهي حقّك الذي جعل الله تعالى لك في أموالنا. فقال: «وما لنا من الأرض وما أخرج الله منها إلّا الخمس؟! يا أبا سيّار الأرض كلّها لنا، فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا. قال: قلت له: أنا أحمل إليك المال كلّه. فقال لي: يا أبا سيّار قد طيّبناه لك وحلّلناك منه، فضمّ إليك مالك وكلّ ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محلّلون ومحلّل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا، فيجيبهم طسق ما كان في أيدي سواهم؛ فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتّى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم منها صغرة»(22).

وذيل الحديث باد عليه التشويش؛ إذ ما معنى جبايتهم طسق ما كان في أيدي سواهم؟!

والذي يرفع التشويش ما في نسخة الكافي التي وردت فيها عبارة ساقطة عن وسط هذا التعبير، فقد روى في الوسائل عن الكافي نفس الحديث بفرق أنّه قال: إنّي كنت وُلّيت البحرين الغوص... ثمّ قال في آخره: «فيجبهم في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم، وأمّا ما كان في أيدي غيرهم فإنّ كسبهم من الأرض حرام...»(23).

وأمّا صحيحة الكابليّ فهي ما ورد في الوسائل بسند تامّ عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر(ع) قال: وجدنا في كتاب عليّ (ع): {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(24)أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض ونحن المتّقون والأرض كلّها لنا، فمن أحيى أرضاً من المسلمين فيعمّرها وليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها، فإن تركها وأخربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمّرها وأحياها فهو أحقّ بها من الذي تركها، فليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها حتّى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول الله (ص) ومنعها إلّا ما كان في أيدي شيعتنا فإنّه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم»(25).

ويشهد لما قلناه من أنّ هاتين الصحيحتين ناظرتان إلى مسألة الأنفال، لا إلى ما تنظر إليه الروايات الأربع التي نقلناها عن الكافي من مملوكيّة الدنيا بأجمعها للإمام ما ورد في خصوص هاتين الصحيحتين على كون الأرض كلّها لهم (عليهم ‏السلام).

وثاقة أبي خالد الكابلي:

يبقى الكلام في أنّنا كيف نثبت وثاقة أبي خالد الكابليّ الراوي لهذه الرواية؟ فنقول:

وجه وثاقته رواية صفوان بن يحيى عنه، وهو أحد الثلاثة الذين لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة.

فقد روى حمدويه بن نصير قال: حدّثنا أيّوب عن محمّد بن الفضل وصفوان عن أبي خالد القمّاط عن حمران قال: قلت لأبي جعفر(ع):...(26).

وأيضاً روى محمّد بن يعقوب عن أبي عليّ الأشعريّ عن محمّد بن عبد الجبّار وعن أبي العبّاس الرزّاز عن أيّوب بن نوح وعن حميد بن زياد عن صفوان عن أبي خالد القمّاط قال: قلت لأبي عبدالله (ع):...(27).

ونحن نعلم أنّ أبا خالد القمّاط هو أبو خالد الكابليّ المسمّى (كنكر)؛ لأنّ الشيخ قال في الكنى من الفهرست: «أبو خالد القمّاط له كتاب، وقال ابن عقدة: اسمه كنكر...»(28). وقد عدّ الشيخ في رجاله كنكر في أصحاب عليّ بن الحسين (ع) قائلاً: «كنكر يكنّ أبا خالد الكابليّ. وقيل: اسمه وردان»(29).

وإلى هنا ثبت أنّ كنكر كان من أصحاب الإمام عليّ بن الحسين (ع)، واستمرّ ـ على الأقلّ ـ إلى زمان الإمام الصادق (ع) كما أنّ الشيخ ذكر كنكر أبا خالد القمّاط الكوفي في أصحاب الإمام الصادق (ع)(30)، وهو ثقة لرواية صفوان عنه.

ولكن هناك مشكلة تنشأ من أنّ الشيخ (رحمه الله) فرض شخصاً آخر أيضاً بعنوان أبي خالد الكابليّ الأصغر اسمه وردان روى عنهما ـ أي: عن الإمامين الباقر والصادق (عليهماالسلام) ـ قال (رحمه الله): «والأكبر كنكر»(31).

إذن فالأكبر ـ وهو القمّاط وهو كنكر ـ كان من أصحاب الامام عليّ بن الحسين (ع) واستمرّ إلى زمان الامام الصادق (ع)، والأصغر روى عن الإمامين الباقر والصادق (عليهماالسلام)، ولا دليل على وثاقة الأصغر.

وبما أنّ أبا خالد الكابليّ روى رواية «الأرض كلّها لنا» عن الامام الباقر(ع) فهو مردّد بين الأكبر والأصغر. أو قل: بين كنكر ووردان، فهذا يؤكّد ضعف سند الرواية.

والحلّ: هو أنّنا إن جزمنا بوحدة كنكر ووردان ولم نفترض أكبر وأصغر كما قال بذلك فضل بن شاذان حيث ذكر: «أنّ اسمه وردان ولقبه كنكر»(32)فقد انتهت المشكلة. وإلّا فقد أفد السيّد الخوئيّ (رحمه الله) أنّه لا شكّ في أنّ المنصرف من أبي خالد الكابليّ هو كنكر؛ فإنّه هو المشهور المعروف الذي كان له كتاب(33). فأيضاً انتهت المشكلة.

وهنا عدّة مسائل:

المسألة الاُولى: هل أنّ الأثر المترتّب على إحياء الأرض الموات من الملك أو حقّ الاختصاص خاصّ بالشيعيّ؟ أو يعمّ جميع المسلمين؟ أو يعمّ الكفّار أيضاً؟

مقتضى ما مضى من صحيحة الكابليّ هو أنّ هذا ثابت لجميع المسلمين.

وما دلّت عليه صحيحة أبي سيّار من حرمة كسب العامّة من الأرض قبل ظهور القائم (ع) محمول على الطسق واجب عليهم، وهم لا يدفعونه، والطسق إنّما حلّل قبل ظهور القائم للشيعة لا للسنّة، فالحرمة التكليفيّة للتعبير والإحياء بلا طسق ثابتة عليهم، وهذا لا ينافي حصول حقّ الاختصاص لهم بالتعمير والإحياء.

وكذلك يدلّ على عدم اختصاص الحكم بالشيعيّ ما مضى من صحيحة عمر ابن يزيد «كان أميرالمؤمنين (ع) يقول: من أحيى أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها...»(34)؛ فإنّ مصطلح استعمال كلمة المؤمن في الشيعيّ بالخصوص لم يكن في زمن أمير المؤمنين (ع). فقوله: «من المؤمنين» يشمل بإطلاقه جميع المسلمين.

بل إنّ بعض الروايات دلّت على ثبوت هذا الحقّ للكفّار أيضاً من قبيل: صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن الشراء من أرض اليهود والنصارى؟ فقال: «ليس به بأس قد ظهر رسول الله (ص) على أهل خيبر فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمّرونها، فلا أرى بها بأساً لو أنّك اشتريت منها شيئاً، وأيّ قوم أحيوا شيئاً من الأرض وعملوها فهو أحقّ بها وهي لهم»(35). وصحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن شراء الأرضين من أهل الذمّة؟ فقال: «لا بأس بأن يشتريها منهم إذا عملوها وأحيوها فهي لهم، وقد كان رسول الله (ص) حين ظهر على خيبر وفيها اليهود خارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها»(36).

المسألة الثانية: هل إنّ إحياء الموات يوجب الملكيّة أو يوجب الأحقّيّة؟

لقد نُسب إلى المشهور الرأي الأوّل(37). وقد يُستدلّ له ببعض الروايات، من قبيل: صحيحة الفضلاء السبعة: (زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير وفضيل وبكير وحمران وعبد الرحمن بن أبي عبدالله) عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهماالسلام) قالا: قال: «قال رسول الله (ص): من أحيى أرضاً مواتاً فهي له»(38)، وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: «قال رسول الله (ص): من أحيى مواتاً فهو له(39). وصحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (ع) قال: سُئل ـ وأنا حاضر ـ عن رجل أحيى أرضاً مواتاً، فكرى فيها نهراً وبنى بيوتاً وغرس نخلاً وشجراً؟ فقال: «هي له، وله أجر بيوتها...»(40).

وبعض الروايات ذكرت الأحقّيّة كصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال: «أيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عمروها فهم أحقّ بها»(41).

وقد جمعت عدد من الروايات بين التعبيرين، أي: التعبير (بأنّها له) والتعبير (بأنّه أحقّ بها) كصحيحة محمّد بن مسلم قال: سألته أبا عبدالله (ع) عن الشراء من أرض اليهود والنصارى قال: «ليس به بأس... ـ إلى أن قال: ـ وأيّ قوم أحيوا شيئاً من الأرض وعملوها فهو أحقّ بها وهي لهم»(42)، وصحيحته الاُخرى: سمعت أبا جعفر(ع) يقول: «أيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض وعمروها فهو أحقّ بها وهي لهم»(43).

فهل نحمل عنوان «هي له» على معنى عنوان «أحقّ بها» أو نحمل الثاني على الأوّل؟

الصحيح هو حمل عنوان «هي له» على عنوان الأحقّيّة دون العكس؛ وذلك:

أوّلاً: لما ورد في صحيحتي أبي سيّار(44)والكابليّ(45)من عنوان: «الأرض كلّها لنا» على ما وضحناه من أنّهما لا تُحملان على محمل عرفانيّ من ملكيّة جميع الدنيا للإمام، بل تُحملان على معنى الأنفال على الملكيّة الشرعيّة المألوفين في الفقه، وعندئذ إمّا يقال بأنّ هذه اللهجة آبية عن التخصيص أو يقال: إنّ كلمة «كلّ» تشمل المحياة بالعموم في حين أنّ دلالة اللام في عنوان «هي له» تدلّ على الملكيّة بالإطلاق، والعموم يقدّم على الإطلاق.

وثانياً: للتصريح في تلك الصحيحتين وصحيحة عمر بن يزيد(46)بثبوت حقّ الطسق والخراج على الأراضي المحياة وحقّ الإخراج من الأرض لدى ظهور القائم (عج).

وأفاد السيّد الخوئيّ (رحمه الله)(47)أنّه لا شكّ في أنّ الأرض الموات من الأنفال، فلو شككنا أنّها بالإحياء تُملَك وتخرج من كونها أنفالاً أو أنّه لا يوجد بشأنها إلا الأحقّيّة والأولويّة في مقابل غير المحيي وافترضنا عدم امتلاك دليل لفظيّ يُعيّن أحد الطرفين فالاستصحاب يقتضي عدم الملك فلابدّ من إحراز السبب الناقل عن ملكه (ع) إلى ملك المحيي.

المسألة الثالثة: لا إشكال في ثبوت الخراج على غير الشيعيّ حتّى قبل ظهور القائم (عج) حينما يحيي أرضاً ميتة؛ لصريح صحيحة الكابليّ(48)«من أحيى أرضاً من المسلمين فليعمّرها وليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها»، وكذلك صريح صحيحة عمر بن يزيد(49): كان أمير المؤمنين (ع) يقول: «من أحيى أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤدّيه إلى الإمام». وقد قلنا: إنّ المقصود بالمؤمنين في لسان أمير المؤمنين (ع) مطلق المسلمين.

وهذان الإطلاقان قد خرج منهما الشيعيّ قبل قيام القائم بالتخصيص بصحيحة أبي سيّار(50)وصحيحة الكابليّ(51).

المسألة الرابعة: هل يجوز بيع الأرض المحياة لمن أحياها وعمّرها، أو لا؟

أفاد السيّد الخوئيّ (رحمه الله): أنّ الظاهر أنّه لا إشكال في جواز بيعها رغم أنّ أرض الأنفال تبقى ملكاً للإمام (ع) ولا يملكها المحيي؛ وذلك لأنّ معنى بيع الأراضي الكذائيّة تبديل طرفي الإضافة الموجودة في البائع والمشتري بأن يكون للمشتري ما كان للبائع من الأحقّيّة من غيره، أي: أن يكون المشتري واجداً لتلك السلطنة التي كانت للبائع أو قل: إنّ المبيع هو العين من جهة الحقّ، وأمّا نفس الأرض فهي باقية في ملك الإمام (ع)(52). وقد أجاد فيما أفاد.

المسألة الخامسة: هل إنّ التحجير ملحق بالإحياء في إيجاد الملكيّة أو الأحقّيّة؟

الظاهر أنّنا لو قلنا بأنّ الإحياء يوجب الملك لروايات من أحيى أرضاً فهي له فمن الواضح أنّ تلك الروايات لا تشمل التحجير.

نعم، لا يبعد القول بأنّ التحجير الذي يكون مقدّمة للإحياء يوجب في الفهم العقلائيّ حقّ الأولويّة، فلا يجوز لشخص آخر أن يزاحمه، وأمّا لو كثر الفاصل الزمنيّ بين التحجير والإحياء أكثر من المقدار المألوف الذي يساعد عليه العقلاء فنفس العقلاء يحكمون بسقوط هذا الحقّ.


(1) إنّ هذه الدراسة في الأصل هي جزء من مجموعة بحوث کتبها سماحة السيد الاُستاذ كاظم الحائري شرحاً لکتاب المکاسب للشيخ الأنصاري.
(2) الأنصاري، مرتضی، کتاب المکاسب. المطبوع ضمن تراث الشيخ الأعظم )، مجمع الفکر الإسلامي ـ قم، ط. / 1380 هـ. ش، 4: 12.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق: 12 ـ 13.
(5) الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. ـ إيران، ط. / 1428 هـ، 37: 230 ـ 231.
(6) اُنظر: الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسّسة آل البيت (عليهم ‏السلام) لإحياء التراث ـ قم، ط. / 1412 هـ، 9: 523 ـ 534، ب. من الأنفال.
(7) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 9: 548، ب. من الأنفال، ح 12.
(8) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، 25: 414 ـ 415، ب. من إحياء الموات، ح..
(9) الكافي. الكليني. 1: 407 ـ 408، باب إنّ الأرض كلّها للإمام، ح. و. و. و..
(10) الکليني، محمّد بن يعقوب، الكافي، دار الکتب الإسلامية ـ طهران، ط. / 1388 هـ، 1: 408.
(11) المصدر السابق: 409.
(12) المصدر السابق.
(13) المصدر السابق.
(14) فرض عـدم دلالة «بطون الأودية» الواردة فـي صحيحة حفص بـن البختري ـ الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 9: 523، ب. من الأنفال، ح. ـ مبنيّ على افتراض دعوى انصرافها إلى المحياة.
(15) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائـل الشيعة 9: 524 ـ 525، ب. من الأنفال، ح..
(16) المصدر السابق: 532، ح 22.
(17) المصدر السابق: 533، ح 28.
(18) المصدر السابق 25: 416، ب. من إحياء الموات، ح..
(19) المصدر السابق 9: 549، ب. من الأنفال، ح 13.
(20) أي: صحيحة أبـي سيّـار. المـصـدر السـابـق: 548، ب. من الأنفـال، ح 12 [، وصحيحة الكابليّ. المصدر السابق: 414 ـ 415، ب. من إحياء الموات، ح. ].
(21) الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. 37: 231.
(22) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 9: 548، ب. من الأنفال، ح 12.
(23) المصدر السابق.
(24) الأعراف: 128.
(25) المصدر السابق 25: 414 ـ 415، ب. من إحياء الموات، ح..
(26) الطوسي، محمّد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال، مؤسّسة آل البيت ـ قم/ 1404هـ، 1: 37.
(27) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 22: 81، ب. من مقدّمات الطلاق، ح..
(28) الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، ط. / 1414 هـ. 1992 م، 15: 133.
(29) المصدر السابق.
(30) المصدر السابق.
(31) المصدر السابق.
(32) راجع: المصدر السابق: 137.
(33) المصدر السابق.
(34) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 9: 549، ب. من الأنفال، ح 13.
(35) المصدر السابق 15: 156، ب 71 من جهاد العدوّ، ح..
(36) المصدر السابق 25: 416، ب. من إحياء الموات، ح..
(37) الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. 37: 235.
(38) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 25: 412، ب. من إحياء الموات، ح..
(39) المصدر السابق: ح..
(40) المصدر السابـق: 412 ـ 413، ب. من إحيـاء الموات، ح.. ونحو هـذه الروايات رواية السكونيّ بسند فيه النوفليّ. المصدر السابق: 413، ب. من إحياء الموات، ح. ].
(41) المصدر السابق: 412، ح..
(42) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 15: 156، ب 71 من جهاد العدوّ، ح.. و 25: 411، ب. من إحياء الموات، ح 1، إلا أنّه أتى بها هنا مضمرة، أي: قال: «سألته».
(43) المصدر السابق 25: 412، ب. من إحياء الموات، ح.. ونحوها مرسلة الصدوق في المصدر السابق: ح..
(44) المصدر السابق 9: 548، ب. من الأنفال، ح 12.
(45) المصدر السابق 25: 414 ـ 415، ب. من إحياء الموات، ح..
(46) المصدر السابق 9: 549، ب. من الأنفال، ح 13.
(47) الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. 37: 236.
(48) مضت الإشارة إلى مصادرها في المسألة الثانية تحت الخطّ.
(49) المصدر السابق.
(50) المصدر السابق.
(51) المصدر السابق.
(52) موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. 37: 237.